الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب الجهاد والسير]

          ♫
          ░░56▒▒ كِتَابُ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ
          (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، كِتَابُ الجِهَادِ) كذا للنَّسفيِّ، وقدَّم ابنُ شَبُّويه: <كتاب الجهاد> على البسملةِ، وسقطَ الجميعُ للبَاقين، واقتصَرُوا على: <باب فضلِ الجهَاد> إلا القَابسِي فإنَّه قال: <كتاب فضلِ الجهادِ> ولم يقلْ: باب، ثمَّ قالَ بعدَ أبوابٍ كثيرةٍ: <كتاب الجهادِ، باب دعاءِ النبيِّ صلعم إلى الإسلامِ> قالهُ في ((فتح الباري)).
          ووقعَ في نسخِ القسطلَّاني: <كتاب الجهادِ والسِّير، بسمِ الله الرَّحمن الرَّحيم>، قدَّم النَّسفيُّ البسملةَ، وسقطَ <كتاب> والترجمة لأبي ذرٍّ، كما في الفرْع وأصلهِ: <باب فضلِ الجهادِ والسِّير> سقطَ لأبي ذرٍّ لفظ: <باب>، وحينئذٍ فقوله: (فضل) رُفِعَ بالابتداء، انتهى.
          والأَوْلى جعله خبراً لمحذوفٍ، ولا يقال: الأَوْلى إسقاطُ: ((والسِّير)) ثانياً؛ لأنَّ الأوَّل مذكورٌ لبيانِ أصل السِّير والجهَادِ، والثَّاني مذكورٌ لبيانِ فضْلهِمَا، فافهم.
          وهذا الكتابُ _كمَا قال العينيُّ ورأيناهُ_ مذكورٌ هنا في جميعِ نُسخ البخاريِّ وشروحهِ إلَّا ابن بطَّال فإنَّه ذكرهُ عقبَ الحجِّ والصَّومِ قبلَ البيوعِ، وذكرَ هنا بدله: ((كتاب الأحكامِ)).
          والجِهادُ _بكسر الجيم_:في الأصلِ مصدر جاهدْتُ العدوَّ مجَاهدَةً وجِهاداً.
          قال شيخُ الإسلامِ ومَن تبعَه: وأصلُه جِيهَاد كقِيتال، فخففَ بحذفِ الياء، انتهى.
          وأقولُ: ظاهرُ كلامِ كثيرين كالألفيَّة وشروحِهم أنَّه أصلٌ لكن في ((شرح التوضيح)) للشَّيخِ خالد ما يُوافق ما قاله شيخُ الإسلامِ حيث قال: وأصلُ الفِعال هنا الفِيعال، وقد قالوا: ضَاربٌ ضِيرَاباً، وقاتل قيتالاً، انتهى.
          قال شيخُ الإسلامِ: والجِهَادُ مشتَقٌّ من جَهد _بفتحِ الجيمِ_ وهو النَّصَبُ والمشقَّة، وبضمها وهو الطَّاقةُ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): الجِهَاد _بكسرِ الجيمِ_ أصله لغةً: المشقَّة، يقال: جهدْتُ جِهاداً: بلغتُ المشقَّة، وشرعاً: بذلُ الجُهدِ في قتالِ الكفَّار، ويُطلقُ أيضاً على مجاهدَةِ النَّفسِ والشَّيطانِ والفسَّاقِ، فأمَّا مجاهدةُ النَّفسِ فعلى تعلُّم أمورِ الدِّين، ثمَّ على العملِ بها، ثمَّ على تعليمِهَا، وأمَّا مجاهدةُ الشَّيطانِ فعلى دفْعِ ما يأتي بهِ من الشُّبهاتِ، وما يُزيِّنه من الشَّهواتِ، وأمَّا مجاهدةُ الكفَّارِ فيقعُ باليدِ والمالِ واللسانِ والقلبِ، وأمَّا مجاهدةُ الفسَّاقِ فباليدِ ثمَّ اللسانِ ثمَّ / القلبِ، وقد روى النَّسائي من حديث سَبْرة _بفتح السِّين المهملةِ وسكونِ الموحَّدة_ ابن الفاكِهِ _بالفاءِ وكسرِ الكافِ بعدها هاء_ في أثناءِ حديثٍ طويلٍ: قال: ((فيقولُ _أي: الشيطان يخاطبُ الإنسانَ_:تجاهِدُ فهو جَهْد النَّفس))، انتهى.
          (وَالسِّيَرِ) عطف على ((الجهاد)) من عطفِ العامِّ على الخاصِّ، وهو بكسرِ السِّين المهملةِ وفتحِ المثنَّاة التحتيَّة، جمع سِيْرة، وهي الطَّريقةُ، وغلبتْ في ألسنةِ الفقهاءِ على المغازِي.
          وقال في ((الفتح)): وأُطْلقتْ على أبوابِ الجهادِ؛ لأنَّها متلقَّاة من أحوالِ النبيِّ صلعم في غزواتِهِ، انتهى.
          وقال ابنُ حجرٍ المكي في ((التحفة)): والمقصُودُ من ذكرهَا بالأصَالةِ الجهَاد، وإن جزمَ الزَّركشيُّ بأنَّ وجُوبَه وجُوبُ الوسَائلِ لا المقاصدِ، إذ المقصُودُ منه الهدايةُ، ومن ثمَّ لو أُمْكِنَتْ بإقامةِ الدَّليلِ كانت أَوْلى منه.
          وقوله: إذ المقصُود الهدايةُ؛ لا يرِدُ عليه أنهم لو بذَلوا الجزيةَ لزمَ قبُولها؛ لأنَّ هذا خاصٌّ بمَن تُقبَلُ منه على أنَّ هدايتَهُم لا سيَّما على العمومِ بمجرَّد إقامةِ الدَّليلِ نادرةٌ جدًّا بل محالةٌ عادةً فلم ينظرُوا إليها، فكانَ الجهَادُ مقصُوداً لا وسيلةً، كما هو ظاهرُ كلامِهِم، وترجمُوا بها لاشتمَالها على الجهَادِ وما يتعلَّقُ به المتلقِّي تفصيلَ أحكامِهِ من سيرتهِ عليه الصَّلاة والسَّلام في غزواتهِ.
          والأصلُ في الجهَادِ _قبلَ الإجماعِ_ آيات كقولهِ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] وقوله: {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] وأحاديثُ كقولهِ عليه الصَّلاة والسَّلام فيما رواه الشَّيخان وغيرُهما: ((أمرْتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتَّى يقولوا: لا إلهَ إلَّا الله)).
          تنبيه: في الترجمةِ حذفٌ، والأصلُ: باب بيانِ أحكامِ الجهَادِ والسِّير، وذلك لأنَّ الجهَادَ في عهدِه عليه الصَّلاة والسَّلام _كما قالَ ابنُ حجرٍ المكِّي في ((التحفة))_ كان في أوَّلِ الإسلامِ ممنُوعاً منه؛ لأنَّ الذي أمرَ به عليه السَّلام قبلَ الهجرةِ هو التَّبليغُ والإنذارُ، والصَّبرُ على أذى الكفَّارِ تألُّفاً لهم، قال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ثمَّ بعدَ الهجرةِ أَذِن الله للمسلمين بالقتالِ لمن ابتدأهُم به بعدَ أن نهَى عنه في نيِّفٍ وسبعين آية بقولهِ تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] بل هي أوَّل آية نزلتْ في الإذنِ بقتالِ الكفَّار، كما صحَّ عن الزهريِّ، وقالَ تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190].
          ثمَّ أباحَ تعالى الابتداءَ به في غيرِ الأشهرِ الحرمِ؛ لقولهِ تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] ثمَّ في السَّنة الثَّانيةِ بعد الفتحِ أُمِرَ به على الإطلاقِ بقولهِ تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] وهذهِ آية السَّيف، وقيل: التي قبلها _أي: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}_ وقيل: هما، ثمَّ في السَّنة الثَّانيةِ بعد الفتحِ أُمرَ به على الإطلاقِ.
          وأمَّا بعدَه عليه الصَّلاة والسَّلام فللكفَّار حالان:
          أحدهما: أن يكونُوا ببلادِهِم؛ فالجهَادُ حينئذٍ يكونُ فرضَ كفايةٍ إجماعاً، ويحصلُ إمَّا بتشْحِين الثُّغورِ، وهي محَالُّ الخوفِ التي تلِي بلادهُم بمكافئين لهم لو قصَدُوها مع إحكامِ الحصُونِ والخنَادِقِ وتقليدِ ذلك للأمراءِ المؤتمنين المشهُورين بالشَّجاعةِ والنُّصحِ للمسلمين، وإمَّا بأنْ يدخلَ الإمامُ أو نائبُه بشرطِه دارهُم بالجيوشِ لقتَالهم، وظاهرٌ / أنَّه إن أمكنَ بعثهَا في جميعِ نواحِي بلادِهِم وجبَ، وأقلُّه مرَّة في كلِّ سنةٍ، فإذا فعله من فيهِم كفَاية سقطَ الحرجُ عن الباقين.
          ثانيهما: أنْ يدخُلوا بلدةً لنا فيلزمُ أهلَها الدَّفعُ بالممكنِ، فإن أمكنَ تأهُّبٌ لقتالٍ وجبَ الممكنُ حتَّى على فقيرٍ وولدٍ ومَدِين وعبدٍ بلا إذنٍ، وفي ذلك تفصيلٌ وبسطٌ في كتبِ الفروعِ والسِّير.
          ░1▒ (باب فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ) سقطَ لأبي ذرٍّ لفظ: <باب>، فيكون ((فضلُ)) مرفوعٌ، وتقدَّم توجيهُهُ أوَّل الكتابِ (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بجرِّ ((قولِ)) ورفعِه، ولأبي ذرٍّ: <╡> بدلَ: ((تعَالى)) والآيتان اللَّتانِ ذكرَهما البُخاريُّ في أواخرِ سُورة براءةَ، وهما قوله تعالى: ({إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآيتين إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}) قالَ في ((الفتح)): كذا للنَّسفيِّ وابن شَبُّويه، وساقَ في روايِة الأصيليِّ وكريمةَ الآيتين جميعاً، وعندَ أبي ذرٍّ إلى قولهِ: <{وَعْداً عَلَيهِ حَقّاً}> ثمَّ قال: <إلى قوله: {وَالْحَافِظُينَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}> لا يخفى ما في الآية الأولى من الاستعارةِ على أهلِ الذَّوقِ والإشارةِ.
          قال أهلُ التَّفسيرِ: هذا تمثيلٌ لإثابةِ الله إيَّاهُم بالجنَّة على بذلِهِم أنفسَهُم وأمْوالهُم في سبيلهِ، فشبَّه ذلكَ بالشِّراءِ وأغلى لهم الثَّمنَ، وجعلَ لهم الصَّفقتين معاً، كما قال عُمر، وعن الحسنِ: أنفساً هو خلقَها وأموالاً هو رزقَها، والمعنى: طلبَ من المؤمنين أن يبذلوا أنفسَهُم وأموالهُم في الجهَادِ في سبيل اللهِ؛ ليثيبَهُم الجنَّة، وهذا على سبيلِ التفَضُّل منه تعالى؛ لأنَّ الأنفسَ والأموالَ كلَّها للهِ، وهي عندَ العبادِ عاريةٌ، ولكنَّه تعالى أرادَ التَّحريضَ والحثَّ على الجهَادِ، فهذا كقولهِ تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245] فله الحمدُ والشُّكرُ على ما أنعمَ بهِ تعالى.
          روى محمَّد بنُ كعبٍ القُرَظيُّ: لما بايعَتْ الأنصارُ رسولَ الله صلعم ليلةَ العقبةِ بمكَّة وهُم سبعونَ نفساً، قال عبدُ الله بنُ رواحَةَ: يا رسولَ الله، اشترط لربِّك ولنفسِكَ ما شئتَ، قال: ((أشترطُ لربِّي أنْ تعبدُوهُ ولا تشركُوا به شيئاً، وأشترطُ لنفسِي أن تمنعُوني ممَّا تمنعُونَ منه أنفسَكُم وأموَالكُم)) قالوا: فإذا فعلنَا ذلك فما لنا؟ قال: ((لكم الجنَّة)) قالوا: ربحَ البيعُ، لا نقيلُ ولا نستقيلُ، فنزلَتْ الآيةُ.
          وزادَ في ((الكشاف)): ومرَّ برسولِ الله صلعم أعرابيٌّ وهو يقرؤها، فقال: كلامُ مَن؟ قال: ((كلام الله)) قال: بيعٌ واللهِ مُرْبحٌ، لا نقيلُه ولا نستقيلُه، فخرجَ إلى الغزوِ واستشهدَ.
          ونقلَ الخفاجيُّ عن ((الكشاف)) أنه قال: لا نرَى ترغيباً في الجهَادِ أحسنَ ولا أبلغَ من هذه الآية؛ لأنه أبرزَهُ في صورةِ عقْدٍ عاقدَهُ ربُّ العزَّة، وثمنُه: ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعَتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، ولم يجعلْ المعقودَ عليه كونهم مقتولين فقط بل إذا كانُوا قاتلين أيضاً لإعلاءِ كلمَتهِ ونصرِ دينهِ، وجعله مسجلاً في الكتبِ السَّماويَّةِ، وناهِيك به من صكٍّ، وجعل وعدَه حقًّا، ولا أحد أوفى من واعده، فنسيئتُهُ أقوَى من نقدِ غيرهِ، وأشارَ إلى ما فيه من الرِّبح والفوزِ العظيمِ، وهو استعارةٌ تمثيليَّة، صوَّر جهادَ المؤمنين وبذْلَ أموالهم وأنفسِهِم وإثابةَ اللهِ لهم / على ذلك الجنَّةَ بالبيعِ والشِّراء، وأتى بقوله: {يُقَاتِلُونَ} إلخ بياناً لمكان التَّسليمِ، وهو المعركةُ، وإليه الإشارةُ بقولهِ صلعم: ((الجنَّة تحتَ ظلالِ السُّيوفِ)) ثمَّ أمضَاه بقوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] انتهى.
          وقرأَ الأعمشُ: ▬بالجنة↨ بدل: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} ذكره البغويُّ.
          ({يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}) أي: لإعلاءِ كلمتهِ تعالى لا لغرضٍ دنيويٍّ من مالٍ أو افتخارٍ أو اشتهارٍ ({فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}) ببناءِ الأوَّل للفاعلِ والثاني للمفعولِ لأكثرِ القراءِ، وقرأ حمزةُ والكسَائي بالعكسِ ولا مُنافاة؛ لأنَّ الواو لا تفيدُ ترتيباً على الصَّحيحِ.
          وجملة: {يُقَاتِلُونَ} استئنافٌ لبيان ما لأجلهِ الشِّراء، وقيل: إنها في معنى الأمر، وفي الآية دليل على أنَّ فعل البعضِ قد يُسند إلى الكل ({وَعْداً عَلَيْهِ}) مصدرٌ مؤكد لوعدٍ مقدَّراً مدلولٌ عليه بـ{اشْتَرَى} ({حَقّاً}) نعت {وَعْداً}؛ أي: ثابتاً كالحقِّ اللازمِ على الإنسانِ ({فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}) أي: أنَّ هذا الوعدَ الذي وعدَه للمجَاهدِين في سبيلِهِ وعدٌ ثابتٌ مذكورٌ في هذه الكتبِ الثَّلاث التي هي أعظمُ كُتبِ اللهِ ({وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}) أي: لا أحدَ أعظمٌ وفاءً بما عاهدَ عليه من اللهِ، فإنَّه لا يخلفُ الميعادَ.
          قال البيضَاويُّ: هو مبالغةٌ في الإيجازِ، وتقرير لكونه حقًّا.
          ({فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}) قال البيضَاويُّ: فافرحُوا غايةَ الفرحِ، فإنَّه أوجبَ لكم عظائمَ المطالبِ، كما قالَ تعالى: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] قال في ((الفتح)): والمرادُ بالمبايعَة في الآيةِ ما وقعَ في ليلةِ العقبةِ من الأنصَارِ، أو أعمُّ مِن ذلك، وقد وردَ ما يدلُّ على الاحتمالِ الأوَّل عند أحمدَ عن جابرٍ، وعندَ الحاكمِ في ((الإكليل)) عن كعبِ بن مالكٍ، وفي مرسلِ محمَّد بنِ كعبٍ: قال عبدُ الله بنُ رواحَةَ: يا رسولَ اللهِ، اشترط لربك... إلى آخر ما قدَّمناهُ قريباً.
          ({التَّائِبُونَ}) رفعَ على المدْحِ؛ أي: هُم التَّائبونَ عن الكفْرِ على الحقيقَةِ، وقيلَ: رفعَ بدلاً من الضَّميرِ في {يُقَاتِلُونَ} والمرادُ بهم المؤمنون المذكورونَ، ويجوزُ أن يكونَ مبتدأ خبرُه محذوفٌ تقديرهُ: التَّائبون من أهلِ الجنَّة، أو لهم الجنَّة وإن لم يجاهدُوا؛ لقولهِ: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95] أو خبرُه ما بعدَه؛ أي: الناسُ التَّائبون عن الكفرِ على الحقيقةِ هم الجامعونَ لهذه الخصَالِ، وقرأَ ابنُ مسعود وأُبي ☻: ▬التائبين↨ وما بعدَه إلى قوله: ▬والحافظين↨ بالياء نصباً على المدحِ أو جراً صفةِ للمؤمنين.
          ({الْعَابِدُونَ}) أي: الذين عبدُوا اللهَ مخلصينَ له ({الْحَامِدُونَ}) أي: لنعمَائهِ، أو لما يأتيهِم في السَّراء والضَّراء ({السَّائِحُونَ}) أي: الصَّائمون؛ لقولهِ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((سياحةُ أمَّتي الصَّوم)) شبَّه بها؛ لأنه يعوقُ عن الشَّهوات، أو لأنَّه رياضةٌ نفسانيَّة يتوصَّلُ بها إلى الاطلاعِ على خفَايا الملكِ والملكوتِ، أو السَّائحونَ للجهَاد، أو لطلبِ العلمِ.
          ({الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}) أي: في الصَّلاة ({الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}) أي: بالإيمانِ والطَّاعة ({وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}) أي: الشِّركِ والمعاصِي، والعاطفُ فيه للدَّلالة على أنَّه بما عطفَ عليه في حكمِ خصلة واحدةٍ، كأنه قال: الجامعون بينَ الوصفَين.
          وفي قوله: ({وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}) أي: فيما بيَّنه / وعيَّنه من الحقائقِ والشَّرائع للتنبيهِ على أنَّ ما قبله مفصل الفضائلِ وهذا مجملها، وقيل: إنه للإيذانِ بأن التِّعدادَ قد تمَّ بالسَّابع من حيث أن السَّبعة هو العددُ التَّام، والثامنُ ابتداء تعدادٍ آخر معطوفٍ عليه، ولذلك تسمَّى واو الثَّمانية ({وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112]) يعني بهِ هؤلاء الموصُوفين بهذهِ الفضَائل ووضعَ المؤمنين موضعَ ضَميرهِم للتَّنبيه على أنَّ إيمانهم دعاهُم إلى ذلك، وأنَّ المؤمنَ الكاملَ من كانَ كذلك، وحذفَ المبشَّر به للتَّعظيمِ كأنَّه قيل: وبشَّرهم بما يجلُّ عن إحاطةِ الأفهَامِ وتعبيرِ الكلامِ، انتهى.
          والآيتانِ دالَّتانِ على فضْلِ الجهَادِ، فالمطابقةُ للترجمةِ الثَّانية ظاهرةٌ، ويدلُّ على فضلهِ أيضاً أحاديثُ كثيرةٌ صحيحةٌ سيأتي بعضُها، وأخذَ منها ابنُ أبي عصرون أنَّ الجهَادِ أفضلُ الأعمَالِ بعد الإيمان، واختارهُ الأذرعيُّ، وأوَّل الأكثرونَ الأحاديثَ الدَّالة لذلك بحملهَا على خصُوصِ السَّائل أو المخاطبِ أو الزمنِ، كذا في ((التحفة)).
          (قَالَ) وفي بعضِ الأصُولِ: <وقال> (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ممَّا وصلهُ ابنُ أبي حاتمٍ عنه في تفسيرِ قولهِ تعَالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} (الْحُدُودُ: الطَّاعَةُ) مبتدأٌ وخبرٌ، قال في ((الفتح)) وغيره: وكأنَّه تفسيرٌ باللازمِ؛ لأنَّ من أطاعَ اللهَ وقفَ عند امتثالِ أمرهِ واجتنابِ نهيهِ، وإلَّا فحدودُ اللهِ تعالى أحكامُه التي حدَّها.