الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

كتاب الصلاة

          (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ): ثبت لغير ابن عساكر، وفي بعض النسخ تأخيرها عن (كتاب الصلاة).
          ░░8▒▒ (كِتَابُ الصَّلَاةِ): لما فرغ من الكلام على الطهارة بأنواعها التي هي شرط، ووسيلة إلى الصلاة شرع في ذكر أحكام الصلاة التي هي المشروط والمقصود؛ لأن معرفة الشرط والوسيلة مقدمة طبعاً على معرفة المشروط والمقصود، فقدمت وضعاً ليوافق الوضع الطبع، وقدم الصلاة على بقية أركان الإسلام الخمسة ما عدا الإيمان؛ فإنه قدمه كتوقف سائر الطاعات عليه؛ لأنها أشرف العبادات البدنية على الصحيح بعد الإيمان.
          ثم إن كتاب الصلاة يشتمل على أكثر من عشرين نوعاً، أبدى في ((الفتح)) مناسبات لتقديم بعضها على بعض، وذكرها هنا مجموعة، وتبعه العيني؛ لكن ذكرها في أبوابها قال: لأنه أنسب، وأوقع في الذهن، ونحن نذكرها هنا تبعاً (للفتح) فنقول: استفتح كتاب الصلاة بذكر فرضيتها لتعيين وقته دون غيرها من أركان الإسلام، ولما كان ستر العورة لا يختص بالصلاة بدأ به لعمومه، وثنى بالاستقبال للزومه في الفريضة والنافلة، إلا في شدة الخوف، ونافلة السفر، ولما كان الاستقبال يستدعي مكاناً ذكر المساجد، ومن توابع الاستقبال سترة المصلي فذكرها، ثم ذكر دخول الوقت، وهو لازم في الفريضة بخلاف النافلة؛ فإن منها مالا يختص بوقت كالنفل المطلق.
          ولما كان الوقت يشرع للإعلام به ذكر الأذان الذي هو حق الوقت، ولما كان الأذان للإعلام بالاجتماع إلى الصلاة ذكر الجماعة، وكان أقلها إماماً ومأموماً، فذكر الإمامة، ولما انقضت الشروط وتوابعها ذكر صفة الصلاة، ولما كانت الفرائض في الجماعة قد تختص بهيئة مخصوصة ذكر الجمعة، والخوف، وقدم الجمعة لأكثريتها.
          ثم أتبع ذلك بما تشرع فيه الجماعة من النفل، فذكر العيد، والوتر والاستسقاء، والكسوف، وأخره لاختصاصه بهيئة مخصوصة من زيادة ركوع، ثم أتبعها فيه زيادة سجود، فذكر سجود التلاوة؛ لأنه قد يقع في الصلاة، فتشتمل على زيادة فأتبعه بما يقع فيه نقص من عددها بقصر الصلاة لتقابلهما. / ولما فرغ مما تشرع فيه الجماعة ذكر ما لا تستحب فيه، وهو باقي النوافل، ولما كان للصلاة بعد الشروع فيها ثلاثة شروط وهي: ترك الكلام، وترك الأفعال الكثيرة، وترك المفطر، ترجم لذلك، ولما كانت هذه الأشياء قد تقع سهواً، وهي حينئذ لا تبطل الصلاة؛ ولكنها توثر في الصلاة خللاً، فاحتاجت إلى سجود السهو ليجبرها ذكر أحكام السهو، ولما كان من الصلاة ما لا ركوع فيه، ولا سجود ذكر صلاة الجنازة. انتهى ملخصاً.
          وأما قول ((الفتح)): واستفتح المؤلف بذكر فرضيتها لتعين وقته دون غيرها من أركان الإسلام. انتهى، فلا يخفى ما فيه على المتأمل:
          أما أولاً: فلأنه لم يستفتح المؤلف بذكر الفرضية، بل بذكر الكيفية، إلا أن يقال:إنه على حذف مضاف.
          وأما ثانياً: فلأن قوله: لتعيين وقته، فيرد عليه من جهة اللفظ: أن اللائق: لتعيين وقتها _بالتأنيث_ كما في نسخ، وإن أمكن توجيهه، ومن جهة المعنى: أن غيرها من بقية الأركان الإسلام متعين وقته سوى الشهادتين، إذ الصوم مثلاً متعين وقته، ولعل مراده بتعين وقته؛ أي: وقت فرضه، وذلك ليلة الإسراء من غير خلاف، بخلاف الحج، فقد وقع اختلاف في أنه كان في السنة الأولى من الهجرة إلى العاشرة، ولكن الأصح أنه في السادسة، فليتأمل.
          وأل في (الصلاة): للجنس فتشمل الفرائض والنوافل، ولذا أفردت، وجمعها الكشميهني والمستملي في الباب الثاني لتنوعها إلى ثنائية، وثلاثية، ورباعية. والصلاة بوزن فعَلة، وألفها منقلبة عن واو، وهي لغة: الدعاء بخير، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] أي: ادع لهم، وفي الحديث من إجابة الدعوة: (وإن كان صائماً فليصل): أي: فليدع لهم بالخير والبركة، وهو مختلف باختلاف أنواعه، فمن الله: رحمة المقرونة بالتعظيم، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن غيرهم: تضرع ودعاء، ذكره الأزهري وغيره.
          قال في ((القاموس)): والصلاة: الدعاء، والرحمة، والاستغفار، وحسن الثناء من الله تعالى على رسوله، وعبادة فيها ركوع وسجود، اسم يوضع موضع المصدر، وصلى صلاة _لا تصلية_ دعا، والصلوات: كنائس اليهود، أصله بالعبرانية:صلوتا.
          وقال في ((الصحاح)): الصلاة: الدعاء، قال الأعشى:
وقابلها الريح في دنها                     وصلى على دنها وارتسم
          والصلاة من الله: الرحمة، والصلاة: واحدة الصلوات المفروضة، وهو اسم يوضع موضع المصدر تقول: صليت صلاة، ولا تقل: تصلية، وصليت على النبي، وصليت العصا بالنار: إذا لينتها وقومتها، قال:
فلا تعجل بأمرك واستدمه                     فما صلى عصاك كمستقيم
          وقال العيني: قيل: هي مشتقة من صليت العود على النار: إذا قومته، قال النووي: هذا باطل؛ لأن لام الكلمة في (الصلاة) واو بدليل: الصلوات، وفي صليت ياء، فكيف يصح الاشتقاق؟ ثم قال: وقيل: من التقرب من قولهم: شاة مصلية، وهي قربت إلى النار، وقيل: من اللزوم. قال الزجاج: يقال: صلى، واصطلى: إذا لزم، وقيل: هي من الإقبال على الشيء، وأنكر غير واحد بعض هذه الاشتقاقات لاختلاف لام الكلمة في بعضها، فلا يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف، قلت: اشتراط اتفاق الحروف الأصلية في الاشتقاق الصغير دون غيره. انتهى ملخصاً.
          وأقول: قد يجاب: بأن المتبادر من الاشتقاق عند الإطلاق الصغير، فالاعتراض عليه دون غيره، فتدبر.
          وربما يشير إليه قوله النووي / في ((التهذيب)): واختلف العلماء في اشتقاق الصلاة، فالأشهر الأظهر: أنها من الصلوين، وهما عرقان من جانبي الذنب، وعظمان ينحنيان في الركوع والسجود، ولهذا كتبت الصلاة في المصحف بالواو، وقيل: مشتقة من أشياء كثيرة، لا يصح دعوى الاشتقاق فيها لاختلاف الحروف الأصلية، وقد تقرر أن من شرط الاشتقاق: الاتفاق في الحروف الأصلية. انتهى.
          فتأمل قوله: وقد تقرر..إلخ الحرفان لهذا المتقرر، إنما هو في الاشتقاق الصغير، فتأمله.
          وقيل: مشتقة من الصلا _بكسر الصاد مع المد وبفتحها مع القصر_ مصدر صليت العود المعوج على النار: إذا عرضته عليها لتقومه، إذ بالطبع اعوجاج، فالمصلي من وهج السطوة يتقوم اعوجاجه، ثم يتحقق معراجه، ومن اصطَلى بنار الصلاة، وزال اعوجاجه لا يدخل النار، وقيل: من المصلي، وهو الفرس التالي من خيل السباق؛ لأن رأسه يلي صلوي السابق، وكلها بعيدة إن لم تكن ممتنعة، ما عدا اشتقاقها من الصلى بمعنى دعا، ومن الصلوين، فاعرفه.
          وأما الصلاة في الشرع: فهي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم غالباً بشرائط مخصوصة.
          قال النووي في ((التهذيب)): سميت الصلاة الشرعية صلاة لاشتمالها على الدعاء، هذا مذهب الجمهور من أهل الأصول: أن الصلاة ونحوها من الأسماء الشرعية منقولة من اللغة، وأما من قال منهم:إنه ليس في الأسماء منقول إلى الشرع، بل كلها مبقاة على موضوعها لغة، وإنما زيد عليها زيادات كالركوع، والسجود، وغيرهما كما أضيفت إليها الطهارة، فلا يحتاج هذا القائل إلى نقل، بل هي عنده الدعاء في الشرع واللغة. انتهى.
          واعلم أن الصلاة صلة بين العبد وربه، وجامعة لأنواع العبادات النفسانية، والبدنية كالطهارة، وستر العورة، وصرف المال فيهما، والتوجه إلى الكعبة، والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النية بالقلب، ومجاهدة النفس والشيطان، والنطق بالشهادتين، ومناجاة الحق بقراءة القرآن، وغيره. وشرعت المناجاة فيها تارة سراً، وتارة جهراً، ليجمع للعبد فيها بين ذكر السر، وذكر العلانية، ومن ثم ورد في الحديث القدسي الصحيح أنه تعالى قاله في شأن العبد المتقرب: (إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته ملأ خير منه)، ولعل المراد بهم خصوص الملائكة المقربين والكروبيين؛ لأنه تعالى اختصهم بحضرته، فلهذا الفضل شرع لهم في الصلاة الجهر بالقراءة تارة، والسر بها أخرى، ولا يخفي أن فرضية الصلوات ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع، ولما كان غرض المؤلف الإشارة أولاً إلى بيان كيفيتها قال: