الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب المزارعة]

          ♫
           ░░41▒▒كتابُ الحرْثِ والمُزَارعَةِ
          ░1▒ (باب فضْلِ الزَّرْعِ والغَرْسِ إذَا أكَلَ منْهُ) كذا في كثيرٍ من الأصولِ المعتمدةِ، وفي نسخة وعليها شرحُ العينيِّ: <كتاب المزارعَةِ، باب فضلِ الزَّرعِ والغرسِ إذا أكلَ منه)) وقدم في ((الفتح)) البسملةَ وأعقبَهَا بـ: <كتاب المزارعة> وبعده: <باب فضلِ الزرعِ والغرسِ إذا أكلَ منه>، / وقال كذا للنَّسفي والكشميهنيِّ إلَّا أنهما أخَّرا البسملةَ، قال: وزادَ النسفيُّ: <باب ما جاءَ في الحرثِ والمزارعةِ وفضلِ الزرعِ...> إلخ، قال: وعليها شرح ابن بطَّال، ومثله للأصيليِّ وكريمة إلَّا أنهما حذفا لفظ: <كتاب المزارعة>، وللمستمليِّ: <كتاب الحرثِ> وقدَّم الحمويُّ البسملةَ وقال: <في الحرثِ> بدل: ((كتاب الحرث))، ووقعت ترجمة القسطلانيِّ كشيخ الإسلام هكذا: <بسم الله الرحمن الرحيم، ما جاءَ في الحرثِ والمزارعَةِ، باب فضْلِ الزرعِ والغرسِ إذا أكلَ منه> ثم نقلَ روايات كثيرةٍ عن أبي ذرٍّ وغيرِهِ غير موضَّحة، فليراجعْ ولْيُتأمَّل.
          وقال شيخُ الإسلام: ونسخُ البخاريِّ هنا مختلفةٌ.
          وذكرَهَا ولا يترتَّبُ على ذلك كبيرُ فائدةٍ، ولنشرحْ على ما نقلنا أولاً فنقول: تقدَّم الكلام على البسملةِ وكتاب أوَّل الكتاب، وأمَّا الحَرْثُ فهو _بفتح الحاء المهملة وسكون الراء والمثلثة_ بمعنى: الزَّرع، ومنه قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78] وفعله حَرَثَ يَحْرُثُ من بابَ نَصَر يَنْصُر.
          وقال في ((القاموس)): الحَرْثُ الكسْبُ وجمع المال، والجمعُ بين أربع نسوةٍ، والنِّكاحُ بالمبالغة والمحجَّة المكدودَةِ بالحوافرِ والزَّرع، وتحريك النَّار والتَّفتيش والنَّفقة، انتهى.
          وأقولُ: من الحَرْثِ بمعنى: الكسْبِ والعملِ حديث: ((احرُثْ لدنيَاكَ كأنَّكَ تعيشُ أبداً، واعمَلْ لآخرتِكَ كأنَّك تموتُ غداً)).
          قال في ((النهاية)): في بيان معناه؛ أي: اعملْ لدنيَاكَ، يقال: حرثت واحترثْتَ، قال: والظَّاهر من مفهومِ الحديث بالنَّسبة للجزءِ الأوَّل منه الحث على عمارةِ الدُّنيا حتى ينتفِعَ بها من يجيءُ بعدك كما انتفعْتَ أنت بعملِ من كان قبلَكَ، وسكنْتَ فيما عمره فإن الإنسان إذا علمَ أنه يطولُ عُمُره أحكمَ ما يعمله وحرصَ على ما يكسِبُه، وأمَّا بالنَّسبة للجزءِ الثاني فإن الإنسانَ إذا علِمَ أنه يموتُ غداً يكثرُ من عبادتِهِ ويخلصُ في طاعتهِ، كما في الحديث الآخر: ((صلِّ صلاةَ مودِّع)).
          وقال بعضُ أهل العلم: المرادُ من هذا الحديث غيرُ ظاهرٍ؛ لأن النَّبي عليه السَّلام إنما ندَبَ إلى الزُّهدِ في الدُّنيا والتَّقليلِ منها، ومن الانهمَاكِ فيها والاستمتَاعِ بلذَّاتها وهو المعروفُ من أوامرِهِ ونواهيهِ فيما يتعلَّق بالدُّنيا فكيف يحثُّ على عمَارتِهَا والاستكثارِ منها، قال: وإنَّما أرادَ _والله أعلمُ_ أن الإنسانَ إذا علمَ أنَّه يعيشُ فيها أبداً قلَّ حرصُه وطلبُه؛ لأنَّه يعلمُ أنَّ ما يريدُهُ لا يفوتُه بتركِ الحرصِ عليه، والمبادرةِ إليه، فإنه يقول: إن فاتني اليوم أدركتَهُ غداً فإني أعيشُ أبداً، فقوله عليه السَّلام: ((اعمَلْ لدنياكَ كأنَّك تعيشُ أبداً)) أي: اعملْ عملَ من يظنُّ أنه يخلَّدُ فلا يحرصُ على العملِ فيكون حثًّا له على التركِ لها والتَّقلل منها بطريقةٍ أنيقَةٍ من الإشارة، فيكون أمره لعمل الآخرة على ظاهرِهِ فيجمعُ بالأمرينِ حالة واحدة وهو الزهدُ والتَّقلل منها قال: وقد اختصر معناه الأزهريُّ فقال: معناه تقديم أمرِ الآخرة وأعمَالها حذار الفوت بالموتِ على عمل الدُّنيا كراهيةَ الاشتغالِ بها عن عملِ الآخرة، انتهى ملخَّصاً فليتأمل.
          ومن الحرثِ بمعنى: التَّفتيش حديث: ((احرثُوا هذا القرآن)) أي: فتِّشُوه ونوِّروه، انتهى ملخَّصاً.
          وأمَّا المزارعةُ: فهي في الأصلِ مصدر زارعه، وشرعاً المعاملةُ على الأرضِ ببعض ما يخرجُ منها، والبذرُ من المالك فإن كان من العاملِ فهي المخابرَةُ، وسيأتي الكلامُ على المزارعةِ والمخابرَةِ بعد أبوابٍ.
          وقال العينيُّ: المزارعَةُ مفاعلةٌ من الزَّرع، والزِّراعة وهي الحرثُ والفلاحةُ وتسمَّى: مخابرةً ومحاقلةً، ويسميها أهلُ العراق: القراح.
          وفي ((المغرب)): القراحُ من الأرضِ كلُّ قطعةٍ على حيَالها ليس فيها شجرٌ ولا شائب سبخٍ، وتجمعُ على أقرحَةٍ، كمكان وأمكنةٍ، وفي الشَّرع: المزارعةُ عقدٌ على زرعٍ ببعض الخارجِ منها، انتهى.
          قوله: ((الزَّرع والغرس)) مصدران بمعنى: المزروع والمغروسِ، يقال: زَرَع الأرضَ، كمَنَع، طرحُ البَذْرِ / فيها كازدرعَ وزَرَع.
          زرعَ اللهُ الشيءَ: أنبتَهُ، ويقال: غرسَ زيدٌ الشَّجرَ يغرسُه أثبتَهُ في الأرضِ كأغرسَهُ، والغرسُ المغروسُ، والجمعُ أغراسٌ وغراسٌ، قاله في ((القاموس)).
          وفي قولهِ: زرعَ اللهُ الشَّيء: أنبتَهُ؛ وقفَةٌ؛ لأنه لا يطلقُ على اللهِ زارعٌ إلَّا على سبيلِ المقابلةِ؛ كقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64]، فتأمَّل.
          قوله: ((إذا أكلَ منه)) الظرفُ متعلِّقٌ بفضل فهو قيدٌ في فضلِ الزَّرعِ والغرسِ، وحصولُ الأجرِ بهما، قاله العينيُّ وغيره.
          والظاهرُ حصولُ الأجر بمجرَّد الفعلِ مع النيَّة الصَّالحة مُطلقاً سواء حصلَ الأكلُ منه أم لا، فلعلَّ تقييدُ المصنِّف بذلك تبعاً للحديثِ بيان للأكملِ.
          وقال في ((الفتح)): لا شكَّ أن الآيةَ تدلُّ على إباحةِ الزرعِ من جهةِ الامتنانِ به، والحديث يدلُّ على فضلهِ بالقيدِ الذي ذكرهُ، وقال ابنُ المنيِّر: أشار البخاريُّ إلى إباحةِ الزرعِ وأنَّ من نهى عنه كما وردَ عن عمرَ فمحله ما إذا أشغلَ الحرثَ عن الحربِ ونحوه من الأمورِ المطلوبةِ، وعلى ذلك يحملُ حديث أبي أمامةَ المذكور في الباب الذي بعدَه، انتهى.
          وأقولُ: في اقتصارِ ابن المنيِّر على أن البخاريَّ أشارَ إلى إباحةِ الزَّرع فيه شيءٌ، فإنَّه صرَّح بفضلِ الزَّرعِ والحرثِ بقيدِهِ.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بجرِّ ((قوله)) عطف على ((فضل))، ويجوز رفعُه عطف على باب، أو على أنَّه مبتدأٌ، وخبره محذوفٌ نحو ممَّا يتعلَّق بذلك، ولأبي ذرٍّ: <وقول الله> بالرفعِ على الاستئنافِ، كما قال القسطلانيُّ، ويجوزُ فيه ما قدَّمناه في روايةِ الأكثرين، فتأمَّل.
          ({أَفَرَأَيْتُمْ}) أي: أخبروني ({مَا تَحْرُثُونَ}) أي: تزرعونه ببذرِ حبِّه، و{ما} موصُولةٌ أو موصُوفة مفعول {أَفَرَأَيْتُمْ} ({أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ}) تنبتونه ({أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}) أي: المنبتون له.
          ({لَوْ نَشَاءُ}) أي: لو نريد ({لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً}) أي: لصيَّرناه هشيماً لا ينتفعُ به، وقيل: نبتاً لا قمحَ فيه، وفي بعض النسخِ زيادة: <{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُوْنَ}>.
          قال البيضاويُّ: وقرئ: ▬فظلتم↨ بالكسر و▬فظللتم↨ على الأصلِ، انتهى. وظل بمعنى: دامَ واستمرَّ؛ أي: فاستمرَّيتم تفكهون.
          قال البيضاويُّ: أي: تعجبونَ، أو تندمونَ على اجتهادِكُم فيه، أو على ما أصبتُم لأجلهِ من المعاصِي فتحدثون فيه، قال: والتَّفكُّه التنقُّل بصنوفِ الفاكهةِ فاستُعيرَ للتنقُّل بالحديثِ، انتهى.
          وقال العينيُّ: تفكَّهون؛ أي: تعجبُون، وقيل: تحزنُون، وهو من الأضدادُ تقول العرب: تفكَّهتُ؛ أي: تنعَّمْتُ وتفكهت؛ أي: حزنت، وقيل: التَّفَكه: التَّكلم فيما لا يعني، ومنه قيل للمزاحِ: فكاهةٌ، قال: وأخذُوا من قولهِ تعالى: {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] أنه لا يقولُ أحد زرعتُ، ولكن يقول: حرثْتُ.
          قال: وفي ((تفسير النسفي)) عن رسولِ الله صلعم: ((لا يقولنَّ أحدكُم زرعْتُ وليقلْ حرثْتُ)) قال أبو هُريرة: ألم تسمعوا قولَ اللهِ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] وهذا الحديثُ أخرجَه ابنُ أبي حاتم عن أبي هُريرة مرفوعاً، انتهى.
          وقد نسبَ اللهُ تعالى إلينا الحرثَ، وأمَّا الزرعُ فنسبَه إليه جلَّ وعلا معَ أن الأفعالَ كلَّها له تعالى؛ لأنَّ المراد بالزَّرعِ هنا الإنباتُ لا البَذْر وهو من خصائصِ القُدرةِ القديمةِ، وتقدَّم آنفاً عن ((الفتح)) وغيره أنَّ الآيةَ تدلُّ على إباحَةِ الحرثِ من حيثُ إنَّ الله تعالى امتنَّ بها.
          تنبيه: قال العينيُّ: وفي هذهِ الآية وفي الآياتِ التي قبلَهَا / ردٌّ وتبكيتٌ على المشركين الذين قالوا: نحن موجودون من نطفٍ حدثتْ بحرارةٍ كامنةٍ، وأنكروا البعثَ والنُّشورَ بأمور ذكرتْ فيها من جملتها قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}.