الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {فإما منًا بعد وإما فداءً}

          ░150▒ (بابٌ) بالتنوين؛ أي: هذا بابٌ يُذكرُ فيه قولُه تعالى: ({فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4]) وقدَّرَه العينيُّ ومَن تبعه: هذا بابٌ يُذكرُ فيه التَّخييرُ بين المنِّ والفداءِ في الأسرى؛ لقولهِ تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ولعلَّ ما قدَّرناه أَولى، فتدبَّر.
          وأولُ الآية: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4] فقوله:{فإمَّا} _بكسر الهمزة_ أداةُ شرطٍ وتفصيلٍ، والفاءُ للسببية و{مَنًّا} و{فِدَاءً} منصُوبان على المفعوليَّة المطلقةِ لفعليهما المحذوفين وجوباً؛ أي: فإمَّا تمنُّون منًّا بعد؛ أي: بعد الأسرِ المعبَّرِ عنه بشدِّ الوثاقِ، وإمَّا تفدون فداءً؛ أي: بعده.
          قال البيضاويُّ: والمرادُ التخييرُ بعد الأسر بين المنِّ والإطلاقِ، وبين أخذِ الفداءِ، قال: وهو ثابتٌ عندنا، فإنَّ الذَّكرَ الحرَّ المكلَّف إذا أُسِر يُخيَّر الإمامُ فيه بين القتلِ والمنِّ والفداءِ، والاسترقاقُ منسوخٌ عند أبي حنيفةَ أو مخصُوصٌ بحرب بدرٍ، فإنه قال بتعيينِ القتلِ أو الاسترقاقِ، قال: ▬وقُرئَ فَدى↨ كعَصى. انتهى.
          وقال الضَّحَّاك كما في ابن بطَّالٍ: إنها ناسخةٌ لقولهِ تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] ومثلُ هذا يروى عن ابن عمرَ قال: أليسَ بهذا أمرَنا اللهُ؟ قال: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] وهو قولُ عطاءٍ والشُّعبي والحسنِ البصري، وكرهوا قتلَ الأسير وقالوا: مُنَّ عليه أو فادِه، وبمثلِ هذا استدلَّ الطَّحاويُّ فقال: ظاهرُ الآية يَقتضِي المنُّ أو الفداءُ ويمنعُ القتلَ. انتهى.
          وقال ابن بطَّالٍ أيضاً: اختلفَ العلماءُ / في حُكم الأسرَى من أجل اختلافِهِم في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فقال السُّدي وابنُ جُريجٍ: نسخَها قولُه تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقال قتادةُ: نسخَها: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57].
          وقال الطبريُّ: رويَ عن أبي بكرٍ الصِّديق أنه قال: لا يُفادى بأسيرِ المشركين وإنْ أُعطيَ فيه كذا وكذا مدياً من مالٍ.
          وقال الزهريُّ: كتب عمرُ بن الخطاب: اقتلوا كلَّ مَن جرتْ عليه الموسى، وهو قولُ الزهريِّ ومجاهدٍ؛ لقولهِ تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} الآية فغيرُ جائزٍ لأحدٍ أنْ يتقدَّمَ على فعله وسنةِ الله تعالى في أهل الكفر إنْ كانوا مِن أهل الأوثانِ، فقتلهم على كلِّ حالٍ؛ لقوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] الآية، وإنْ كانوا مِن أهل الكتابِ حتى يُسلموا أو يُعطوا الجزيةَ، فأمَّا إطلاقهم على فداءٍ يُؤخذ منهم فلا يجوزُ؛ لأنه تقويةٌ لهم. انتهى فاعرفْه.
          وقال غيرُهُ: وعن بعضِ السَّلفِ أنَّ الآيةَ منسُوخةٌ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية، والأكثرون على أنها محكمةٌ.
          وقال بعضُهم _كالحسنِ البصريِّ وعطاء_:لا تُقتل الأسرَى بل لتخيير الإمامِ بين المنِّ والفداءِ، ولا يجوز القتلُ، والأكثرونَ وهو قولُ أكثرِ السَّلفِ على التَّخيير بين المنِّ والفداءِ والقتلِ والاسترقاقِ.
          وقال أبو بكر الرَازي: احتجَّ أصحابُنا لكراهةِ فداءِ المشركين بالمالِ بقولهِ تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68] الآية، ولا حجَّةَ لهم في ذلك؛ لأنَّه كان قبل حلِّ الغنيمة، وأمَّا بعد حلِّها فلا كراهةَ فيه.
          وقال العينيُّ: وقال أصحابُنا: لا يجوزُ مفاداةُ أسرى المشركين، قال تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [التوبة:29] الآية قال: وأمَّا ما وردَ في أسرى بدرٍ كلُّه منسوخٌ لاتفاقِ أهلِ التَّفسير ونقلةِ الآثار أنَّ سورةَ براءة بعد سُورةِ محمَّد، فيجبُ أنْ يكونَ الحكمُ المذكور فيها ناسخاً للفداءِ المذكورِ في غيرها، انتهى.
          وفي ((التنوير)) وشرحهِ للعلائي: وحرمَ فداؤهم بعد تمامِ الحربِ، أمَّا قبله فيجوزُ بالمالِ لا بالأسيرِ المسلم، وقالا: يجوزُ، وهو أظهرُ الرِّوايتين عن الإمامِ، واتَّفقوا على أنه لا يُفادِي بنساءٍ وصبيان وخيلٍ وسلاحٍ إلا لضَرورةٍ. انتهى.
          (فِيهِ) أي: يدخلُ في هذا الباب (حَدِيثُ ثُمَامَةَ) بضمِّ المثلثة وتخفيف الميمين بينهما ألفٌ وبعد الثانية هاءُ تأنيثٍ؛ أي: ابن أُثال _بضمِّ الهمزة وتخفيف المثلثة_ من بني حنيفةَ أسلمَ بعد ربطهِ في المسجدِ، وثبتَ على الإسلام لمَّا ارتدَّ أهلُ اليمامَةِ، ثم شهدَ مع العلاء بنِ الحضرميِّ قتالَ الحطمِ، فانهزمَ المشركون وقتل الحطمُ، فأعطى لغلامِهِ خميصَةً له ولبسها، فلمَّا رآه قومُ الحطمِ وعليه الخميصةُ قالوا: أنت قتلتَ الحطمَ؟ قال: لم أقتلْه ولكني اشتريتُ خميصةً من المغنمِ، فقتلوهُ ولم يسمعوا منه.
          وقد ذكر حديثَه المصنِّف في مواضع:
          منها في كتاب الصَّلاةِ في باب ربط الأسيرِ في المسجدِ.
          ومنها في وفدِ بني حنيفةَ في المغازي ولفظُه هناك: بعثَ النبيُّ صلعم خيلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فجاءتْ برجلٍ من بني حنيفةَ يُقال له ثُمامةُ بن أُثالٍ، فربطوهُ بسَاريةٍ من سواري المسجدِ، فخرجَ إليه النبيُّ صلعم فقال: ((ما عندَكَ يا ثُمامةُ؟)) / فقال: عندي خيرٌ يا محمدُ، إنْ تقتلْنِي تقتلْ ذا دمٍ، وإنْ تُنعِمْ تُنعمْ على شاكرٍ، وإنْ أنت تريد المالَ فسَلْ منه ما شئتَ، حتى كانَ الغدُ، ثم قال له: ((ما عندك يا ثُمامةُ؟)) قال: ما قلتُ لك: إنْ تُنعمْ تُنعمْ على شاكرٍ، فتركه حتى كانَ بعد الغدِ فقال: ((ما عندك يا ثُمامةُ؟)) فقال: عندي ما قلتُ لك، فقال:((أطلقوا ثُمامةَ)) الحديث.
          وفي قوله:((أطلقوا ثُمامةَ)) المطابقةُ للترجمة، فإنه عليه السَّلام أطلقه ومَنَّ عليه بلا مالٍ ولم ينكرْ عليه التَّقسيم، وهذا يؤيد قولَ الجمهور أنَّ الأمرَ في أسارى الكفَّار من الرجال الأحرار إلى الإمام يفعلُ ما هو الأحظُّ للإسلام والمسلمين.
          وعن مالكٍ كما في ((الفتح)) لا يجوز المنُّ بغير فداءٍ، وعن الحنفيَّةِ لا يجوز المنُّ أصلاً لا بفداءٍ ولا بغيره لئلا يردَّ الأسير حربيًّا.
          وأقول: يحتاجان إلى الجواب عن حديث ثُمامةَ، وفي ابن بطَّالٍ: قال ابن القصار: ومما يُردُّ به على أبي حنيفةَ إن اتفقنا معه على أنَّ مكةَ فُتحتْ عنوةً، وأنَّ نبيَّ الله منَّ عليهم بغير شيءٍ كما فعلَ بثمامةَ.
          (وَقَوْلُهُ) وفي بعضِ الأصول: <وقولُ الله> بالرفع عطف على ((حديث))؛ أي: وفي الباب قوله: (╡) أي: في أواخر سورة الأنفال ({مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال:67] الآيَةَ) سببُ نزول الآية لمَّا جاؤوا بأسارى بدرٍ وفيهم العباسُ وعقيل وغيرهما، وكانوا سبعين أسيراً، فاستشارَ النبيُّ عليه السَّلام أصحابَه فيهم، فقال عمرُ: هم أئمةُ الكفرِ، واللهُ أغناكَ عن الفداء، فاضربْ أعناقَهُم، وقال أبو بكرٍ: هم قومُك وأهلُك لعلَّ اللهَ أنْ يتوبَ عليهم، خذْ منهم فديةً تقويِّ بها أصحابُك، فقبَّل رسولُ الله صلعم الفدَاءَ وعَفا عنهم، والقصَّةُ مبسُوطةٌ في التَّفاسير وفي المغازي.
          ومعنى الآيةِ ما جازَ لنبيٍّ من الأنبياءِ عليهم السَّلام أنْ يأخذَ أسارى ولا يقتلهم، وزاد أبو ذرٍّ وكريمة قبل لفظ الآية:<{حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} يعنِي: يغلب في الأرض {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الآية> كذا في ((الفتح)) وتفسيرُ يُثخنَ بمعنى يغلبَ، قاله أبو عبيدة، وزاد: ويبالغَ، وعن مجاهدٍ: الإثخانُ: القتلُ، وقيل: المبالغةُ فيه، وهو ما زاد أبو عبيدة، وقيل: حتى يتمكنَ في الأرضِ وتكثرَ أتباعه.
          قال في ((الفتح)): وأصلُ الإثخانِ في اللغة: الشدَّةُ والقوَّة، وقال البيضاويُّ في تفسير: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} أي: حتى يُكثرَ القتلَ ويُبالغَ فيه، حتى يذلَّ الكفرَ ويقلَّ حزبَه، ويعزَّ الإسلامَ ويستولي أهله، مِن أثخنَه المرضُ: إذا أثقلَه، وأصلُه الثَّخانة، وقرئ: ▬يُثخَّنَ↨ بالتشديد للمبالغة.
          وقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أي: حطامَها بأخذكم الفداءَ، واللهُ يريد الآخرةَ؛ أي: ثوابها أو سبب نيلِ الآخرة مِن إعزازِ دينِهِ وقمع أعدائهِ، وقُرئ بجرِّ الآخرةِ على حذف المضافِ وإبقاء المضَاف إليه على حاله، كقوله:
أكُلَّ امْرِئٍ تَحْسَبينَ امْرَءاً                     وَنَارٍ تَوقَّدُ باللَّيلِ نَاراً
          {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي: فيغلِّب أولياؤه على أعدائهِ {حَكِيمٌ} قال البيضاويُّ: أي: يعلم ما يليقُ به بكلِّ حالٍ، ويخصُّه بها، كمَا أمرَ بالإثخانِ ومنعَ مِن الافتداءِ حين كانتْ الشَّوكة للمُشركين، وخيَّرَ بينه وبين المنِّ لما تحوَّلت الحالُ وصارتْ الغلبةُ للمؤمنين.
          وأقول: فيه إشارةٌ إلى أنَّ الآياتِ محكمةٌ ولا نسخَ فيها، بل هي محمولةٌ على أحوالٍ يأتي قريباً بيانُها.
          ومثله قول ((الفتح)): وأشارَ البخاريُّ بهذه الآيةِ إلى قولِ مجاهدٍ وغيره ممَّن منعَ أخذَ الفداء من أسرى الكفَّار، وحجتُهم منها أنَّه تعالى أنكرَ إطلاقَ أسرى كفارِ بدرٍ على مالٍ، فدلَّ على عدمِ جواز ذلك بعد، واحتجُّوا بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] فلا يُستثنى من ذلك إلَّا مَن يجوز أخذُ الجزيةِ منه.
          وتقدَّم أنَّ الضَّحاكَ قال: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ناسخٌ لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
          وقال أبو عبيدٍ: لا نسخَ في شيءٍ من هذه الآيات، بل هي محكمةٌ؛ وذلك أنَّه صلعم عمل بما دلتْ عليه كلُّها في جميع أحكامه، فقتل / بعضَ الكفَّار يوم بدرٍ وفدى بعضاً، ومنَّ على بعضٍ، وكذا قتلَ بني قُريظةَ ومَنَّ على بني المصطلقِ، وقتل ابنَ خطل وغيره بمكةَ ومَنَّ على سائرهم، وسبى هوازن ومَنَّ عليهم، ومَنَّ على ثمامةَ بنِ أُثالٍ، فدلَّ كلُّ ذلك على ترجيحِ قول الجمهور أنِّ ذلك راجعٌ إلى رأي الإمام من الأمورِ الثلاثةِ أو الأربعة، أو اثنين على ما تقدَّمَ مِن اختلافِ الأئمة.
          وأمَّا النساءُ والصبيانُ _أي: والمجانين_ فيرقون بنفسِ الأسر، وتجوزُ مفاداةُ الأسيرِ المسلمِ أو الأسيرةِ المسلمة بأسيرةٍ كافرةٍ وبالعكسِ، ولو أسلم الأسيرُ البالغُ قبل ضربِ الرقِّ عليه أو المفاداة لا يجوز قتلُه اتِّفاقاً، وهل يصيرُ رقيقاً أو تبقَى فيه الخصَال؟ قولان: أصحُّهما تبقَى فيه الخصالُ.