الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب استئذان الرجل الإمام لقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا}

          ░113▒ (بابُ اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الإِمَامَ): أي: باب بيان طلبِ الرَّجل الذي من الرَّعية الإذنَ من الإمام؛ أي: في تخلُّفه عن الخروجِ معه في الغزو أو في الرُّجوع من الجيشِ ونحو ذلك، فـــ((استئذان)) مصدر مضاف إلى فاعله، والإمام مفعوله (لِقَوْلِهِ): وفي رواية زيادة: <╡> / وفي نسخة: <تعالى> أي: في أواخر سورة النور ({إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ}): أي: الكاملون في الإيمان ({الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}): أي: من صميم قلوبهم، والموصول خبر المؤمنون، والجملة بأسرها مستأنفة.
          ({وَإِذَا كَانُوا}): أي: المؤمنون ({مَعَهُ}): أي: مع رسوله ({عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ}): أي: كالجمعة والأعياد وتدبير الجهاد والحروب، والمشاورة في الأمور، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة.
          قال البيضاويُّ: وقرئ: ▬على أمر جمع↨ بمعنى: جامع أو مجموع له.
          ({لَمْ يَذْهَبُوا}): أي: من عنده ({حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}): أي: رسوله، فإن شاء أذنَ لهم، وجملة: ((وإذا كانوا معه...إلخ)) معطوفة على الصِّلة، ووقع لأبي ذرٍّ: <{عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} الآية>، ولابن عساكر: <إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}> وحينئذٍ فنتكلَّم على بقية الآية فنقول:
          قال البيضاويُّ: واعتباره في كمالِ الإيمان؛ لأنه كالمصداقُ لصحَّته، والمميِّز للمخلِصِ فيه عن المنافق، فإن ديدنَهُ التَّسلل والفرار، ولتعظيمِ الجرم في الذَّهاب عن مجلس رسول الله صلعم بغير إذنهِ، ولذلك أعاده مؤكداً على أسلوبِ أبلغ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}: أي: فإنه يفيدُ أنَّ المستأذنَ مؤمنٌ لا محالة، وأنَّ الذاهبَ بغير إذن ليس كذلك {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ}: أي: لما يعرضُ لهم من المهمَّات، وفيه أيضاً مبالغة وتضييق الأمرِ {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ}: الأمرُ للإباحة لأنه فوَّضَ الأمرَ إلى رأي رسولهِ ومشيئته، وفيه دليلٌ على أنَّ بعضَ الأحكام مفوَّضة إليه، ومن منعَ من ذلك قيَّد المشيئةَ بأن تكون تابعة لعلمهِ بصدقهِ، فكان المعنى: فأذنَ لمن عَلِمْت أن له عذراً.
          {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ}: أي: بعد الإذنِ فإن الاستئذانَ ولو لعذرٍ قصُور؛ لأنه تقديمٌ لأمرِ الدنيا على أمرِ الدين {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ}: أي: لفرطاتِ العباد، وما يصدرُ منهم من الزَّلات.
          {رَحِيمٌ}: أي: بالتيسيرِ لهم وعدمِ عذابهم إن شاء فضلاً، وهذه الآية نزلتْ كما قال مقاتل في عمر ☺ فإنه استأذنَ في الرجوعِ إلى أهلهِ في غزوة تبوك فأذنَ له، وقال له: ((انطلقْ لست بمنافقٍ)) تعرض بالمنافقين، وفيه دليل على أن الإمامَ إذا جمع الناسَ لتدبيرِ أمرٍ من أمور المسلمين أن لا يرجعوا إلا بإذنهِ، وكذلك إذا خرجوا للغزوِ لا ينبغِي لأحدٍ أن يرجعَ بغير إذنهِ ولا يخالفُ أمير السريَّةِ.
          قال ابنُ التين: هذه الآية احتجَّ بها الحسنُ على أنه ليس لأحدٍ أن يذهبَ من العسكر حتى يستأذنَ الأمير قال: وهذا عند سائر الفُقهاء كان خاصاً بالنَّبي صلعم.
          واعترضه في ((الفتح)) فقال: والذي يظهر أن الخصوصيَّة في عمومِ وجوب الاستئذانِ، وإلا فلو كان ممَّن عينه الإمام فطرأ له ما يقتضِي التَّخلف أو الرجوعَ فإنه يحتاجُ إلى الاستئذان.
          قال القسطلانيُّ تبعاً للعينيِّ: والاحتجاجُ بالآية للترجمةِ في تمام الآية {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ}.انتهى.
          وأقول: في صدرها أيضاً دليلٌ على ما ذكرنا من استئذانِ الرجلِ للإمامِ، وأمَّا الإذن له فلم يذكرهُ البخاري في الترجمة ليقال ما قالاه، فتدبَّر على أن رواية ابنِ عساكر مذكور فيها إلى: {غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
          وقال العينيُّ أخذاً من ((الكشاف)): وجه احتجاجِ المصنف بالآية أنَّ الله تعالى جعل ترك ذهابهم عن مجلسِ رسولِ الله صلعم حتى يستأذنوه ثالثَ الإيمان باللهِ والإيمان برسوله، وجعلها كالتَّسبب له والبساط كذكره...إلخ.
          وقال أيضاً: قال المفسرون: كان النَّبي صلعم / إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجلُ أن يخرجَ من المسجد لحاجة أو عذرٍ لم يخرجٍ حتى يستأذنَ؛ أي: يقوم فيراه النَّبي عليه السلام، فيعرفَ أنَّ له حاجة فيأذنَ له، قال مجاهد: وإذن الإمامِ يوم الجمعة أن يشيرَ بيدِهِ، ولم يأمرْه تعالى بالإذن لكلِّهم، بل قال: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ}.