الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب جزاء الصيد]

          ░░28▒▒
          ♫
          (باب جَزَاءِ الصَّيْدِ) أي: بيان جزائهِ إذا قتلهُ المحرم (وَنَحْوِهُ) كتنفير صيدِ الحرم وعضد شجرهِ (وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ ({لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]) بإثبات البسملة وما بعدها لأبي ذرٍّ، لكنَّه لم يكملْ الآيةَ، بل قال: <{مِنَ النَّعَمِ} إلى قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}>.
          قال في ((الفتح)): ووقع لغيره: <باب قول الله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}> بحذف ما قبله، وفي بعض الأصُول الصَّحيحة: <باب جزاء الصيد ونحوه>، انتهى.
          ░1▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}) إلى آخرِ الآيتين، والسَّببُ في نزولِ هذه الآيةِ على ما حكاهُ مقاتلٌ في ((تفسيره)): أنَّ أبا اليَسَر _بفتح التحتية والسين المهملة_، واسمهُ: عَمرو بن مالك الأنصاري قتل حمارَ وحشٍ وهو محرمٌ في عمرةِ الحديبية فنزلت.
          وقال ابن إسحاق وموسى بن عقبة والواقديُّ وآخرون: نزلت في كعب بن عمرو قتلَ حمار وحشٍ وهو محرمٌ، وبهذا يعلمُ ابتداء نزولها، ومثلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة:94].
          قال البيضاويُّ: نزلت في عامِ الحديبيَّة ابتلاهم الله بالصَّيد وهم محرمُون، وكانت الوحوشُ تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكَّنون من صيدها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم، انتهى.
          اعلم أن المصنِّف ذكر الآيتين من سورة المائدة في هذه التَّرجمة، ولم يذكرْ فيها معهما حديثاً اكتفاءً بما فيهما، وإما لأنَّه لم يظفرْ بحديثٍ مرفوع على شرطهِ، ونتكلَّم عليهما فنقول:
          قوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} بالحاء المهملة؛ أي: محرمونَ خبر {أَنْتُمْ}، والجملة حالية، وحُرُم _بضمتين_ جمع: حرام كسحاب وسُحُب، نهى الله تعالى المؤمنينَ أن يقتلوا الصَّيد في حالِ إحرامهم.
          قال البيضاويُّ: ولعله ذكرَ القتلَ دون الذَّبح، والزكاة للتَّعميم، وأرادَ بالصيد ما يؤكلُ لحمه؛ لأنَّه الغالبُ فيه عرفاً. واختلف في هذا النَّهيِ هل يلغي حكم الذَّبح فيلحق بمذبوحِ الوثنيِّ، وبالميتة أو لا، فيكونُ كالشاة المغصوبةِ إذا ذبحها الغاصبُ، فذهبَ الشَّافعية وكثيرون إلى الأوَّلِ فحرم تعالى عليهم صيد البرِّ دون صيد البحرِ كالسَّمك فإنَّه لا يحرمُ على المحرم أيضاً.
          ({وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً}) أي: ذاكراً لإحرامهِ، عالماً بأنَّه حرامٌ عليه، وليس تقييدهُ به عند الأكثر وإن اختلفا في الإثمِ لإخراج النَّاسي والجاهل، فإن إتلاف العامدِ والمخطئ سواءٌ في إيجابِ الضَّمان، بل لقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة:95] ولأنَّ الآية نزلت فيمن تعمَّد، ويُستثنى من ذلك ما لو صالَ عليه الصيد فقتلهُ دفعاً لصيالهِ فلا يحرمُ ولا ضمانَ عليه / .
          ({فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}) برفع {جَزَاءٌ} وتنوينه مبتدأ، والخبر محذوف يقدر بنحو: فعليه جزاء، وهذه قراءةُ أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، وسوَّغ الابتداء بجزاء تخصيصهِ بخبره المقدر مقدماً، مع أنَّه قد وصف بقوله: {مِثْلُ}، وقرأ الباقون بترك تنوين {جَزَاءٌ} المصدر تخفيفاً لإضافته إلى مفعوله، فـ{مِثْلُ} مجرور بالإضافة، والأصلُ فعليه أن يجزيَ المقتولَ من الصَّيد مثل ما قتله، والجملةُ جواب {مَنْ} الشرطية، ويجوز رفع {فَجَزَاءٌ} على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فالواجبُ عليه جزاء أو على أنه فاعل لفعل محذوف نحو فيلزمهُ أو فيجب.
          قال في ((الكشاف)): وقرأ محمد بن جعفر: ▬فجزاء مثل↨ بنصبهما على تقدير فليجز جزاء مثل ما قتل، وقرئ: ▬فجزاؤه مثل ما قتل↨، وقرأ الحسن: ▬من النعْم↨ بسكون العين تخفيفاً، ويجوز نصب ▬مثل↨ حالاً، والمماثلةُ معتبرةٌ عند مالك والشَّافعي باعتبارِ الخلقةِ تقريباً، وعند أبي حنيفة بالقيمةِ.
          ({يَحْكُمُ بِهِ}) أي: بالجزاءِ أو بالمثل ({ذَوَا عَدْلٍ}) يعني: رجلانِ عدلان ({مِنْكُمْ}) أي: المسلمينَ، فإنَّ التَّقويم يحتاجُ إلى نظر، فإنَّ الأشياء تتشابَهُ ففي النَّعامة بدنةٌ، وفي حمار الوحشِ بقرةٌ كما يأتي.
          قال في ((الكشاف)): وعن قبيصة: أنَّه أصابَ ظبياً وهو محرمٌ فسأل عُمر فشاور عبد الرحمن بن عوف ثمَّ أمرهُ بذبح شاةٍ فقال قبيصة: والله ما علمَ أميرُ المؤمنين حتى سأل غيرهُ فأقبل عليه ضرباً بالدُّرَّة وقال: أتغمضُ الفتيا وتقتلُ الصَّيد وأنت محرمٌ، قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] فأنا عُمر وهذا عبد الرحمن، انتهى.
          وجملة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} في محل الرفع صفة جزاء، أو النصب حالاً من الضمير في خبره المقدر، أو من جزاء إذا أضفتهُ أو وصفتهُ، وقرأ محمَّد بن جعفر: ▬ذوا عدل↨ بالإفراد على إرادة الجنس أو الإمام.
          ({هَدْياً}) أي: مهدي حال من هابه أو من جزاء وإن نون لتخصيصهِ بالصفة، أو بدل عن؛ أي: من يعدل أو عن مثل باعتبار محله فيمن جرَّه، أو لفظه فيمن نصبه ({بَالِغَ الْكَعْبَةِ}) نعت {هَدْياً} لأنَّ إضافته لفظيَّةٌ، والمرادُ وأصل الحرم بذبحهِ فيه والتصدُّقُ به على فقرائه.
          وقال أبو حنيفة: يذبحُ بالحرم، ويتصدَّقُ به حيثُ شاء.
          ({أَوْ كَفَّارَةٌ}) بالرفع عطف على {فَجَزَاءٌ} إن رفعته، وأما على نصبه فـ{كَفَّارَةٌ} خبر لمحذوف أو مبتدأ خبره محذوف ({طَعَامُ مَسَاكِينَ}) عطف بيان أو بدل من {كَفَّارَةٌ} أو خبر لمحذوف، وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر: ▬أو كفارة طعام مساكين↨ بإضافة {كَفَّارَةٌ} لـ{طَعَامُ} المضاف لـ{مَسَاكِينَ} المجرور بالفتحة لصيغة مفاعيل، والإضافةُ بيانية لتفرُّع الكفارة إلى أنواعٍ فحسنت إضافتها إلى أحدِ أنواعها.
          وقرأَ الأعرج: ▬مسكين↨ بالإفراد على إرادةِ الجنس، واكتفى بالواحدِ لدلالتهِ على الجنسِ، فأماله على ((الكشاف))، وبه يعلمُ ما في القسطلاني، ولا خلافَ في جمع: مساكين هنا دون ما في البقرة، فتأمَّله.
          وما علل به مع القراءةِ بالإفراد فمدفوعٌ بما وجهها به في ((الكشاف)) على أنَّ الأعرج يحتملُ أنَّه يرى جواز دفعِ الكفَّارة المذكورة لمسكينٍ كما هو روايةٌ عن أبي حنيفة في كفارة الحلقِ المنصوصِ على ستَّةِ مساكين فيها، فتأمَّله.
          والمعنى أو أن يكفر بإطعامِ مساكين ما يساوي قيمةَ الهديِ من غالبِ قوت البلد، فيعطي كلَّ مسكينٍ مدًّا.
          ({أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً}) عطف على {طَعَامُ}، وقرئ بكسر العين، والفرقُ بينهُ وبين المفتوحِ أنَّه ما عدل به في المقدارِ والجنسِ، ومنه عدلاً الجمل، وأما المفتوحُ فهو ما عادلهُ من غير جلسةٍ كالصَّومِ والإطعام.
          وقوله: ({لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}) متعلق بقوله {فَجَزَاءٌ} أي: فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوقَ سوء عاقبة هتكهِ لحرمة الإحرامِ أو بمحذوف؛ أي: أوجبنا ذلك عليه ليذوقَ ثقلَ معصيتهِ، والوبالُ الثِّقلُ من قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل:16] أي: ثقيلاً، ومنه الطَّعامُ الوبيلُ.
          ({عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}) أي: مضى من قتل الصَّيد محرماً في الجاهليَّةِ أو قبل التَّحريمِ، أو في هذه المرة ({وَمَنْ عَادَ}) أي: إلى قتلِ الصَّيدِ ({فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}) أي: فهو ينتقمُ الله منه في الآخرة وفي الدُّنيا بإيجاب الكفَّارة، وليس في الآية ما يمنعُ من لزومها على العائدِ، وهو مذهبُ العلماء كافَّةً إلا ما رُوي عن ابن عبَّاس وشريح أنَّه لا كفَّارة عليه تعلُّقاً بالظَّاهر، فإنَّه لم يذكرْ الكفَّارة.
          ({وَاللَّهُ عَزِيزٌ}) منيعٌ ({ذُو انْتِقَامٍ}) أي: ممن أصرَّ على عصيانهِ ({أُحِلَّ لَكُمْ}) أي: أيُّها المحرمون أو مطلقاً ({صَيْدُ الْبَحْرِ}) أي: مما لا يعيشُ إلا في الماءِ كيف ما كان، ولو كان البحرُ داخل الحرم، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام في البحر: ((هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ ميتَتُهُ)).
          وقال أبو حنيفة: لا يحلُّ منه إلا السَّمك، / وقيل: يحلُّ السمك وكلُّ ما يُؤكل نظيرهُ في البرِّ، وتفصيلُ ذلك مذكورٌ في الفروعِ.
          ({وَطَعَامُهُ}) أي: ما قذفهُ البحرُ أو نضبَ عنه، وقيل: الضَّمير للصيد وطعامهُ أكله، فالمعنى: أحلَّ لكم مصيدات البحرِ ما يؤكلُ وما لا يؤكلُ، وأكلُ ما يطعم من صيدهِ وهو المأكولُ.
          وقال البغوي: المرادُ بالبحرِ جميع المياه.
          وقال عمر: صيده ما اصطيد، وطعامهُ ما رمى به، وعن ابن عبَّاس وابن عمر وأبي هريرة: طعامهُ ما قذفه الماءُ إلى السَّاحل ميتاً وقال قومٌ: هو المالحُ منه.
          وقال مجاهد: صيده طريه وطعامهُ مالحه.
          قال في ((الكشاف)) وقرئ: ▬طُعْمه↨.
          ({مَتَاعاً لَكُمْ}) مفعول لأجله ({وَلِلسَّيَّارَةِ}) هي كما في ((المصباح)) وغيرهُ القافلة.
          وقال العينيُّ: والسَّيَّارة جمع: سيار وهم المسافرون؛ أي: أحللناهُ لكم لينتفعَ به المقيمون والمسافرونَ، قال: وكان بنو مدلج ينزلون سيفَ البحرِ فسألوهُ عما نضبَ عنه الماءُ من السَّمك فنزلت.
          قال كعبُ الأحبارِ لعمر بن الخطاب: يا أميرَ المؤمنين والَّذي نفسي بيدهِ إن هو إلا نثرة حوت ينثرهُ في كلِّ عامٍ مرَّتين، وقال كعب: في الجرادةِ درهمٌ، لكن ردَّ عليه عمر فقال: ما أكثر دراهمكم يا أهل حمصَ تمرةٌ خيرٌ من جرادة، وهذا مذهب الشَّافعي وكثيرين، راجع العيني.
          ({وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ}) أيُّ برٍّ كان؛ أي: ما صيدَ فيه، ويحتملُ أنَّ المراد بالصيدِ في الموضعين فعلهُ فعلى الأول يحرمُ على المحرم ما صادهُ الحلال وإن لم يكنْ له فيه مدخلٌ، والجمهورُ على أنَّهُ حلالٌ، قاله القسطلاني.
          وأقول: ويدخلُ فيه أيضاً ما صيدَ فيه من حيواناتِ البحر.
          وقال العيني: وحرُمَ عليكم صيد البرِّ؛ أي: ما يفرخُ فيه وإن كان يعيشُ في الماءِ في بعض الأوقاتِ كطيرِ الماء، انتهى.
          ومن القائلينَ بالأول عمر وعلي وابن عبَّاس ♥، وقرأ ابن عبَّاس: ▬وحرم عليكم صيد البر↨ ببناء {حرم} للفاعل، وسيأتي بأبسط في الباب الآتي، ومن صيد البر الجرادُ فيحرمُ على المحرم اصطيادُه، لكن لا يحرمُ أكله منه للحلال؛ لأنَّ ميتته يجوزُ أكلها، وقيل: إنَّه من صيد البحرِ، لكنَّهُ مستثنًى منه على الصَّحيح.
          وقال قومٌ بجواز أكلهِ له إذا صاده، وعليه بوَّبَ الترمذي بقوله: باب ما جاءَ في صيد البحرِ للمحرم ذكر بسنده إلى أبي هريرة أنَّه قال: خرجنا مع رسول الله في حَجٍّ أو عمرةٍ فاستقبلنا رجل جرادٍ فجعلنا نضربهُ بأسيافنا وعِصيِّنا فقال رسول الله: ((كلوهُ، فإنَّهُ من صيدِ البحرِ)). قال الترمذي: حديثٌ غريب.
          والصَّحيح أنه يحرمُ على المحرم قتله، وفيه فديةٌ في كلِّ جرادةٍ تمرة كما قال عمر بن الخطاب: تمرةٌ خير من جرادة.
          ({مَا دُمْتُمْ حُرُماً}): أي: مدَّة إحرامكم، وقرئ: ▬دِمتم↨ بكسر الدال ({وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}) أي: تُبعثون يوم القيامة فامتثلوا أوامرهُ واجتنبوا نواهيه، والحاصلُ أنَّ الآيتين فيهما بيانٌ لجزاء الصَّيدِ في الجملة.
          وقال ابن بطَّال وغيره: اتَّفق أئمَّةُ الفتوى من أهلِ الحجاز والعراق وغيرهم على أنَّ المحرمَ إذا قتل الصيد عمداً أو خطأً فعليه الجزاءُ، منهم مالك والليث والأوزاعيُّ والثَّوري وأبو حنيفة والشَّافعي وأحمد وإسحاق.
          وقال أهل الظَّاهر وأبو ثور وابن المنذر من الشَّافعيَّة: لا يجبُ الجزاءُ إلا على من قتل الصَّيد عمداً؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} [المائدة:95] فإنَّ مفهومهُ أن المخطئ لا جزاءَ عليه، وهو إحدى الرِّوايتين عن أحمد، قيل: وروي عن عُمر بن الخطاب ما يدلُّ على أنَّه مذهبهُ، فإنه سأل راميَ الظَّبي فقال: أعمداً أصبتهُ أم خطأً، وعكسَ الحسن ومجاهد فقالا: يجبُ الجزاءُ في الخطأ دون العمدِ، فيختصُّ الجزاء عندهما بالخطأ، والنَّقمةُ بالعمدِ، وعنهما يجبُ الجزاءُ على العامد أوَّل مرَّةٍ، فإن عاد كان أعظم لإثمهِ وعليه النَّقمةُ لا الجزاء.
          قال الموفق في ((المغني)): لا نعلمُ أحداً خالفَ في وجوب الجزاء على العامدِ غيرهما، هكذا نقلهُ في ((الفتح)) وأقرَّه، وفيه أنَّ البغويَّ قال: وإذا تكرَّر من المحرم قتل الصَّيدِ فيتعدَّد عليه الجزاءُ عند عامَّةِ أهل العلم.
          قال ابن عبَّاس: إذا قتل المحرمُ صيداً متعمداً يسألُ هل قتلتَ قبله شيئاً من الصيد؟ فإن قال: نعم، لم نحكُمْ عليه، وقيل له: اذهب فينتقمُ الله منك، فإن قال: لم أقتل قبلهُ شيئاً حُكِم عليه، ولكن يملأُ ظهرهُ وصدره ضرباً وجيعاً، ولذلك حكمَ رسول الله في وجٍّ وهو وادٍ بالطَّائف، انتهى فتدبَّره.
          ثمَّ قال ابن بطَّال: واختلفوا في قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فقال ابن القصَّار عن مالك: / إذا قتل المحرمُ صيداً له مثل من النعم في المنظرِ فعليهِ مثله، ففي الغزالِ شاةٌ، وفي النَّعامة بدنةٌ، وفي حمارِ الوحشِ بقرةٌ، وبه قال مجاهدٌ والحسن والشَّافعي.
          وقال أبو حنيفة وأبو يوسُف: الواجبُ في قتل الصَّيدِ القيمة سواءٌ كان له مثل من النِّعم أو لا، وهو بالخيارِ بين أن يتصدَّق بقيمتهِ، وبين أن يصرفَ القيمةَ في النِّعم فيشتريهِ ويهديه وقالوا: لما لم يجزْ أن يُراد بالمثل المثلَ من الجنسِ عُلِم أن المرادَ القيمة، وأنها تصرفُ في النِّعم.
          وقال ابن القصَّار: فالجوابُ أن قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] يفيدُ أنَّ المرادَ به مثل المقتولِ من النَّعم خاصَّةً لتقييدهِ في الآية بذلك، ومثلهُ من النَّعم ليس هو القيمةُ.
          ثمَّ قال المهلَّب: فإن قيل: قال مالكٌ وجماعةُ الفقهاء غير أبي حنيفة: في الحمامةِ شاةٌ، وليست الشَّاةُ مماثلةً للحمامةِ يقال له: أغفلتَ، وذلك أنَّ اشتراطهُ تعالى في المثل أن يكون من النَّعمِ والطَّير ليست من النِّعم، فوجبَ أن يكون كلُّ جزءٍ يغرمُ من النعم لا من جنسِ الحيوانِ المقتول؛ لأنَّ الجزاء لا يكونُ إلا هدياً، كما قال الله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وأقلُّ الهديِ من النِّعمِ شاةٌ، انتهى ملخَّصاً.
          وقال مالك في ((الموطأ)): أخبرنا أبو الزبير عن جابرٍ: أنَّ عمر قضَى في الضَّبعِ بكبشٍ، وفي الغزالِ بعنزٍ، وفي الأرنبِ بعناقٍ، وفي اليربوعِ بجفرة.
          وروى الشَّافعيُّ عن مالكٍ، وعبد الرَّزاق في ((مصنفه))، والبيهقيُّ في ((سننه)) بسندهم: أنَّ عمر وعثمان وعليًّا وزيد بن ثابت وابن عبَّاس ومعاوية قالوا: في النَّعامة يقتلها المحرم بدنَةٌ من الإبل، ولو اشتركَ محرمان مثلاً في قتل صيدٍ وجبَ عليهما جزاءٌ واحدٌ يشتركان في فدائهِ مناصفةً مثلاً لاتِّحاد المتلف ولو قتله حلالٌ ومحرمٌ لزمَ المحرم نصفَ الجزاءِ فقط، ذكره الرَّملي.
          وقال في ((الفتح)): واختلفوا في الكفَّارة فقال الأكثر: هو مخيَّرٌ فيها كما هو ظاهرُ الآية.
          وقال الثوري: يقومُ المثل، فإن لم يجدهُ أطعم فإن لم يجدْ صامَ، وقال سعيد بنُ جبير: إنَّما الطعام والصيام فيما لا يبلُغُ ثمنَ الصَّيدِ، قال: واتَّفقَ الأكثرُ على تحريمِ أكلِ ما صادهُ المحرم.
          وقال الحسنُ والثَّوري وأبو ثور وطائفة: يجوزُ أكله وهو كذبيحةِ السَّارق، وهو وجهٌ للشَّافعيَّةِ.
          وقال الأكثرُ: الحكمُ في ذلك ما حكمَ به السَّلفُ لا يتجاوزُ ذلك، وما لم يحكمُوا فيه يستأنفُ فيه الحكمَ، وما اختلفوا فيه مجتهدٌ فيه.
          وقال الثَّوري: والاختيارُ في ذلك للحكمين في كلِّ زمانٍ. وقال مالك: يستأنفُ الحكم والخيارَ إلى المحكومِ عليه، وقال الأكثر: الواجبُ في الجزاءِ نظير الصَّيدِ من النِّعم.
          وقال أبو حنيفة: الواجبُ القيمة ويجب صرفها في المثل، وقال الأكثرُ: في الكبيرِ كبيرٌ، وفي الصَّغيرِ صغيرٌ، وفي الصَّحيحِ صحيحٌ، وفي الكسيرِ كسيرٌ، وخالف مالكٌ فقال: في الكبيرِ والصَّغيرِ كبيرٌ، وفي الصَّحيحِ والمعيبِ صحيحٌ، واتَّفقوا على أنَّ المرادَ بالصَّيدِ ما يجوزُ أكله للحلالِ من الحيوانِ الوحشيِّ، وأنَّه لا شيءَ فيما يجوزُ قتله، واختلفوا في المتولِّد فألحقهُ الأكثر بالمأكولِ، انتهى.
          وأطال العينيُّ الكلامَ في ذلك كابن بطَّال.