الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري

          ░146▒ (بابُ أَهْلِ الدَّارِ) أي: بيانُ حكمِ سكان الدَّار من الحربيين، وإنْ لم يكنْ ملكاً لهم (يُبَيَّتُونَ) بتشديد التحتيَّةِ الثانية المفتوحة مبنيًّا للمجهولِ، والجملةُ مستأنفةٌ؛ أي: إيغارٌ على الحربيين في دورهم بالليلِ بحيث لا يميِّز بين الوِلدانِ وغيرِهِم، يقال: بيَّتَ العدوَّ: أوقعَ بهم ليلاً، والجملةُ خبريةٌ، ويحتمل جعلُها إنشائيَّة بتقدير الاستفهام، فتأمَّل.
          (فَيُصَابُ) بالبناء للمفعول / (الْوِلْدَانُ) نائبُ فاعلِهِ، وهو بكسر الواو، جمعُ وليدٍ كما في ((المصباح)).
          وقال في ((القاموس)): الوَلَدُ محَّركةً، وبالضم والكسر والفتح: واحدٌ وجمعٌ، وقد يُجمَعُ على أولادٍ ووِلدَةٍ وإلدَةٍ _بكسرهما_،ووُلدٍ _بالضم_،ووُلدُكِ مَن دمَّى عَقبَيْكِ؛ أي: مَن نُفِستِ [به] فهو ابنُكِ. والوَليدُ: المولودُ والصَّبيُّ والعبدُ، وأُنثاهُما بهاءٍ، والجمع: الولائِدُ والوِلدانُ، وأمُّ الوَليدِ: الدَّجاجَةُ. انتهى.
          (وَالذَّرَارِيُّ) بفتح الذالِ المعجمة وتخفيف الراءين وكسر الثانية منهما، والياءُ مشدَّدةٌ وقد تُخفَّفُ ساكنة، قاله الكرمانيُّ. جمع ذُرِّيةٍ بضمِّ الذال وتشديدِ الراء.
          قال في ((المصباح)) الذُّرِّيَّةُ: فُعلِيَّةُ من الذَّرِّ، وهُم الصِّغارُ، وتكونُ الذُّرِّيَّة واحِداً وجَمعاً، وفيها ثلاثُ لُغاتٍ أفصحهنَّ ضمُّ الذال، وبها قرأ السَّبعةُ، والثانيةُ كسرها، ويروى عن زيدِ بنِ ثابتٍ، والثالثةُ فتحُ الذال مع تخفيف الراء وِزانُ كريمَةٍ، وبها قرأَ أبانُ بنُ عُثمانَ، وتجمعُ على الذُّرِّيَّات وقد تُجمعُ على الذَّراريِّ، وقد أُطلقَت الذُّرِّيَّة على الآباءِ مجَازاً، وبعضُهُم يجعلُ الذُّرِّيَّةَ مِن ذَرَأ اللهُ الخَلقَ، وتُركَ هَمزتها للتَّخفيف وأصلها فعول. انتهى.
          وعطفُها على الوِدان مِن عطفِ العام على الخاصِّ، فتأمَّلْ.
          وقال شيخُ الإسلامِ: وفي كلامِهِ تكرارٌ؛ إذ الذَّراري هم الوِلدانُ، فالموافقُ للحديثِ النِّساءُ والذَّراري، قال: لكنْ قد تُفسَّر الذُّريةُ بالنِّساء والضُّعفاء فعليه لا تكرارَ، بل هو مِن عطفِ العام على الخاصِّ، والمرادُ بيانُ أنَّه تجوز الغارةُ عليهم ليلاً.
          قال في ((الفتح)): وفُهم مِن تقييده بإصابة مَن ذكر قصرُ الخلاف عليه، وجواز البياتِ إذا عُرِي مِن ذلك. قال أحمدُ: لا بأسَ بالبياتِ، ولا أعلم أحداً ذكره. انتهى.
          ثم ذكر المصنفُ على عادتهِ تفسيرَ ثلاثِ كلماتٍ من القرآنِ توافقُ الحديثَ جمعاً بين المصلحتين، وتبركاً بالأمرينِ لا ثلاثَ آيات، كما قال القسطلانيُّ.
          الأُولى: ({بَيَاتاً}): بفتح الموحدة والتحتيةِ وبالألف ومثناةٍ فوقيةٍ، اسمٌ من البيتوتةِ، كذا في ((التَّنقيح)) و((المصَابيح)) كسلامٍ مِن التَّسليمِ، لكنْ قال البيضاويُّ: بياتاً مصدرٌ وقعَ موقعَ الحال. انتهى.
          ويوافقُه قولُ ((القاموس)): باتَ يفعَلُ كذا، ويَبيتُ ويَباتُ بيتاً وبَياتاً ومَبيتاً وبيتُوتةً؛ أي: يفعَلهُ ليلاً. انتهى.
          وأقولُ: يُؤخذُ مِن حاشية الخفاجِي الجوابُ عن التَّنافي حيث قال: هو في الأصلِ مصدرُ باتَ، انتهى.
          فإنَّه يشيرُ إلى أنه صَارَ اسماً بالاستعمالِ، ثمَّ قال: ويجوزُ أنْ يكونَ نصبَه على الظَّرفية، كذا في جميع النُّسخِ لا نِياماً _بكسر النون وميم آخره_ مِن النَّومِ كما زعمَهُ ابنُ المنيِّر وجعلَه من الترجمَةِ فصار لفظُ: فيصاب الوِلدانُ والذَّراري نياماً ليلاً، ثم تَعقَّبه فقال: العجبُ مِن زيادتهِ نياماً في الترجمةِ، وليس هو في الحديثِ إلا ضمناً؛ لأنَّ الغالبَ عليهم أنهم إذا وقعَ بهم ليلاً كان أكثرهم نياماً، ثمَّ قال: لكنْ ما الحاجةُ إلى التَّقييد بالنوم والحكمُ سواءٌ نياماً كانوا أو أيقاظاً؛ إلا أنَّ يقالَ: إنَّ قتلَهم نياماً أُدخلَ في الاغتيالِ مِن كونهم أيقاظاً، فنبَّه على جوازِ مثلِ ذلك. انتهى.
          قال في ((الفتح)): وقد صُحِّفَ ثم تُكلِّفَ، بل المرادُ بياتاً مِن قوله تعالى في الأعراف: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف:4] أي: فجاءَ أهلَها عذابُنا بعد تكذيبهم كقوم لوطٍ، و{هُمْ قَائِلُونَ} كقومِ شعيبٍ، مِن القيلولةِ نصفَ النَّهار، فـ{أو} للتَّنويع (لَيْلًا) وسُمي الليلُ بياتاً؛ لأنه يُبات فيه.
          وقال صاحبُ ((التلويح)) معترضاً على ابنِ المنيِّر: هذا قولُ البخاريِّ ما لم يقله، والذي رأيتُ في عامةِّ نسخِ البخاريِّ بياتاً بموحدةٍ ومثناة تحتية فألفٍ فمثناةٍ فوقيةٍ، قال: وكأنَّ هذا القائلَ وقعَتْ له نسخةٌ مصحَّفةٌ أو تصحَّفَ عليه بياتاً بنياماً، انتهى.
          وانتصرَ العينيُّ لابنِ المنيِّر فقال: لا يستحقُّ هذا المقدار مِن الحطِّ عليه، وله أن يقولَ: عامةُ ما رأيتُ مِن نُسخ / هذا الصَّحيحِ: ((نياماً)) بالنون والميم. انتهى فتدبَّره.
          الكلمة الثانية: ({لَنُبَيِّتَنَّهُ}) مِن قولهِ تعالى في النَّمل: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل:49] وهو بتحتيَّةٍ مضمومةٍ بعد اللام المفتوحة في ((اليونينية))، وبنونٍ بعد اللام في غيرها، وعليها فهو مِن البيتوتةِ(لَيْلًا) أي: في الليل.
          قال البيضاويُّ: قالوا: أي: قال بعضُهم لبعضٍ: تقاسموا بالله، أمرٌ مقولٌ أو خبرٌ وقع بدلاً أو حالاً بإضمار قد، لنبيتنَّه وأهله؛ أي: لنباغتنَّ صالحاً وأهلَه ليلاً، وقرأ حمزةُ والكسائي بالتاءِ على خطاب بعضهم لبعضٍ، وقرئ بالياء على أنَّ تقاسموا خبرٌ. انتهى.
          الكلمة الثالثة: (يُبَيَّتُ) قال القسطلانيُّ: بمثناةٍ تحتيَّةٍ ثم موحدةٍ مفتوحة فمثناةٍ فوقية مشددةٍ ثم فوقيةٍ مضمومة؛ أي: ليلاً، قال: لكنَّ لفظَ التِّلاوة في سورة النساء: {بيَّت} بموحدةٍ ثم مثناةٍ تحتية مشددة ففوقية مفتوحاتٍ. انتهى.
          وأقولُ: رأيتُه في نسخٍ وفقَ التِّلاوة، وما ذكره القسطلانيُّ من الضَّبط لا يظهرُ له مناسبةٌ هنا. وقال في ((الفتح)): وهذه الأخيرةُ: بيَّتَ، يريد قوله: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} [النساء:81] وهي في السَّبعة. قال أبو عبيدة: كلُّ شيءٍ قُدِّرَ بليلٍ: تَبيَّتَ، قال الشاعر:
هبَّتْ لتَعذلَني بلَيلٍ أَسمَعِ                     سَفَهاً تُبيِّتُكِ المَلامَةُ فاهْجَعِي
          انتهى.
          وقال البيضاويُّ: والتبيُّتُ إمَّا مِن البيتوتةِ؛ لأنَّ الأمورَ تدبَّر بالليلِ، أو مِن بيَّتَ الشِّعرَ أو المبنى؛ لأنَّه يسوي ويدبِّر، وقرأ أبو عَمرو وحمزة: ▬بيَّتَ طائفةٌ↨ بالإدغام لقربهما في المخرجِ. انتهى، وسقطت الكلمةُ الثانيةُ والثالثة لغير أبي ذرٍّ، على ما في ((الفتح)).
          وقال القسطلانيُّ: والَّذي في الفرعِ سقوطُهما عنده. انتهى فليتأمَّل.
          وعبارة العينيِّ: قال بعضُهم: هذه الزِّيادةُ وقعتْ عند غير أبي ذرٍّ، قلت: هذا كلُّه ليس بوجهٍ قويٍّ في الردِّ على ذاك القائلِ؛ لأنَّه لا يلزم مِن ذكر هاتين اللَّفظتين في بعضِ النُّسخ أن يكونَ بياتاً بالموحدة، بل يجوز أن يكونَ بالنون والميم. انتهى فتدبَّره.
          فإنَّ الظاهرَ من كلام ((الفتح)) المذكور ليس للردِّ على كلامِ ابن المنيِّرِ المتقدِّم، بل هو لبيان أنَّ هذه الزِّيادةَ روايةُ غير أبي ذرٍّ، فتأمَّلْه منصِفاً.
          نعمْ قولُ ((التلويح)) يوضِّحُ ما ذكره ما في بعضِ النُّسخِ مِن قول البخاريِّ: لنبيتنَّه ليلاً يبيت ليلاً. انتهى. للردِّ على ابن المنيِّر لكنَّه لا يصلح للردِّ، فافهم.