الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين}

          ░11▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالى) ولأبي ذرٍّ: <╡>؛ أي: في سورةِ براءةَ ({قُلْ}) أي: يا محمد ({هَلْ تَرَبَّصُونَ}) والأصلُ: تتربَّصونَ، بتاءين، فحُذفت إحداهما تخفيفاً؛ أي: ما تنتظِرون أيها المشركون ({بِنَا}) أي: بمعشرِ المسلمين شيئاً ({إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}) أي: العاقبتَين اللتَين كلٌّ منهما حُسنى العواقبِ، وهما: الظَّفَرُ بالعدوِّ والشِّهادةِ، والاستثناءُ من مقدَّرٍ عامٍّ، فـ{إِحْدَى} منصوبةٌ تقديراً، و{هَلْ} للنفيِ بمعنى: ما، كما أشَرْنا إليه، وسقطَ: <{قُلْ}> لغيرِ أبي الوقتِ، وجملةُ: ((والحربُ سِجالٌ)) حاليةٌ، و((سِجَالٌ)) بكسر السين المهملة وتخفيف الجيم، مصدرُ: ساجَلَه مُساجَلةً وسِجالاً، قال في ((القاموس)): ساجَلَه: باراه وفاخرَه، وهما يتَساجَلان: يتَباريان، انتهى.
          لكن قال البرماويُّ: السِّجالُ _بكسرِ السِّين_: المساواةُ في الأمرِ، إمَّا من جمعِ: سَجْلٍ؛ وهو: الدَّلوُ أو المساجَلةُ؛ أي: تارةً لهم وتارةً لخصمِهم، ففي غلَبةِ المسلمين للكفَّارِ يكونُ لهم الظفَرُ، وبالعكسِ تكونُ الشهادةُ للمسلمين، وبهذا يتبيَّنُ كما في ((الفتح)) مناسَبةُ قولِ المصنِّفِ: ((والحربُ سِجالٌ))، وهذا مطابقٌ لمعنى الآيةِ، وكلُّ فتحٍ أو غنيمةٍ يقعُ إلى يومِ القيامةِ، فهو من إحدى الحسنيَينِ، وكلُّ قتيلٍ يقتَلُ في سبيلِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ، فهو من إحدى الحسنيَينِ، وإنما يبتلِي الله تعالى الأنبياءَ عليهم السلامُ، وكذا خيارَ عبادِه ليُعظِّمَ لهم الأجرَ ولمَن معهم، ولا تنخرقُ العادةُ الجاريةُ بين الخلقِ، ولو أرادَ اللهُ خَرقَها لَأهلَكَ الكفَّارَ والمفسِدينَ جميعاً بغيرِ حربٍ.
          تنبيه: يأتي: ((سِجالٌ)) بكسرِ الجيمِ، جمعُ: سَجْلٍ _بفتحها_؛ وهو الدلوُ إذا كانت مملوءةً أو قريبةَ الامتِلاءَ، ولا يقالُ للفارغةِ: سَجْلٌ، كذا في الشرَّاحِ، لكن قال في ((المصباح)): السَّجلُ كفَلْسٍ: الدَّلوُ العظيمُ، وبعضُهم يزيدُ: إذا كانت مملوءةً، وفي ((القاموس)): السَّجلُ: الدلوُ العظيمُ مملوءةً، مذكَّرٌ، وملء الدلوِ، والرجلُ الجوادُ، والضَّرعُ العظيمُ، والجمعُ: سِجالٌ وسُجولٌ.