الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب في اللقطة]

          ♫
          ░░45▒▒كِتَابٌ فِي اللُّقَطَة
          (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فِي اللُّقَطَة) وفي بعضِ النُّسخِ تأخيرُ البسمَلةِ، وفي بعضٍ آخرَ إسقاط: <في> و<إذا أخبرَ ربُّ اللُّقطةِ>، وفي النُّسخةِ المقروءةِ على الميدوميِّ: ((باب إذا أخبرَهُ ربُّ اللُّقطةِ)) وفي نسخةٍ: <صاحب> بدل: ((رب))، وهما بمعنى.
          وقال القسطلانيُّ: ولغيرِ المستمليِّ والنَّسفي: <بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، باب في اللُّقطةِ وإذا أخبرَ رب اللُّقطة... إلخ>.
          وقال العينيُّ: <بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، كتاب في اللُّقطة> هكذا وقعَ للمستمليِّ والنَّسفيِّ، وكذا وقعَ في كتابِ ابنِ التين وابن بطَّال، وتبعهُمَا على ذلك صاحبُ ((التَّلويح))، وفي روايةِ البُلقينيِّ: ((بسمِ الله الرَّحمن الرَّحيم، باب إذا أخبرَ ربُّ اللُّقطةِ بالعلامَةِ دفعَ إليه)) انتهى.
          والَّذي عزاهُ في ((الفتح)) للنَّسفيِّ والمستمليِّ: <كتابُ اللُّقطة> بدون ((في))، والَّذي رأيتهُ في نسخةِ ابن بطَّالٍ: ((كتابُ اللُّقطة، باب إذا أخبرَ ربُّ اللُّقطةِ بالعلامةِ دُفِعَتْ إليه))، انتهى فليتأمَّل.
          هذا الاختلافُ في النَّقل على أنَّ الأمرَ في ذلك سهلٌ فنقول: اللُّقَطة _بضم اللام وفتح القاف_ على المشهورِ عند اللُّغويين والمحدِّثين، بل قال عياضٌ: لا يجوزُ غيره اسمٌ للشَّيء الذي يلتقَطُ، وقال في ((الفائق)): هي بفتحِ القاف والعامَّة تسكِّنُها، وفيه: أنَّ الخليلَ جزمَ بأنَّها بالسُّكون، وقال: وأمَّا بالفتحِ فهو اللَّاقطُ، وذلك لأنَّ فعلَهُ بضمِّ أوَّله وبفتحِ ثانيه للفاعلِ، كضُحَكة بمعنى: ضاحِك، وأمَّا بسكونه فهو للمفعولِ نحو: فلان ضُحْكة؛ أي: مَضْحوكٌ عليه.
          وقال الأزهريُّ: هذا الَّذي قالهُ الخليلُ هو القياسُ، ولكنْ الَّذي سُمِع من العربِ وأجمعَ عليه أهلُ اللُّغة / والحديثِ الفتحُ، وقال ابنُ برِّي: التَّحريكُ للمفعولِ نادرٌ، ومقتضَاهُ كما في ((الفتح)) أنَّ الَّذي قاله الخليلُ هو القياسُ والكثيرُ، وفيها لُغتان أُخريان: لُقَاطة _بضم اللام وألف بعد القاف_، ولَقَط _بفتحتين بلا هاء_، وقد نظَّم الأربعة ابن مالكٍ فقال:
لُقَاطَةٌ ولَقْطَةٌ ولُقَطَهْ                     ولَقَطَ مَا لَاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ
          ووجَّه بعضُهم فتح القاف في الملقوطِ أنَّه اسمُ فاعلٍ للمُبَالغة؛ لأنَّ كلَّ مَن يراهُ يميلُ لأخذِهِ فكأنَّه لاقطٌ، فتأمَّل.
          وأقول: هذه المادَّة تدلُّ على الأخذِ.
          قال في ((المصباح)): لقطْتُ الشَّيء لقْطاً، من بابِ قَتَل أخذتُهُ، وأصلهُ: الأخذُ من حيثُ لا يحسُّ، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): لقطَهُ: أخذهُ من الأرضِ فهو مَلْقُوطٌ ولقِيطٌ، والثَّوبَ رقعَهُ ورفَاهُ، واللَّاقطُ الرَّفَّاءُ، وكلُّ عبدٍ أعتقَ، والماقطُ عبدُهُ، والساقِطُ: عبدُه، ومنه: هو ساقِطُ بن ماقِطِ بن لاقِطٍ، واللُّقَاطةُ _بالضمِّ_ ما كان ساقِطاً مما لا قيمةَ له، وكسحابٍ: السُّنْبُلُ الَّذِي تخطئه المناجلُ، وبالكسر: اسمُ ذلك الفعلِ، ويا ملقطانُ: يا أحمقُ، وهي بهاءٍ واللَّقطُ محرَّكةً وكحُزْمَةٍ وهُمَزَةٍ وثُمامَةٍ: ما التُقِطَ، انتهى فتدبَّر.
          ومعنى اللُّقطةِ شرعاً ما وجدَ من حقِّ ضَائعٍ محترمٍ غير محرَزٍ ولا ممتَنعٍ بقوتهِ من صغارِ السِّباع ولا يعرفُ واجدُهُ مستَحِقَّهُ، وفي الالتقَاطِ معنَى الولايةِ والأمانةِ؛ لأنَّ الشَّرعَ جعلَهُ أميناً في ما التقَطهُ وولَّاه حفظهُ كالوليِّ في مالِ الصَّغيرِ، وفيه معنَى الاكتسَابِ؛ لأنَّ للمُلتقطِ تملُّكهُ بعد تعريفهِ.
          تنبيه: التقاطُ اللُّقطةِ مستحبٌّ لمن وثِقَ بأمانةِ نفسهِ لما فيه من المعاونَةِ للإخوانِ ولا يستحبُّ عند الشَّافعيَّةِ على الصَّحيحِ، وإن غلبَ على ظنِّهِ ضياعهَا لو تركَها خلافاً للجُمهورِ حينئذٍ ولا تستحَبُّ لغيرِ واثقٍ بأمانةِ نفسِهِ، وتكرهُ للفَاسقِ وإنْ صحَّ التقَاطُهُ وينزعها الحاكمُ منه ويضَعُها عند عدْلٍ، ولا يستقلُّ الفاسقُ بتعريفها، بل يضمُّ إليه رقيب عدلٍ، فإذا مضت السُّنَّة تملَّكها.
           (وإِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ) أي: مالكُها (بِالْعَلاَمَةِ) أي: المميِّزة للقطة عن غيرِهَا، فالجار والمجرور متعلِّقٌ بـ((أخبر)) (دَفَعَ) بفتح الدال المهملةِ؛ أي: الملتقِطُ اللُّقطةَ (إِلَيْهِ) أي: إلى مالكِها جواز أن لم يقعْ في قلبهِ صدقُهُ، وإلَّا فوجُوباً كمَا سيأتي مفصَّلاً.