الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب الأذان]

          ♫
          ░░10▒▒ كِتَابُ الأَذَانِ
           (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ) كذا ثبتَتْ البسملةُ لابن عسَاكر، كما في الفرعِ وأصلهِ، وسقطتْ لغيره.
          (كِتَابُ الأَذَانِ) كذا ثبتَ لابنِ عساكرَ، وسقط لغيره.
          ░1▒ (باب: بَدْءُ الأَذَانِ) أي: ابتداؤُهُ، فهو مهموزٌ، وسقط لفظ: <باب> فقط لأبي ذرٍّ والأصيليِّ، وتقدَّم معنى الكتاب والبابِ والبدء في أوَّل شرحِ هذا ((الصحيح)).
          وأمَّا الأذانُ فهو بالذال المعجمة اسم مصدرٍ، لغةً: الإعلام، ومثلهُ: التَّأذين والأذينُ كعليم، ويطلق الأذينُ على المؤذِّن أيضاً، لكن قال في ((القاموس)): الأذانُ والأذِينُ والتَّأذينُ: النِّداءُ إلى الصَّلاةِ، فجعلها اسماً للإعلام إلى الصَّلاة والمعروفُ في اللُّغة الأول.
          وأمَّا شرعاً: فهو الإعلامُ بوقت الصَّلاةِ المكتوبة بألفاظٍ مخصُوصةٍ يأتي بيانها، وقد يطلقُ الأذان على نفس الألفاظ المخصُوصة، كما حملوا عليه قولهُ صلعم الآتي: ((مَن قالَ حين يسمَعُ النِّداءَ)) فاعرفه.
          قال ابنُ المنيِّر: أعرض البخاريُّ عن التَّصريح بحكمِ الأذان، لعدمِ إفصاحِ الآثار الواردَةِ فيه، عن حكمٍ معيَّنٍ فأثبتَ مشروعيَّتهُ وسلمَ من الاعتراض، وقد اختلفَ في ذلك، ومنشأُ الاختلافِ أنَّ بدءَ الأذان لمَّا كان عن مشورةٍ أوقعها النَّبيُّ صلعم بين أصحابه، حتى استقرَّ برُؤيا بعضهم فأقرَّه، كان ذلك بالمندوبات أشبه ثمَّ لمَّا واظبَ عليه ولم ينقل أنَّه تركهُ ولا رخَّص في تركهِ كان بالواجبات أشبَهُ، انتهى.
          (وَقَوْلُهُ) وللأصيليِّ: <وقول الله> (╡) وهو بالرَّفع عطفٌ على ((باب))، وبالجرِّ عطفٌ على مجرورهِ، على إثباته، وأمَّا على إسقاطه فيتعيَّن الرَّفع، فافهم ({وَإِذَا نَادَيْتُمْ}) أي: أذَّنتم داعين ({إِلَى الصَّلاَةِ}) أي: المكتوبة، وأضافَ النِّداءَ إليهم جميعاً مع أنَّ المنادي واحدٌ غالباً؛ لأنَّه لما أذَّن لهم وناداهُم فكأنَّهم أذَّنوا ({اتَّخَذُوهَا}) أي: اتَّخذ الكفَّارُ الصَّلاة أو المناداةَ لها حين سمعوا النِّداء ({هُزُواً وَلَعِباً}) يهزؤون بالصَّلاةِ، ويلعبون بها، وإذا رأوهُم ركوعاً وسجوداً، ضحِكُوا عليهم واستهزؤوا بذلك ({ذَلِكَ}) أي: اتِّخاذهم لها / هزُواً ولعباً واستهزاؤُهُم ({بِأَنَّهُمْ}) أي: بسبب أنَّهم ({قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ}) فإنَّ السَّفه يؤدِّي إلى الجهل بالحقِّ والهزء به، والعقلُ يمنعُ منه، فهم لجهلهِم لا يعرِفُون معَاني عبادةِ الله تعالى وما يترتَّب على فعلهم.
          روى ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتم، عن السُّدِّي أنَّه قال: كان رجلٌ من النَّصَارى بالمدينةِ إذ سمعَ المنادي ينادِي: أشهدُ أنَّ محمَّداً رسولُ الله، قال: أحرقَ اللهُ الكاذبَ، فدخل خادمه ليلةً من اللَّيالي بنارٍ وهو نائمٌ وأهله نيامٌ، فسقطتْ شرارَةٌ فأحرقت البيتَ، فاحترقَ هو وأهله.
          وقال في ((الكشاف)): قيل: فيه دليلٌ على أنَّ ثبُوتَ الأذان بنصِّ الكتاب لا بالمنامِ وحده، انتهى.
          وقال الزُّهريُّ: قد ذكر الله تعالى التَّأذين في هذه الآية.
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى) بالرفع والجرِّ على ما مرَّ، وسقط: <تعالى> من بعضِ الأصولِ.
          ({إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ}) أي: أذن لها عند قعودِ الإمام على المنبرِ للخُطبة.
          ({مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}) قال البيضاويُّ: {مِنْ} بيان لـ{إذا}.
          وأقول: هي مع ذلك محتملةٌ للتَّبعيض، ولمعنى في وعُدِّي النِّداءُ هنا باللام الاختصاصيَّةِ، وفي الآية الأولى بـ{إلى} التي للانتهاء؛ لأنَّ الأفعالَ تختلفُ صلاتها بحسبِ مقاصِدِ الكلام فقصَد في الأولى إلى الانتهاء، وفي الثَّانيةِ الاختصاص، ويحتملُ أن تكون {إلى} بمعنى اللَّامِ وبالعكس، وللأصيليِّ: <الآية>؛ لأن فيها {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فقيل: {ذِكْرِ اللَّهِ} الخطبة، وقيل: الصَّلاة، ويحتملُ أن يريد به المصنِّف الأذان فتحصلُ المطابقة أيضاً.
          قال في ((فتح الباري)): يشيرُ بالآية الأولى إلى أنَّ ابتداءَ الأذانِ كان بالمدينةِ.
          وذكر بعضُ أهلِ التَّفسير: أنَّ اليهود لمَّا سمعُوا الأذانَ قالوا: لقد أبدَعْتَ يا محمَّد شيئاً لم يكنْ فيما مضَى فنزلت: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة:58] الآية، وقال في الآيةِ الثانية: يشيرُ بذلك أيضاً إلى الابتداءِ؛ لأنَّ ابتداءَ الجمُعةِ إنَّما كان بالمدينةِ، كما سيأتي في بابهِ.
          واختلفَ في السَّنة التي فرضَ فيها، والرَّاجح أنه في السَّنة الأولى، وقيل: في الثَّانية، وروى أبو الشَّيخ عن ابن عبَّاس: أنَّ فرضَ الأذانِ نزلَ مع هذِهِ الآية، انتهى.
          ولعلَّ التَّعبير بالفرضِ على القولِ بهِ.
          وقال ابنُ الملقِّن: واستفتحَ البُخاري بهاتين الآيتينِ إمَّا للتَّبرك، أو لذكرِ الأذان فيهما، أو لأنَّ ذلك كان بدء الأذانِ، وإن كان بالمدينةِ فإنهما مدنيَّتان والحديثان اللَّذان أوردَهُما عقبِ ذلك كانا بالمدينةِ لقوله: كان المسلمونَ حين قدمُوا المدينةَ.
          وقال ابنُ عبَّاس: الأذانُ نزلَ مع الصَّلاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9]، مع أنَّه روي أنَّ الأذان كان ليلةَ الإسراءِ، كما ذكرهُ أحمد بنُ فارس وغيره، وأصلُ مشروعيَّة الأذانِ رؤيةُ عبدِ الله بن زيد المرويُّ في ((سنن)) أبي داود والتِّرمذي والنَّسائي، و((مستدركِ)) الحاكم وغيره، فوافق ما رآه عليه السَّلام تلك اللَّيلة، واقتضَتْ الحكمَةُ الإلهية أن يكون الأذانُ على لسانِ غيره من المؤمنين، لما فيه من التنويهِ من اللهِ بعبدهِ، والرفع لذكرهِ، والتَّفخيم لشأنهِ قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] انتهى.
          وقال في ((فتح الباري)): وردت أحاديث تدلُّ على أنَّ الأذانَ شُرع بمكَّة قبل الهجرة: منها للطَّبراني عن ابن عمر قال: لمَّا أسريَ بالنَّبيِّ صلعم أوحَى الله إليه الأذانَ، / فنزل بهِ فعلَّمَهُ بلالاً.
          ومنها: للدَّارقطنيِّ في ((الأفراد)) عن أنسٍ: أنَّ جبريل أمرَ النَّبيَّ بالأذان حين فرضتِ الصَّلاة.
          ومنها: لابن مردويهِ عن عائشةَ مرفُوعاً: ((لمَّا أسريَ بي أذَّن جبريلُ فظنَّت الملائكة أنَّه يصلِّي بهم فقدَّمَني فصلَّيتُ)).
          ومنها: للبزَّار وغيره عن عليٍّ قال: لمَّا أرادَ الله أن يعلِّم رسوله الأذانَ، أتاهُ جبريلَ بدابةٍ يقالُ لها: البُراقُ فركِبهَا، الحديث. وفيه: ((إذ خرَجَ ملك من الحجَاب فقال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر... إلخ))، وفي آخره: ((ثمَّ أخذ الملك بيدهِ فأمَّ بأهلِ السَّماء)) لكنَّها كلُّها ضعيفة على أنَّ أحاديثَ الإسراء لا دَلالة فيها؛ لاحتمالِ أنه خاصٌّ بتلك اللَّيلة.
          وقال القرطبيُّ: لا يلزم من كونهِ سمعَه ليلةَ الإسراءِ أن يكون مشروعاً في حقِّه، وفيه نظرٌ لقوله في أوَّله: لما أراد الله أن يعلِّم رسوله الأذان... إلخ.
          وقال المحبُّ الطَّبري: يحملُ الأذانُ فيها على اللُّغوي وهو الإعلامُ، وفيه نظرٌ؛ لتصريحهِ فيه بكيفيَّتهِ المشروعةِ، والحقَّ أنَّه لم يصحَّ شيءٌ من هذه الأحاديثِ.
          وقد جزمَ ابنُ المنذر: بأنَّه صلعم كان يصلِّي بغير أذانٍ منذ فرضتِ الصَّلاة بمكَّة إلى أن هاجرَ إلى المدينةِ، وإلى أن وقعَ التَّشاور في ذلك على ما في حديثِ عبدِ الله بن عُمر، ثمَّ حديث عبد الله بن زيدٍ.
          وحاول السُّهيلي الجمعَ بينهما فتكلَّف، والأخذُ بما صحَّ أولى فقالَ بانياً على صحَّة الحكمِ في مجيءِ الأذانِ على لسان الصَّحابي: أنَّ النَّبيَّ صلعم سمعَه فوق سبْعِ سمواتٍ، وهو أقوَى من الوحِي، فلمَّا تأخَّر الأمرُ بالأذان عن فرض الصَّلاة، وأراد إعلامهم بالوقتِ، فرأى الصَّحابي المنام فقصَّها فوافقتْ ما كان النَّبي صلعم سمعَه فقال: ((إنَّها لرؤيا حقٍّ))، وعلمَ حينئذٍ أنَّ مرادَ الله بما رآهُ في السَّماء أن يكونَ سنَّة في الأرض، وتقوَّى ذلك بموافقةِ عمر؛ لأن السَّكينة تنطقُ على لسانهِ.
          وقال القرطبيُّ وغيره: الأذانُ على قلَّة ألفاظِهِ مشتملٌ على مسائلِ العقيدَةِ؛ لأنَّه بدأَ بالأكبريَّة، وهي تتضمَّنُ وجودَ الله تعالى وكمَالهِ، ثمَّ ثنَّى بالتَّوحيد ونفيَ الشَّريك، ثم بإثباتِ الرِّسالة لمحمَّد صلعم، ثم دُعي إلى الطَّاعة المخصُوصة عقبَ الشَّهادة بالرِّسالة؛ لأنها لا تعرفُ إلا من جهة الرَّسول، ثمَّ دعا إلى الفلاحِ وهو البقاءُ الدَّائمُ، وفيه الإشارةُ إلى المعادِ، ثمَّ أعادها توكيداً، ويحصلُ من الأذان الإعلام بدخولِ الوقت، والدُّعاء إلى الجماعةِ، وإظهار شعائر الإسلامِ، والحكمة في اختيارِ القولِ له دون الفعلِ سهولة القولِ وتيسيرهِ لكلِّ أحدٍ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
          وقال الكرمانيُّ: وذكر العلماءُ في حكمةِ الأذان أربعةَ أشياءٍ: إظهارُ شعائرِ الإسلامِ، وكلمةُ التَّوحيد، والإعلامُ بدخولِ وقت الصَّلاة وبمكانها، والدُّعاءُ إلى الجماعة، ثمَّ نقل عياض: أنَّ الأذان كلمةٌ جامعةٌ لعقيدة الإيمان، مشتملةٌ على نوعيه من العقليَّات والنَّقليَّات وإثبات الذَّات وما يستحقُّه من الكمال؛ أي: الصِّفات الوجوديَّة وما يستحقُّه من التَّنزيه؛ أي: الصفات السَّلبيَّة، ولفظ: ((الله أكبر)) مع اختصارها، دالَّة على ما ذكرنا، ثمَّ صرَّح بإثبات الوحدانيَّة ونفي الشِّركة وهو عُمْدة الإيمان.
          ثم صرَّح بالشَّهادة بالرِّسالة لنبيِّنا محمَّد صلعم التي هي قاعدة جميع العباداتِ وموضعها بعد التَّوحيد، ثم دعاهُم إلى الصَّلاة، ثم دعاهُم إلى الفلاحِ، وهو الفوزُ والبقاء في دارِ النَّعيم المقيم.
          وفيه إشعارٌ بالبعث والجزاء، وهو آخر تراجم عقائدِ الإسلام، ثم كرَّر ذلك بإقامةِ الصَّلاة للإعلام بالشُّروع فيها، ليدخل المصلِّي فيها على نيَّة من أمرهِ، وبصيرةٍ من إيمانهِ، ويستشعرَ عظيمَ ما دخلَ فيه، وعظمة حقِّ / من يعبده وجزيل ثوابه، انتهى ملخَّصاً.