الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: هل للأسير أن يقتل ويخدع الذين أسروه حتى ينجو من الكفرة؟

          ░151▒ (بابُ هَلْ لِلأَسِيرِ) أي: إذا كان في أيدِي الكفَّارِ (أَنْ يَقْتُلَ) أي: مِن الكفَّار ولو لصبيانهم أو نسَائهم (وَيَخْدَعَ) بسكون الخاء المعجمة وفتح الدالِ المهملة، والبناءُ للفاعل في الفعلين، ومن الخديعةِ، ولأبي ذرٍّ:<أو يخدع> بأو للتَّنويع.
          (الَّذِينَ أَسَرُوهُ) الموصول مفعولُ أحدِ الفعلين على سبيلِ التَّنازع (حَتَّى) أي: إلى أنْ أو كي (يَنْجُوَ) أي: يتخلصَ (مِنَ الْكَفَرَةِ) بفتح الكاف والفاء، جمعُ كافرٍ.
          (فِيهِ الْمِسْوَرُ) بكسر الميم وسكونِ السين المهملة وفتحِ الواو؛ أي: ابن مخرمة؛ أي: يدخل في هذا الباب حديث المسْورِ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم) قال البرماويُّ تبعاً للكرمانيِّ: إنما لم يذكرْه بلفظهِ اختصَاراً، فإنَّه إنما يكررُ الحديثَ لفَائدةٍ في المتنِ، أو نكتةٍ في الإسنادِ أو تغيرٍ في اللفظ، أو لغير ذلك.
          وتقدَّم حديثُه في صلحِ الحديبيةِ ولم يجزمْ بالحكمِ فيه؛ لمكان الاختلافِ كما نذكرُهُ.
          وفيه: وعلى أنه لا يأتيك منَّا رجلٌ وإنْ كان على دينك إلا رددتَه إلينا.. إلى أنْ قال: ثم رجعَ النبيُّ صلعم إلى المدينةِ فجاءَهُ أبو بصيرٍ رجلٌ من قريشٍ وهو مسلمٌ، فأرسلوا في طلبهِ رجلين فقالا: العهدُ الذي جعلْتَ لنا، فدفعَهُ إلى الرَّجلين فخرَجا به حتى بلغا ذا الحليفةَ، فنزلوا يأكلونَ مِن تمرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجلين: واللهِ إني لأرى سيفَك يا فلان هذا جيداً، فاستلَّه الآخرُ فقال: أجلْ والله إنه لجيِّدٌ لقد جربتُ به ثمَّ جربت، فقال أبو بصيرٍ: أرني أنظرْ، فأمكنَه منه فضربَه حتى بردَ وفرَّ الآخرُ حتى أتى المدينةَ فدخلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ الله صلعم حين رآه: ((لقد رأى هذا ذُعْراً)) فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلعم قال: قُتِلَ واللهِ صاحبِي وإني لمقتولٌ، فجاءَ أبو بصيرٍ فقال: يا نبيَّ الله قد والله أوفى اللهُ إليك ذمَّتَك قد رددتَني إليهم، ثم أنجَاني الله منهم، قال النبيُّ صلعم: ((ويلُ أمِّهِ مِسْعَرَ حربٍ لو كانَ له أحدٌ)) فلمَّا سمعَ ذلك عرَفَ أنه سيَرُدُّه إليهم، فخرجَ حتى أتى سيفَ البحرِ، قال: وتفلَّتَ منهم أبو جندل بنُ سهيلٍ فلحقَ بأبي بصيرٍ، فجعلَ لا يخرج رجلٌ من قريشٍ قد أسلمَ إلا لحقَ بأبي بصيرٍ، حتَّى اجتمعَتْ منهم عصَابةٌ، فوالله ما يسمعونَ بعيراً خرجتْ لقريشٍ إلى الشام إلَّا اعترضُوا لها فقتلوهُم وأخذوا أمْوالَهم، فأرسلَتْ قريشٌ إلى النبيِّ صلعم تناشدُه باللهِ والرحمِ لما أرسل، فمَنْ أتاه فهو آمنٌ، فأرسلَ النبيُّ صلعم إليهم.
          ووجهُ المطابقةِ أنه لم يُنْكرِ النبيُّ صلعم على أبي بصيرٍ قتلَه العامريَّ، ولا أمرَ فيه بقَودٍ ولا ديةٍ، وقد اختُلفَ في الأسيرِ يعاهدُ أنْ لا يهربَ، فقال الشَّافعي والكوفيون: لا يلزمه الوفاءُ به، بل يجبُ عليه أنْ يهربَ إنْ قدر عليه.
          وقال مالكٌ: يلزمه الوفاءُ به، وقال ابنُ القاسم وابنُ المواز: إنْ أكرهوه على أنْ يحلفَ لم يلزمْه لأنه مُكرهٌ. وقال بعضُ الفقهاء: لا فرقَ بين الحلف والعهدِ، / والحجَّةُ في ذلك فعلُ أبي بصيرٍ وتصويبُ النبيِّ صلعم فعلَه.
          وفي ((الفتح)) قال أبو حنيفةَ والطَّبري: إعطاؤه العهدَ على ذلك باطلٌ، وقال الشَّافعية: يجوزُ أنْ يهربَ من أيديهم، ولا يجوز أنْ يأخذَ مِن أموالهم، قالوا: وإنْ لم يكنْ بينهم عهدٌ جاز له أنْ يتخلَّصَ منهم بأيِّ طريقٍ ولو بالقتل، وأخذِ المال، وتحريقِ الدَّار وغيرِ ذلك، قال: وليس في قصَّة أبي بصيرٍ تصريحٌ بأنَّه كان بينه وبين مَنْ تسلَّمَه ليردَه إلى المشركين عهدٌ. انتهى.
          وقال الأبي: لا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّه ليس فيه أنَّ أبا بصيرٍ عاهدَهُم على ذلك، والنبيُّ عليه السلام إنما عاهدَهُم على أنْ لا يخرجَ معه بأحدٍ منهم ولا يحبسه عنهم، ولم يعاهدْهُم على أنْ لا يخرجَ منهم من أسلمَ حتَّى يلزمُ ذلك أبا بصيرٍ، فافهم.