الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

كتاب التفسير

          ♫
          ░░65▒▒ (كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ):كذا لأبي ذَرٍّ، ووقعَ لأبي الوقتِ كذلك إلَّا أنه أخَّرَ البسملةَ، ووقعَ لغيرهِمِا: <كتاب التفسير، بسم الله الرحمن الرحيم> وروايةِ أبي ذَرٍّ أولى، ولم يقصد البخاريُّ بهذه التَّسميةِ ما وقعَ أوَّلَ الفاتحَة، بل جرى على عادتِهِ من الإتيانِ بها للتَّبرُّكِ في أوَّلِ الأبوابِ والكتبِ عملاً بما وردَ فيها من أحاديثَ، وإن لم تكُنْ على شرطِ صحيحِهِ، منها ما مرَّ أوَّلَ هذا الشَّرحِ ممَّا رواهُ أبو داود وغيره عن أبي هريرةَ وحسَّنَهُ ابنُ الصَّلاحِ وغيره، من قوله ╕: ((كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأُ فيه ببسمِ اللهِ الرحمن الرحيم، فهو أبتَر)) وفي روايةٍ: ((فهو أجذَمُ)) وفي أُخرَى / : ((فهو أقطَع)) أي: ناقصُ البركةِ، أو لا بركةَ فيه أصلاً.
          ويحتمل أن يريدَ البخاريُّ بهذه التَّسميةِ ما وقعَ أوَّل الفاتحةِ، وقد يدلُّ لذلك تعرُّضُهُ للكلامِ على ((الرحمن الرحيم)) وكذا تأخِيرُ البسملةِ أول التَّرجمةِ على ما وقَعَ في غير روايةِ أبي ذَرٍّ، فتأمَّل.
          وتخصيصُ التَّسميةُ بهذه الأسماء الثَّلاثة ليعلَمَ العارِفُ كما قال البيضَاويُّ وغيره: أنَّ المستَحِقَّ لأن يُستعانَ به في مجامعِ الأمورِ كلِّها هو المعبُودُ الحقيقيُّ الذي هو مولى الأمورِ جميعها، عاجِلِها وآجِلِها جليلها وحقيرِهَا، فيتوجَّهُ بشراشرِهِ إلى جنابِ القدسِ، ويتمسَّكَ بحبلِ التَّوفيقِ، ويشتغلُ سرُّهُ بذكرِهِ واستلذاذُهُ به عن غيرِهِ، انتهى.
          ولم يقلِ البخاريُّ: باب ما جاء في بسمِ الله الرحمن الرحيم، أو في البسملةِ، كما قال: باب ما جاءَ في فاتحةِ الكتابِ؛ لأنَّه لم يثبُتْ فيها عندَهُ حدِيثٌ على شرطهِ من نحو ما رواهُ الواحِديُّ في كتابه ((أسباب النزول)) بسندهِ إلى ابنِ عبَّاس ☻ أنَّه قال: أوَّل ما نزلَ به جبرِيلُ ◙ على النَّبيِّ صلعم، قال: يا محمَّد، استعِذْ ثمَّ قلْ: بسمِ الله الرحمن الرَّحيمِ، وما رواهُ أيضاً فيه عنه قال: كان رسولُ الله صلعم لا يعرفُ ختم السُّورةِ حتى ينزلَ عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، وما رواهُ أيضاً فيه بسندِهِ عن ابن عمرَ ☻، قال: نزلَتْ: بسم الله الرحمن الرحيم في كلِّ سورةٍ.
          وتقدَّمَ الكلامُ على البسمَلةِ أوَّلَ هذا الشَّرحِ بما يُغنِي عن إعادتِهِ، ونتكلَّمُ الآنَ على كلامِ البُخاريِّ، فنقولُ: التَّفسيرُ؛ أي: تفسيرُ القرآنِ كما في الرِّوايةِ الأُخرَى، وهو مصدَرُ فسَّرْتُ الشَّيءَ بتشديدِ السِّين المهملةِ بيَّنتُهُ، كفَسَرْتُهُ مخففاً، لكن مصدر المخفَّفِ: الفَسْرُ، بفتحِ الفاء وسكون السِّين المهملة، وهما لغةً بمعنَى: الكشفُ والبيانُ، واصطلاحاً: علمٌ يُعرفُ به معانِي القرآن العظيمِ.
          وأصلُ الفَسْرِ كما في ((الفتح)) وغيره: نظرُ الطَّبيبِ إلى بولِ المريضِ ليعرفَ علَّتَهُ كالتفسِرَةِ، وقيل: التَّفسِرَةُ: البولُ نفسُهُ، وقيل: هي مولدةٌ، وقيل: التَّفسيرُ مأخُوذٌ من فسرْتُ الفَرسَ: إذا ركضتُهَا محصورةً لينطلِقَ حصرُهَا، وقيل: فسرتُ مقلوبٌ من سفرت، كجذبْتُ وجبذْتُ تقول: سفرَ فلانٌ: كشفَ وجهَهُ، ومنه: أسفرَ الصُّبحُ إذا أضاءَ.
          وسَفَرَ المجرد من باب: ضَرَبَ ونَصَرَ، كما في ((القاموس)).
          واختُلِفَ في التَّفسيرِ والتَّأويل، فقال أبو عُبيدةَ وطائِفةٌ: هما بمعنى واحدٍ، وقيل: التَّفسيرُ: بيان المرادِ من اللَّفظِ، والتَّأويلُ: بيان المرادِ من المعنَى، وفي ((حواشي البيضَاويِّ)): يطلقُ التَّفسيرُ على بيانِ معنَى كلامِ الله، ويقابلُهُ: التَّأويلُ: وهو ما كان بطريقِ الدِّرايَةِ / ، ويطلقُ على بيانِ معناه مطلقاً، وعلى ذكرِ ما يتوقَّفُ عليه ذلك، وقال أبو العبَّاسِ الأزديُّ: النَّظرُ في القرآنِ من وجهين:
          أحدهما: من حيثُ هو منقُولٌ، وهو التَّفسيرُ، وطريقُهُ الرِّوايةُ والنَّقلُ.
          وثانيهما: من حيثُ هو معقُولٌ، وهو التَّأويلُ، وطريقُهُ الدِّرايَةُ من العقلِ، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]، ولا بدَّ فيه من معرفةِ اللِّسانِ العربيِّ، فيعرفُ الكلمَةَ وشرحَهَا من لغةٍ وإعرابٍ، ثم ينتقلُ لمعرفةِ معناها ظاهراً وباطناً فيوفِّي لكلٍّ منهما حقَّهُ، وقال بعضُ المحقِّقين: التَّفسيرُ: علْمٌ يُعرَفُ به فهْم كتابِ الله تعالى المنزَّلِ على رسولِهِ ◙ المتعبَّدُ بتلاوتِهِ من بيانِ أوامرِهِ ونواهِيهِ وغيرهما، واستمدادُ ذلك من علمِ النَّحوِ واللُّغةِ والصَّرفِ والبيانِ وأصولِ الفقهِ والكلامِ والقراءَاتِ، ويحتاجُ إلى معرفةِ أسبابِ النُّزولِ، ومعرفةِ الاطِّلاعِ على عجائِبِ كلامِهِ تعالى، وامتثالِ أوامرِهِ ونواهِيهِ.
          وقال القاضِي أبو بكر بن العربيِّ في ((قانون التأويل)): إنَّ علومَ القرآنِ خمسون علْماً وأربعمائة وسبعة آلاف وسبعون ألف علْمٍ على عددِ كلْمِ القرآنِ مضروبةً في أربعةٍ، إذ لكلِّ كلمةٍ بطنٌ وظهرٌ وحدٌّ ومقطَعٌ، وهذا بقطعِ النَّظرِ عن اعتبارِ تراكيبِهِ، وما بينها من روابطَ مما لا يحصيهِ ولا يعلمُهُ إلا اللهُ تعالى، نعم أُمُّ علومهِ ثلاثةٌ: توحيدٌ ووعظٌ وحكْمٌ، ومن ثم سمِّيَتِ الفاتحةُ أم القرآنِ وأم الكتابِ؛ لاشتمالها على هذه الثَّلاثة، ولذا كانَتْ سورةُ الإخلاصِ ثلثَهُ لاشتمالِهَا على التَّوحيدِ فقط.
          وقال ابنُ جريرٍ: أمُّ العلومِ ثلاثةٌ: التَّوحيدُ والأخبارُ والدِّياناتُ، وعبارةُ النجم الغيطي في رسالتِهِ المتعلِّقةِ بالكلامِ على ليلةِ النِّصفِ من شعبانَ: وقال بعضُ الأئمَّةِ: القرآنُ يحتوي على سبعةٍ وسبعينَ ألف ومئتي علْمٍ، وذلك لأنَّ عددَ كلم القرآنِ تسعةَ عشرَ ألف كلمة وثلاثمائة كلمةٍ، فإذا كان لكلِّ واحدةٍ منها ظَهرٌ وبطنٌ وحدٌّ ومقطَعٌ، حصلَ من ذلك سبعةٌ وسبعونَ ألف ومئتا علْمٍ، بل علومُ الأوَّلينَ والآخرين موجُودةٌ في الكتابِ العظيمِ بدليلِ قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقال ابنُ عبَّاس ☻: من أرادَ علم الأوَّلينَ والآخرينَ فليؤثرِ القرآنَ، وقال ابنُ مسعودٍ: من أرادَ العلْمَ فعليهِ بالقرآنِ، فإنَّ فيه خبرُ الأوَّلينَ والآخرينَ، قال البيهقيُّ: يعنِي: أصُولُ العلمِ.
          وذكر كثيرٌ من المفسِّرينَ منهم الفخرُ الرَّازي: أنَّ في بعضَ الآثارِ: إنَّ الله جمعَ علومَ الأوَّلين والآخرينَ في الكتبِ الأربعةِ، وجمعَ علومَ الكتب الأربعةِ في القرآنِ، وجمع علومَ القرآنِ في الفاتحةِ، قال: ومن هنا نقلَ العارفُ أبو محمَّد بن أبي جمرةَ عن عليٍّ / ☺ أنَّه قال: لو شئتَ أن أوقر سبعينَ بعيراً من تفسيرِ أمِّ القرآن لفَعلتُ، قال: وبيانُ ذلك أنَّه إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] يحتاجُ إلى بيانِ معنى: {الحَمْدُ} وبيان ما يتعلَّقُ به الاسمُ الجليلُ الذي هو ((الله))؛ أي: ونعتُهُ بالـ{رَبِّ} وما يليقُ به من التَّنزيهِ، ثم يحتاجُ إلى بيانِ العالَم وكيفيَّة جميعِ أنواعِهِ وأعدادِهِ وهو ألفُ عالَمٍ، أربعمائةٍ في البَرِّ، وستمائة في البحرِ، فتحتاجُ إلى بيان ذلك كلِّهِ ثم تبيين بقيَّةِ آيات الفاتحةِ على نحوِ ذلك.
          ثمَّ قال: وعلى هذه الوجُوهِ يكون ما قالَهُ عليٌّ ☺ من هذا قال: وهذا بحسبِ ما ظهرَ لهذا القائِلِ من تبيينِ هذا الأمرِ، وإن كان فهْمُ عليٍّ ☺ وتفسيرُهُ وراءَ ذلك بمراحِلَ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] انتهت.
          ونحوهُ في ((شرح الهمزية)) لابن حجرٍ المكِّيِّ ثمَّ قال: وقال الشَّافعيُّ ☼: جميعُ ما تقوله الأمَّةُ شرحٌ للسُّنَّة، وجميعُ السُّنَّة شرحٌ للقرآنِ، وقال أيضاً: جميعُ ما يحكمُ به النَّبيُّ ◙ مما فهمَهُ من القرآنِ، وقال بعضُهُم: ما من شيءٍ في العالمِ إلا وهو في القُرآنِ، فقيل له: أين ذكرُ الخاناتِ فيه؟ فقال: في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور:29].