الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب المظالم]

          ♫
          ░░46▒▒ كِتَابُ الْمَظَالِمِ
          (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابُ الْمَظَالِمِ).
          (فِي المَظَالِمِ وَالغَصْبِ) كذا للمُستمليِّ، وسقَطَ: <كتاب> لغيرِه، وللنَّسفيِّ: <كتابُ الغصْبِ، بابٌ في المظالِمِ> كذا في ((الفتح))، ومثلُه في القسطلانيِّ، ولكنَّه قال: وسقَطَ حرفُ الجرِّ لأبي ذرٍّ وابنِ عساكرَ، فـ<المظالم> بالرفع، و<الغصب> عطفٌ عليه، وسقَطَ: <كتاب> لغيرِ المستمليِّ، وقال: وللنَّسفيِّ: <كتابُ الغصبِ، بابٌ في المظالمِ>، والأمرُ في ذلك سهلٌ، لكنَّ نسخةَ: <بسمِ الله الرحمن الرحيم، كتابُ المظالِمِ، في المظالِمِ والغصبِ> أو بحذفِ: ((في)) فيها شيءٌ؛ لأنَّ إثباتَ: ((المظالم)) ثانياً لا حاجةَ إليه، سواءٌ ذكَرَ معه: ((في)) أو لا، ولم يبيِّنوا وجهَ رفعِ: ((المظالم))، هل هو بالابتدائيَّةِ أو بالخبريَّةِ، فتأمَّل.
          وفي بعضِ الأصولِ: <كتابُ المظالِمِ والغصبِ> وعليها شرحَ ابنُ بطَّالٍ.
          و((المظالم)) جمعُ: مظلِمةٍ _بكسر اللام وفتحها_ كما قاله الجوهريُّ، واقتصرَ في ((المصباح)) و((القاموس)) على كسرِ اللامِ، وعبارةُ ((القاموس)): والمظلِمةُ _بكسر اللام وكثُمَامة_: ما يظلِمُه الرَّجلُ، وكأنَّ مستندَهما في تعيينِ الكسرِ ما نقلَه أبو عُبيدٍ عن ابنِ القُوطيَّةِ أنَّ العربَ لا تقولُ: مظلَمةً بفتحِ اللامِ، بل بكسرِها، انتهى.
          وقال العينيُّ: ((المظالم)) جمعُ: مَظلِمةٍ، مصدرٌ ميميٌّ، من: ظلَمَ يظلِمُ ظُلْماً، وأصلُه: الجَورُ ومجاوزةُ الحدِّ، ومعناه الشَّرعيُّ: وضعُ الشَّيءِ في غيرِ مَوضعِه الشَّرعيِّ، وقيل: التَّصرُّفُ في مِلكِ الغيرِ بغيرِ إذنِه، قال: والمظلِمةُ أيضاً: اسمُ ما أُخذَ منك بغيرِ حقٍّ.
          قال: وفي ((المغرِب)): المظلِمةُ: الظُّلمُ، واسمٌ للمأخوذِ منك في قولِهم: عند فلانٍ مَظلَمَتي وظُلامَتي؛ أي: حقِّي الذي أُخِذ منِّي ظُلماً، والغصبُ: مصدرُ: غصَبَه؛ أخذَ مالَ الغيرِ ظُلماً وعُدواناً؛ وقيل: هو الاستيلاءُ على مالِ الغيرِ ظُلماً؛ وقيل: أخذُ حقِّ الغيرِ بغيرِ حقٍّ، انتهى.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بجرِّ: ((قولِ)) عطفاً على: ((المظالمِ))، وفي بعضِ الأصولِ: برفعِه عَطفاً على: ((كتابُ))، أو مبتدأٌ خبَرُه محذوفٌ، نحوُ: ممَّا يتعلَّقُ بذلك ({وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}) قال في ((الفتح)) كذا لأبي ذرٍّ، وساقَ / غيرُه الآيةَ.
          فقولُه تعالى: {ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إن كان الخطابُ بالنَّهيِ لرسولِ الله صلعم، فالمرادُ منه: الدَّوامُ على ما كانَ عليه من أنَّهُ لا يظُنَّ الله غافلاً عمَّا ذكَرَ، كقولِه تعالى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14] وإن كان الخطابُ بذلك لغيرِه ممَّن يُظنُّ به الغفلةُ عمَّا ذكَرَ، فالنَّهيُ على ظاهرِه، أو المرادُ: ولا تحسَبَنَّه يعامِلُهم معامَلةَ الغافلِ عما يعملون فيُهمِلَهم، ولكن يُعامِلُهم معامَلةَ الرَّقيبِ على صَنيعِهم، المحاسِبِ لهم على القليلِ والكثيرِ؛ لأنَّه يُحصيه عليهم، لا يغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، فهو وعيدٌ لهم.
          وعن ابنِ عُيينةَ: هذه الآيةُ تسليةٌ للمظلومِ وتهديدٌ للظَّالمِ.
          ({إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ}) بالياء، وعن أبي عمرٍو _كما في البيضاويِّ_: ▬إنما نؤخرهم↨ بالنون؛ أي: إنما نؤخِّرُ عذابَهم والانتقامَ منهم، وعلى قراءةِ أبي عمرٍو؛ ففي الآيةِ التِفاتٌ ({لِيَوْمٍ}) أي: يومَ القيامةِ ({تَشْخَصُ فيه الْأَبْصَارُ}) أي: أبصارُهم، فلا تقَرُّ في أماكِنِها من شدَّةِ هَولِ ما ترى، وأشار تعالى إلى بيانِ كيفيَّةِ قيامِهم من قبُورِهم ومَجيئهِم إلى المحشَرِ بقوله: ({مُهْطِعِينَ}) أي: مُسرِعينَ إلى الدَّاعي، أو مُقبِلين بأبصَارِهم لا يطرِفونَ هيبةً وخوفاً، و{مُهْطِعِينَ} حالٌ، جمعُ: مُهطِعٍ، من الإهطَاعِ؛ وهو: الإسراعُ والإقبالُ، ومُجرَّدُه: هَطَعَ.
          ففي ((القاموس)): هطَعَ _كمنعَ_ هَطْعاً وهُطُوعاً، أسرعَ مُقبِلاً خائفاً، أو أقبَلَ ببصرِهِ على الشَّيءِ، لا يُقلِعُ عنه، انتهى.
          ({مُقْنِعِي رُؤوسِهِمْ}) أصله: مُقنِعين، جمعُ: مُقنِعٍ، فحذفتِ النونُ للإضافةِ (رَافِعِي) أي: رؤُوسِهم، فـ((رافعي)) تفسيرٌ لـ{مُقْنِعِي} (والْمُقْنِعُ) بكسر النون (وَالْمُقْمِحُ) بالميم والحاء المهملة (وَاحِدٌ) أي: ومعناهما متَّحدٌ؛ وهو: رَفعُ الرَّأسِ، وهذا تفسيرُ أبي عُبيدةَ في ((المجازِ))، وقال في ((القاموس)): أقمَحَ رأسَه: رفَعَ وغَضَّ، وبأنفِه: شمَخَ، انتهى.
          وقولُ المصنِّفِ: ((واحدٌ)) خبرُ: ((المقنِعُ)) و((المُقمِحُ)) على حذفِ المضافِ، وقال في ((الفتح)): سقطَ للمستمليِّ والكُشميهنيِّ قولُه: <رافِعي رؤوسِهم>، وهو تفسيرُ مجاهدٍ، أخرجَه الفِريابيُّ من طريقِه، وهو قولُ أكثرِ أهلِ اللُّغةِ والتفسيرِ، وكذا قال أبو عُبيدةَ في ((المجازِ))، واستشهَدَ بقولِ الرَّاجزِ:
أَنهضَ نَحوِي رأسَه وأقنَعا                     كأنَّما أبصرَ شيئاً أطمَعا
          وحكى ثعلبٌ أنَّه مشترَكٌ، يقالُ: أقنَعَ؛ إذا رفَعَ رأسَه، وأقنَعَ إذا طأطَأَ، قال: ويحتمِلُ أن يُرادَ الوجهانِ، بأن يرفَعَ رأسَه ينظُرَ، ثم يطَأطِئَه ذلًّا وخضوعاً، وقال القسطلانيُّ: وسقطَ قولُه: ((المقنِعُ...)) إلخ، في روايةِ غيرِ المستملي والكُشميهنيِّ، وزاد أبو ذرٍّ هنا: <بابَ قِصاصِ المظالِمِ>، انتهى.
          وظاهرُ قولِه: وزادَ... إلخ. أنَّ زيادةَ: <بابُ قِصاصِ المظالِمِ> قبل قولِه: ((وقالَ مجاهدٌ)) فيكونُ قبل تتميمِ الكلامِ على الآيةِ، وظاهرُ صَنيعِ ((الفتح)) أنَّ زيادةَ البابِ بعد الآيةِ، وهو الأنسَبُ، لكن رأيتُ في نسخةٍ كما قال القسطلانيُّ، ثم رأيتُ في نسخةٍ أخرى صحيحةٍ مثلَ ما في ((الفتح))، فنَجري على الأنسبِ، فنقولُ قولَ المصنِّفِ.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مُهْطِعِينَ} مُدِيمِي النَّظَرِ) بتحتية قبل الميم الثانية، وهذا التعليقُ وصلَه الفِريابيُّ، كما في ((الفتح)) وفي نسخةٍ: <مُدمِني النظرِ> بنون بعد الميم (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غيرُ مجاهدٍ في تفسيرِ: {مُهْطِعِينَ} (مُسْرِعِينَ) وفي بعض النُّسخِ: <ويقالُ: مسرِعين>، وقال في ((الفتح)) في قولِه: ((وقالَ مجاهدٌ)) إلى هنا: ثبَتَ هذا لغيرِ أبي ذرٍّ، وقال أيضاً: وأما تفسيرُ غيرِه، فالمرادُ أبو عبيدةَ أيضاً، واستَشهَدَ عليه، قال: وهو / قولُ قَتادةَ، والمعروفُ في اللغةِ، ويحتملُ أنَّ المرادَ الأمرانِ كما مرَّ، وقال ثعلَبٌ: المُهطِعُ: الذي ينظُرُ في ذلٍّ وخشوعٍ، لا يُقلِعُ بصَرَه.
          ({لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}) أي: بصَرُهم، بل تبقى عيونُهم شاخِصةً لا تطرِفُ لشدَّةِ ما هم فيه من الهَولِ والفِكرةِ والمَخافةِ لِما يحِلُّ بهم، وقيل: لا يرجِعُ إليهم نظرُهم لينظُروا في أنفُسِهم ({وَأَفْئِدَتُهُمْ}) جمعُ: فؤادٍ؛ أي: وقلوبُهم ({هَوَاءٌ}) بالمد (يَعْنِي: جُوْفَاءَ) بضم الجيم وسكون الواو وبالفاء، جمعُ: أجوَفَ (لَا عُقُولَ لَهُمْ) أي: لفَرْطِ الحيرةِ والدَّهشةِ لهم، وعن ابنِ جُريجٍ: (({هَوَاء}))؛ أي: صِفْرٌ من الخيرِ خاليةٌ عنه، وهو تشبيهٌ محضٌ؛ لأنها ليست بهواءٍ حقيقيةً، وجهةُ التشبيهِ: فراغُ القلوبِ من العقلِ أو الخيرِ أو الرَّجاءِ والطمعِ في رحمةِ اللهِ.
          وقال الكرمانيُّ: والهواءُ: الخَلاءُ الذي لم تشغَلْه الأجرامُ؛ أي: لا قوَّةَ في قلوبِهم ولا جرأةَ، وعبارةُ البيضاويِّ: {هَوَاءٌ}: خَلاءٌ؛ أي: خاليةٌ عن الفهمِ لفَرْطِ الحيرةِ والدهشةِ، ومنه يقالُ للأحمقِ والجبانِ: قلبُه هَواءٌ؛ أي: لا رأيَ فيه ولا قوَّةَ، قال زهيرٌ:
من الظِّلْمانِ جُؤجؤُه هَواءُ
          انتهى.
          ومثلُه قولُ حسَّانَ:
ألَا أبلِغْ أبا سُفيانَ عنِّي                     فأنتَ مُجَوَّفٌ نَخُبٌ هَواءُ
          ({وَأَنْذِرْ النَّاسَ}) أي: خوِّفهم يا محمدُ ({يَومَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ}) يعني: يومَ القيامةِ، أو يومَ الموتِ، فإنه أوَّلُ أيامِ عذابِهم، فـ((يومَ)) مفعولٌ ثانٍ لـ(({أنذِرْ}))، لا ظرفٌ له؛ لأنَّ القيامةَ ليست بمحلِّ الإنذارِ ({فَيَقُوْلُ الَّذِينَ ظَلَمُوا}) أي: بالشِّركِ والتَّكذيبِ ({رَبَّنَا أَخِّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ}) أخِّرِ العذابِ عنَّا، ورُدَّنا إلى الدُّنيا، وأمهِلْنا إلى أمدٍ من الزمانِ قريبٍ، أو أخِّرْ آجالَنا وأبقِنا مِقدارَ ما نؤمنُ بك، ونستدرِكُ ما فرَّطنا فيه.
          وإلى ذلك يشيرُ قولهم: ({نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ}) جوابٌ للأمرِ، نظيرُ: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].
          وقوله: ({أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ من زَوَالٍ}) توبيخٌ لهم على إرادةِ القولِ؛ أي: قائلين: ما لكم من زَوالٍ، و{مِنْ} زائدةٌ، و{مَا لَكُمْ} جوابُ القسَمِ، جاء بلفظِ الخطابِ على المطابَقةِ دونَ الحِكايةِ، وإلا لقالوا: ما لنا من زَوالٍ، والمعنى: أقسمتُم أنكم باقون في الدُّنيا، لا تَزالونَ بالموتِ والفَناءِ، وقيل: المعنى: أقسمتُم أنَّكم لا تنتقِلونَ إلى دارٍ أخرى، بل إذا مِتُّم لا تزولونَ عن تلك الحالةِ، كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38] وقولُهم ما ذكَرَ، إمَّا بألسنتِهم بطَراً وأشَراً لِما استَولى عليهم من السَّفَهِ والجهلِ، وإما بلسانِ حالِهم؛ حيثُ بنَوا بناءً كثيراً، وأحكَمُوه إحكاماً شديداً، وأمَّلُوا بعيداً.
          ({وَسَكَنْتُمْ في مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}) أي: بالكفرِ والمعاصي؛ كعادٍ وثمودَ، وأصلُ: سكَنَ، أن يُعدَّى بــ((في))؛ لأنَّه بمعنى: أقامَ، ونحوِه، وقد يُستعمَلُ بمعنى: التَّبوُّءِ، فيتعدَّى بنفسِهِ، نحو: سكَنتُ الدارَ.
          ({وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}) أي: بما تشاهدون في منازلِهم من آثارِ ما نزَلَ بهم، وبما تواتَرَ عندكم من أخبارِهم ({وَضَرَبْنَا لَكُمْ الْأَمْثَالَ}) أي: وبيَّنَّا لكم أنَّكم مثلُهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ، أو صفاتِ ما فعَلوا وفُعِل بهم التي هي في الغَرابةِ كالأمثالِ المضروبةِ ({وَقَد مَكَرُوا مَكْرَهُمْ}) أي: مكرَهم العظيمَ الذي استفرَغوا فيه جُهدَهم لإبطالِ الحقِّ وتقريرِ الباطلِ.
          ({وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ}) أي: مكتوبٌ عنده فعلُهم، فهو مُجازيهِم عليه بمَكْرٍ هو أعظمُ منه، أو عنده ما يمكُرُهم به؛ / وهو: عذابُهم الذي يستحِقُّونَه ({وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ}) أي: بالنَّبيِّ عليه السلام، أو بأعمَّ منه في العِظَمِ والشِّدَّةِ ({لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}) يُسَوَّى لإزالةِ الجبالِ معَدًّا لذلك، وقيل: {إِنْ} نافيةٌ، واللام مؤكِّدةٌ لها؛ كقولِه تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيْعَ إِيمَانَكُمْ} والمعنى: ومُحالٌ أن تَزولَ الجِبالُ بمَكرِهم، على أنَّ الجبالَ مثَلٌ لآياتِ الله وشرائعِهِ؛ لأنَّها بمنزِلةِ الجبالِ الرَّاسيةِ ثَباتاً وتمكُّناً، وتنصُرُه قراءةُ ابنِ مسعودٍ: ▬وما كانَ مَكرُهم↨، وقُرئَ: ▬لَتَزولُ↨ بلام الابتداء على معنى: وإن كانَ مَكرُهم من الشِّدَّةِ بحيثُ تَزولُ منه الجبالُ، وتنقطِعُ عن أماكنِها.
          وقال ابنُ الملقِّنِ: وقرأ الكسائيُّ: ▬لَتزولُ↨ بفتح اللام الأولى ورفع الثانية؛ أي: وإن كان مَكرُهم تَكادُ تزولُ منه الجبالُ؛ تعظيماً لمكرِهم، وقرئَ: ▬كاد↨ بالدالِ بدلَ النونِ، وقال: إنَّ نُمروداً لمَّا اطَّلعَتْ به النُّسورُ بعد أن علَّق لها نيِّئَ اللحمِ في الرِّماحِ استَعلى، قيل له: أين تريدُ أيُّها الفاسقُ، فأُهبِطَ؛ وهو قولُه تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ...} الآيةَ، {والجِبَالُ} جبالُ الأرضِ، أو الإسلامُ والقرآنُ؛ لأنَّه في ثبوتِه كالجبالِ، انتهى.
          ({فلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}) يعني: بقولِه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51]، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] وأصلُه: مُخلِفَ رسُلِه وعدَه، فقدَّم المفعولَ الثانيَ على الأولِ إيذاناً بأنه لا يُخلفُ الوعدَ أصلاً، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9] وإذا لم يُخلِفْ وعدَه أحداً، فكيف يُخلفُ رسُلَه ({إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}) أي: غالبٌ لا يُماكَرُ، قادرٌ لا يُدافَعُ ({ذُو انْتِقَامٍ}) أي: لأوليائهِ من أعدائهِ.