الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الجعائل والحملان في السبيل

          ░118▒ (بَابُ الخُرُوجِ): أي: جواز خروج الإمام (فِي الفَزَعِ وَحْدَهُ): أي: منفرداً عن الناس. قال في ((الفتح)): كذا ثبتتْ هذه التَّرجمة بغير حديث، وكأنه أرادَ أن يكتبَ فيه حديث أنس المذكور من وجه آخر فاخترمته المنيَّة.
          وقال الكرمانيُّ: ويحتملُ أن يكون اكتفى بالإشارة إلى الحديث الذي قبله، وفيه بعدٌ، انتهى ما في ((الفتح)).
          واعترضَهُ العينيُّ فقال: سبحان الله الكرمانيُّ ذكر ثلاثة أوجهٍ فلم عيَّن الثالث لأجل الطَّعن فيه، وهلَّا ذكر الوجه الثاني مع أنَّه ذكره بتغييرِ عبارته، انتهى ملخصاً.
          وأقول: ذكر الثاني لكن ملخَّصاً؛ لأنه لا اعتراضَ عليه، وكان عليهما أن يعترضَا الأول وهو قوله: للإشعار بأنه لم يثبتْ فيه شيءٌ بشرطهِ، فإن خروجَه وحدَهُ يركضُ ثابتٌ عنده، كما ذكره في الباب قبله، ثم قال في ((الفتح)): وقد ضمَّ أبو علي بن شبويه هذه التَّرجمة إلى التي بعدها فقال: باب الخروجِ في الفزعِ وحدَهُ والجعائل... إلخ.
          قال: وليستْ في أحاديث باب الجعَائل مناسبة لذلك أيضاً إلا أنه يمكنُ حمله على ما قلت أولاً، انتهى.
          هذا ونقلَ في ((الفتح)) عن ابن بطَّال أنه قال: جملةُ ما في هذه التراجمِ أنَّ الإمام ينبغِي له أن يشحَّ بنفسه لما في ذلك من النَّظر للمسلمين إلا أن يكون من أهلِ الغناء الشديد والثَّبات البالغ، فيحتملُ أن يسوغَ له ذلك، وكان في النَّبي صلعم من ذلك ما ليس في غيرِهِ، ولا سيَّما مع ما علمَ أن الله تعالى يعصِمُه وينصُرُه، انتهى.
          وأقول: في دلالة التراجمِ على ما ذكره خفاءٌ، فليتأمل.
          ░119▒ (بَابُ الجَعَائِلِ): بالجيم، جمع: جعيلة أو جَعالة _بالفتح_،والجُعل _بالضم_ الاسم، وبالفتح المصدر، ويقال: جعلت لك جَعلاً وجُعلاً، وهو الأجرةُ على الشيء فعلاً أو قولاً، والمراد به ما يجعله القاعدُ من الأجرةِ لمن يغزو عنه.
          (وَالحُمْلاَنِ): بضم الحاء المهملة وسكون الميم، معطوف على الجعائلِ، وهو مصدر حمل بالتخفيف من باب ضرب حملاً وحملاناً.
          (فِي السَّبِيلِ): أي: سبيل الله، والمرادُ الجهادُ وهو متعلَّق بما قبله.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ): أي: ابن جبر المفسِّر ممَّا وصله المصنِّف بمعناه في غزوةِ الفتح (قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ): أي: ابن الخطَّاب (الغَزْوُ): بالرفع في الفرع مبتدأ خبرهُ محذوفٌ، نحو: أريده، أو مرَادي، وللكشميهني: <أنغزو> بهمزة الاستفهام فنون مضارع، وفي بعضِ الأصول: بنصب <الغزو> مفعولاً لمحذوف نحو: أريد الغزو، وثبت في بعض الأصول.
          وزاد في ((الفتح)): هو بالنصب على الإغراءِ، والتَّقدير: عليك الغزو.
          واعترضَهُ العينيُّ فقال: هذا لا يستقيمُ، ولا يصح معناه؛ لأن مجاهداً يخبر عن نفسهِ أنه يريد أن يغزو فطلبَ من ابن عمر ذلك بدليل / قوله:
          (قَالَ): أي: ابن عمر (إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ): بضم الهمزة (بِطَائِفَةٍ): أي: بحصة (مِنْ مَالِي): أي: ليكون لي ثواب الإعانة على الجهادِ (قُلْتُ): وفي بعضِ النُّسخ: <قد قلت> (أَوْسَعَ): ماض كأكرم؛ أي: وسع (اللَّهُ عَلَيَّ): بتشديد الياء (قَالَ): أي: ابن عمر (إِنَّ): بتشديد النون (غِنَاكَ): بكسر الغين المعجمة والمد (لَكَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِن مَالِي): أي: بعض مالي (فِي هَذَا الوَجْهِ): أي: في سبيل الله.
          وفيه المطابقة للتَّرجمة، وأنه لا يكره إعانة الغازي بنحو فرسٍ أو دراهِمَ.
          قال ابنُ بطَّال: إن أخرجَ الرجل من ماله شيئاً فتطوَّع به أو أعانَ الغازي على غزوهِ بفرس ونحوها فلا نزاعَ فيه، وإنما اختلفوا فيما إذا أجَّر نفسَه أو فرسَه في الغزو، فكرهَ ذلك مالك، وكرهَ أن يأخذَ جعلاً على أن يتقدَّم إلى الحصنِ، وكره أصحابُ أبي حنيفة الجعائلَ إلا إن كان بالمسلمين ضعفٌ، وليس في بيت المالِ شيءٌ وقالوا: إن أعانَ بعضُهم بعضاً جازَ لا على وجهِ البدلِ.
          وقال الشَّافعي: لا يجوزُ أن يغزو بجعلٍ يأخذُه، وإنما يجوزُ من السَّلطان دون غيره؛ لأنَّ الجهاد فرضُ كفايةٍ، فمن فعله وقعَ عن الفرض، ولا يجوز أن يستحقَّ على غيرهِ عوضاً، انتهى.
          ويؤيِّده ما رواه عبد الرَّزاق من طريق ابنِ سيرين، عن ابن عمر قال: يُمَتِّعُ القاعدُ الغازيَ بما شاءَ، فأمَّا أنه يبيعُ غزوه فلا.
          ومن وجهٍ آخر عن ابنِ سيرين سُئل ابن عمر عن الجعائل، فكرهَه وقال: أرى الغازي يبيعُ غزوه، والجاعلُ يفرُّ من غزوه قال: والذي يظهرُ أن البخاريّ أشار إلى الخلاف فيما يأخذُه الغازي هل يستحقُّه بسبب الغزو فلا يتجاوزُه إلى غيره، أو يملكه فيتصرَّف فيه بما شاء كما سيأتي.
          (وَقَالَ عُمَرُ): أي: ابن الخطَّاب ممّا وصَله المصنِّف في ((تاريخه)) بإسناد صحيحٍ، وابن أبي شيبة بسنده إلى عَمرو بن أبي قرة قال: جاءنا كتاب عمر بن الخطَّاب.
          (إِنَّ نَاسًا): وفي بعضِ النسخ: <أناساً> (يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا المَالِ لِيُجَاهِدُوا): منصوب بحذف النون (ثُمَّ لاَ يُجَاهِدُونَ): برفعه بثبوت النون (فَمَنْ فَعَلَهُ): أي: أخذ المال ولم يجاهدْ، ولأبي ذرٍّ: <فمن فعل> (فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ حَتَّى نَأْخُذَ مِنْهُ): أي: من ماله (مَا أَخَذَ): أي: الذي أخذه، وفيه دليل على أن كلَّ من أخذ مالاً من بيت المال على عمل إذا أهمل العمل ردَّ ما أخذ، وكذلك إذا أخذ منه على عمل لا يصلحُ له.
          (وَقَالَ طَاوُسٌ): أي: ابن كيسان (وَمُجَاهِدٌ): أي: ابن جبر المار (إِذَا دُفِعَ): بالبناء للمجهول (إِلَيْكَ شَيْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): والجملة صفة ((شيء)) أو مستأنفة.
          وجملة: (فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ): جواب إذا؛ أي: مما يتعلَّق بسبيل الله أو مطلقاً (وَضَعْهُ): بفتح الضاد المعجمة وسكون العين، أمر معطوف على فاصنع من عطف الخاص على العام (عِنْدَ أَهْلِكَ): أي: إن شئت، وكان سعيد بن المسيب يقول: إذا أعطي الإنسانُ شيئاً في الغزو إذا بلغتَ رأس مغزَاك فهو لك.
          قال في ((الفتح)): ويحتاجُ إلى تأويلِ ما ذهبَ إليه عُمر في الأمر المذكور بأن يحملَ على الكراهة.