الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فضل قول الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله}

          ░19▒ (باب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ) أي: باب بيان فضلِ من وردَ فيهم قولُ الله (تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: <╡> ({وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا}) الآيات الثلاث، كذا قدره الشرَّاح، والأولى أن يقدِّر: باب بيان فضلِ قولِ الله تعالى الوارد في شأنِ المقتولين في سبيلِ الله، وإضافةُ ((فضل)) إلى ((قولِ الله)) على معنى في نحو: مكر الليلِ؛ ليبقَى التركيبُ إضافياً، فتأمل.
          وحذف الإسماعيليُّ من الترجمة ((فضل)) كما في ((الفتح)) وقال فيه: وأشارَ بإيرادِ الآية إلى ما ورد في بعضِ طرقِهِ كما سيأتي في المغازي، وفي آخره عند قولِهِ: فأنزلَ الله فيهم: ((بلِّغوا قومَنَا أنا قد لقينَا ربَّنا فرضِيَ عنَّا ورضِينا عنه)) زادَ عمرُ بن يونسَ عن إسحاقَ بن أبي طلحَةَ فنسخَ بعدَمَا قرأنَاهُ زماناً وأنزلَ اللهُ تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران:169] الآية، انتهى.
          قال القسطلانيُّ: وبهذه الزِّيادة تحصل المطابقةُ بين الحديثِ والآية، انتهى.
          والآيات الثَّلاث في أواخرِ سُورة آل عمران: {وَلاَ تَحْسِبَنَّ} بكسر السين وفتحها؛ أي: ولا تظنَّ يا محمد، أو يا من يتأتَّى منه الظنُّ أيَّ شخصٍ كان على حدِّ {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ:31].
          قال البيضاويُّ: نزلَتْ في شهداء أحدٍ، وقيل: في شهداءِ بدرٍ، والخطَابُ لرسولِ الله صلعم أو لكلِّ أحدٍ، وقرأَ هشام بالتاء كالبَاقين، وبالياء على إسنادِهِ إلى ضَمير الرَّسول، أو من يحسب، أو إلى {الَّذِيْنَ قُتِلُوا}، والمفعول الأول محذوف؛ لأنَّه في الأصلِ مبتدأ جائزُ الحذفِ عند القرينةِ، وقرأ ابن عامر: ▬قتَّلوا↨ بالتشديد لكثرة المقتولين.
          ({بَلْ أَحْيَاءٌ}) أي: بل هم أحياءٌ، وقرئ بالنصبِ على: بل أحسبهم أحياءً، انتهى.
          وعبارة ((الكشَّاف)): وقرئ بالياء على: ولا يحسبنَّ رسولُ الله، أو ولا يحسبنَّ حاسبٌ، ويجوز أن يكون {الَّذِيْنَ قُتِلُوا} فاعلاً، ويكون التَّقدير: ولا يحسبنَّهم الذين قتلوا أمواتاً؛ أي: ولا يحسبنَّ الذين قتلوا أنفسَهُم أمواتاً.
          فإن قلت: كيف جازَ حذفُ المفعول الأول، قلتُ: هو في الأصل مبتدأ فحُذِف كما حُذِف المبتدأ في قوله: {أَحْيَاء}، والمعنى: هم أحياءٌ لدَلالة الكلام عليهما، وقرئ: ▬تحسَبن↨ بفتح السين، ▬وقتّلوا↨ بالتشديد، ▬وأحياءً↨ بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء.
          ({عِنْدَ رَبِّهِمْ}) أي: مقرَّبون عندَه، فالظرفُ خبرٌ بعد خبرٍ لهم.
          ({يُرْزَقُونَ}) أي: من الجنَّة، وقال في ((الكشَّاف)): يُرزقون مثل ما يُرزقُ سائرُ الأحياء يأكلونَ ويشربُونَ، وهو توكيدٌ لكونهم أحياءً ووصفٌ لحالهم التي هُم عليها من التَّنعُّم برزقِ اللهِ تعالى، انتهى.
          والجملةُ خبر ثالثٌ لهم المقدَّر.
          ({فَرِحِينَ}) حال من ضمير {يُرْزَقُونَ}، قال العينيُّ: ويجوزُ أن يكونَ صفة {أَحْيَاءٌ}، انتهى.
          وفيه: أن {أَحْيَاءٌ} مرفوعٌ إلا في قراءة شاذة بالنَّصبِ، لو تعرَّض لها العينيُّ لحسن ما قاله، فتدبَّر.
          ({بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}) هذا الجارُ والمجرور متعلِّق بـ{آَتَاهُمُ} أو بيانٌ لما آتاهُم، والجار والمجرورُ الأول متعلِّق بـ{فَرِحِينَ} وما آتاهُم من فضلِهِ هو شرفُ الشَّهادة والفوزِ بالحياةِ الأبديَّةِ، والقُرْب من اللهِ والتَّمتع بنعيمِ الجنَّة، قاله البيضاويُّ.
          ({وَيَسْتَبْشِرُونَ}) أي: ويسرُّون بالبشَارةِ، وهو معطوفٌ على {فَرِحِينَ} لتأويلهِ بيفرحونَ، أو تأويل يستبشرونَ بمستبشرينَ، أو عطفٌ على {يُرْزَقُونَ}.
          ({بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ}) أي: يفرحُونَ بإخوانِهِم المؤمنينالمجاهِدِين الذين لم يقتلوا فلم / يلحقُوا بهم ({مِنْ خَلْفِهِمْ}) أي: الذين من خلفِهم زماناً أو رتبةً ({أَنْ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}) أي: فرحين بأن لا خوفٌ عليهم.
          ({وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}) وقال البيضاويُّ كـ((الكشاف)): بدل من {الذين}، والمعنى: أنهم يستبشرون بما تبيَّن لهم من أمرِ الآخرة وحالِ من تركوا خلفَهُم من المؤمنين، وهو أنَّهم إذا ماتُوا أو قُتلوا كانوا أحياءً حياةً لا يكدِّرُها خوفُ وقوع محذورٍ، وحزنِ فراقِ محبُوبٍ، والآية تدلُّ على أنَّ الإنسانَ غيرُ الهيكلِ المحسُوسِ، بل هو جوهرٌ مدرك بذاتِهِ لا يفنى بخرابِ البدنِ، ولا يتوقَّفُ عليه إدراكهُ وتألمهُ والتذاذُه، ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [غافر:46] الآية، وما روى ابنُ عباسٍ أنه عليه السَّلام قال: ((أروَاحُ الشُّهداءِ في أجوَافِ طيرٍ خُضرٍ تردُ أنهَارَ الجنَّةِ وتأكُلُ من ثِمَارها وتَأوي إلى قَناديل معلَّقة في ظِلِّ العرشِ)) ومن أنكرَ ذلك، ولم ير أن الرُّوح إلا ريحاً وعرضاً، قال: هم أحياءٌ يوم القيامة، وإنما وصفُوا بها في الحالِ لتحقُّقه ودنوِّه، أو أحياء بالذِّكرِ، أو بالإيمان.
          وفيها: حثٌّ على الجهَادِ، وترغيبٌ في الشَّهادةِ، وبعثٌ على ازديادِ الطَّاعَة، وإحمادٌ لمن يتمنَّى لإخوانهِ مثل ما أنعمَ عليه وبُشرَى للمُؤمنين بالفلاحِ، انتهى.
          وسيأتي لذلك بسطٌ قريباً.
          وقال العينيُّ: أي: يفرحون بإخوانهم الذين فارقُوهُم أحياءً يرجون لهم الشَّهادة يقولون: إن قُتِلوا نالوا ما نِلْنا من الفضلِ، وقال السدِّي: يؤتى الشهيدُ بكتابٍ فيه يقدمُ عليك فلانٌ يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيسرُّ بذلك كما يسرُّ أهل الدنيا بقدُومِ غائبهم.
          ({يَسْتَبْشِرُونَ}) كرَّره للتأكيدِ، أو ليتعلَّق به ما هو بيان لقولهِ: {أَلَّا خَوْفٌ}، ويجوزُ أن يكون {يَسْتَبْشِرُونَ} الأول بحالِ إخوانهم، وهذا بحالِ أنفسِهِم، قاله البيضَاويُّ.
          ({بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}) هي ثوابُ أعمَالهم ({وَفَضْلٍ}) أي: زيادةٍ على ثوابهم كقولهِ تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وتنكيرُهما للتَّعظيم ({وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}) قال البيضاويُّ: هذا من جملةِ المستبشر بهِ عطف على {فَضْلٍ}، وقرأَ الكسَائي بالكسر على أنه استئنافٌ معترضٌ دالٌّ على أن ذلك أجرٌ لهم على إيمانهم، مشعرٌ بأنَّ من لا إيمانَ له أعمَاله محبطةٌ وأجورُهُ مضيَّعة، انتهى.
          وقال في ((الكشاف)): ويعضدُ قراءة الكسَائي قراءة عبد الله: ▬والله لا يضيع أجر المؤمنين↨ انتهى.
          قال عبدُ الرحمن بن زيد بنِ أسلم: هذه الآية جمعَتْ المؤمنين كلهم، سواء الشُّهداء وغيرهم، وقلَّ ما ذكرَ اللهُ فضلاً للأنبياء وثواباً أعطَاهُم، إلا ذكرَ ما أعطَى المؤمنين من بعدِهِم.
          وذكر أبو بكر ابنُ مردويه بإسنادهِ إلى جابرِ بن عبد الله قال: نظرَ إلي رسولُ الله صلعم ذات يومٍ فقال: ((يا جابِر مالي أراكَ مُهتماً)) قال: قلت: يا رسولَ الله، استشهدَ أبي وترك عليه ديناً وعيالاً، قال: ((ألا أخبرك، ما كلَّم الله أحداً قط إلا مِن وراءِ حجابٍ، فإنَّه كلَّمَ أباكَ كفَاحاً _قال: على الكِفَاحِ المواجهة_،قال: سلني أُعطِك، قال: أسألُك أن أُرَدَّ إلى الدُّنْيا وأُقتَلَ فيكَ ثانِيةً، فقال الربُّ ╡: إنَّه سَبَقَ منِّي أنَّهم إليها لا يرجعونَ، قال: أي ربِّ فأبلِغْ مَن وَرائِي، فأنزلَ الله ╡: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} حتى أنفذَ الآية)).
          وقال مقاتلٌ: نزلت في قتلى بدرٍ، وكانوا أربعة عشر شهيداً، وروى الإمام أحمدُ بسنده إلى ابنِ عبَّاسٍ مرفوعاً: الشُّهداءُ على بارق نهرٍ ببابِ الجنَّة في قبَّة خضراءَ، يخرجُ عليهم رزقهُم بكرةً وعشيًّا، وقال سعيد بنُ جُبير: لما دخلوا الجنَّة ورأوا ما فيها / من الكرَامةِ للشُّهداء قالوا: يا ليتَ إخواننا الَّذين في الدنيا يعلمونَ ما عرفناهُ من الكرامة، فإذا شهدوا القتَالَ باشرُوها بأنفُسهِم حتَّى يستشهدوا فيصيبُوا ما أصبْنَا من الخَيرِ، فأُخبِر رسُولُ الله صلعم بأمرِهِم وما هُم فيه من الكرامَةِ، وأخبَرَهم أني قد أنزلْتُ على نبيِّكم وأخبرتُهُ بأمرِكُم وما أنتُم فيه فاستبشَروا، فذلك قوله تعَالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران:170] الآية.
          وتمت الآيات الثَّلاث في رواية الأصيلي وكريمة، لا الآيتان فقط كما يوهمه كلام ((الفتح)) ومن تبعه إلا أن يريدَ الآيتين بعد {يُرْزَقُونَ} فافهم.
          وقال في رواية أبي ذر: <{يُرْزَقُونَ} إلى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}>.