الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب المكاتب]

          ♫
          ░░50▒▒ فِي المُكَاتَبِ
          (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي المُكَاتَبِ) كذا وقع لأبي ذرٍّ من غير ذكر: بابُ المكاتَب، ولا: كتابُ المكاتَبِ، كذا في العَينيُّ.
          وقال القسطَلانيُّ: ولغير أبي ذرٍّ _كما في ((الفتح))_: <كتابُ المكاتَبِ> بدلَ قولِه: ((في المكاتَبِ)) والبسمَلةُ ثابتةٌ للكلِّ، انتهى.
          ووقع في بعضِ الأصولِ تأخيرُ البسملةِ عن قوله: ((في المكاتب)) ووقع في نسخةِ ابنِ بطَّالٍ: <كتاب المكاتب، باب المكاتب، ونجومِه في كلِّ سنةٍ نجمٌ> من غيرِ بسملةٍ أصلاً، ووقعَ في غيرِه من الشُّروحِ والنُّسَخ تأخيرُ قولِه: ((باب المكاتب...)) إلخ، عن قولِه: ((بابُ إثمِ من قذف مملوكه)) والنُّسَخُ مختلفةٌ، والأمرُ فيه سهلٌ.
          ولنشرَحْ على النُّسَخةِ التي وقعَتْ للقسطلانيِّ وأكثرِ الشُّرَّاح؛ فإنهم ذكروا بعدَ ما شرَحْنا عليه أولاً:
          والمكاتَبُ _بضمِّ الميم وفتح المثناة الفوقية_: الرَّقيقُ الذي يكاتِبُه مولاهُ على مالٍ يؤدِّيه إليه، فإذا أدَّاه عَتَقَ، فإنْ عَجَزَ رُدَّ إلى الرِّقِّ.
          وبكسر التاء: السيدُ الذي يقَعُ منه المكاتبةُ.
          والكتابةُ _بكسر الكاف_: عقدُ عتقٍ بلفظِها بعِوَضٍ منجَّمٍ بنجمَينِ فأكثرَ عند مَنْ يعيِّنُه، وهي خارجةٌ عن قواعدِ المعاملاتِ عند مَنْ يقولُ: إنَّ العبدَ لا يملِكُ؛ لدورانِها بين السَّيد ورقيقِهِ، ولأنَّها بيعُ مالِهِ / بمالِه، وكانتِ الكتَابةُ مُتعارَفةً قبل الإسلام، فأقرَّها الشَّارعُ صلعم.
          وقال الرُّويانيُّ: إنها إسلاميةٌ لم تكنْ في الجاهليَّة، والأولُ هو الصَّحيحُ، وأولُ مَن كُوتِبَ في الإسلامِ من النِّساءِ بَريرةُ، ومن الرِّجالِ فيه: سلمانُ.
          قال في ((الفتح)): وحكى ابنُ التين أنَّ أوَّل مَن كُوتِبَ أبو المؤمِّل، فقال النبيُّ صلعم: ((أَعينوه)) وأوَّلَ مَن كُوتِبَ من النساءِ بَريرةُ كما سيأتي حديثُها، وأولُ مَن كُوتِب بعد النبي صلعم أبو أميةَ مولى عمرَ، ثم سيرينُ مولى أنسٍ، قال: واختُلفَ في تعريفِ الكتابةِ، وأحسَنُه: تعليقُ عتقٍ بصيغةٍ على مُعاوَضةٍ مخصوصةٍ، والكتابةُ خارجةُ عن القياس عندَ مَنْ يقول: إن العبدَ لا يملكُ.
          وقال الكِرمانيُّ: هي بيعُ الرقيقِ من نفسِهِ بدينٍ مؤجَّلٍ يؤدِّيه بنجمَينِ أو أكثرَ، وهي لازمةٌ من جهةِ السيدِ، إلا إنْ عَجَّزَ العبدُ نفسَه، وجائزةٌ للعبدِ على الرَّاجحِ من أقوالٍ فيهما للعُلماء.
          ░1 ▒ (بابُ إِثْمِ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَه) قال في ((الفتح)): ثبتَتْ هذه الترجمةُ للجميعِ هنا إلَّا النَّسفيَّ وأبا ذرٍّ، ولم يذكُرْ مَن أثبتَها حديثاً فيها، قال: ولا أعرِفُ لدُخولِها في أبوابِ المكاتَبِ معنًى، ثم وجدتُها في روايةِ عليِّ بنِ شَبُّويَهْ مقدَّمةً قبلَ كتابِ المكاتَب، فهذا هو المتَّجِه، وعلى هذا فكأنَّ المصنِّفَ ترجمَ بها وأخلى بياضاً ليكتُبَ فيه الحديثَ الواردَ في ذلك، فلم يكتُبْ كما وقعَ في غيرِها، وقد ترجَمَ في كتابِ الحدودِ بابَ قَذفِ العبدِ وأوردَ فيه حديثَ: ((مَنْ قذَفَ مملوكَه وهو بريءٌ مما قال جُلِدَ يومَ القيامة...)) الحديثَ، فلعلَّه أشارَ بذلك إلى أنه يدخُلُ في هذه الأبوابِ، انتهى.
          والأَولى إسقاطُ هذه الترجمةِ؛ لِما لا يخفَى، وقذفُ مملوكِهِ حرامٌ، ولا يجبُ فيه حدٌّ عليه وإنْ كان كاذباً فيه.
          (بابُ الْمُكَاتَبِ) بفتح الفوقية (وَنُجُومِهِ) بالجرِّ عطفاً على ((المكاتَب)) وبالرفع استئنافٌ أو عطفٌ على ((باب)) (فِي كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ) مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه الجارُّ والمجرورُ قبلَه، والجملةُ في مَوضِعِ رفعٍ على الخبريَّةِ لـ ((نجومُه)) السَّابقِ على رفعِه، وسقطَ للنَّسَفيِّ قولُه: ((نجمٌ)) فالجارُّ والمجرورُ في مَوضِعِ نصبٍ على الحال من قوله: ((ونجومِه)) ونجمُ الكتابةِ: هو القَدْرُ المعيَّنُ الذي يؤدِّيه المكاتَبُ في وقتٍ معيَّنٍ، وأصلُه: الكوكبُ الطَّالعُ، ثم سُميَ به الوقتُ، ثم المؤدَّى في الكتابةِ.
          وقال الرافعيُّ: النَّجمُ في الأصلِ: الوقتُ؛ لأنَّ العرَبَ كانوا يبنونَ أمورَهم في المعامَلةِ على طلوعِ النَّجم؛ لأنهم لا يعرِفونَ الحسَابَ، فيقولُ أحدُهم: إذا طلعَ النجمُ الفُلانيُّ أدَّيتُ حقَّكَ، فسُمِّيَتِ الأوقاتُ نجوماً بذلك، ثم سُمِّيَ المؤدَّى في الوقتِ نجماً، وقيل: أصلُه من نجومِ الأنواءِ؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الحِسَابَ، وإنما يحفَظونَ أوقاتَ السَّنةِ بالأنواء، والسَّنةُ ليسَ بقيدٍ، بل مثلُها الشهرُ واليومُ، بل والساعةُ والحينُ إذا تعدَّدا عند مَنْ يشترِطُه.
          (وَقَوْلِهِ تعَالى) أي: في سورة النور، وفي بعض النُّسَخ: <وقولِ الله ╡> بالجرِّ عطفاً على المكاتَبِ.
          قال في ((الفتح)): ساقَ الجميعُ الآيةَ / إلى قولهِ: {الَّذِي آَتَاكُمْ} إلا النسَفيَّ فقال بعد قولِه: ((في كلِّ سنةٍ)): <{وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ}> انتهى، ونتكلَّمُ على الآيةِ باعتبار روايةِ الأكثر.
          ({وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور:33]) أي: يطلُبونَ المكاتَبةَ، كأن يقولَ المملوكُ لسيدِهِ: كاتِبْني، فيقولَ له: كاتَبتُك على ألفٍ مثلاً منجَّماً بنجمَين، إذا أدَّيتَه فأنت حرٌّ، وتمثيلُنا أَولى من قولِ القسطلانيِّ، وهو أن يقولَ الرجلُ لمملوكِهِ... إلخ، فتدبَّرْ.
          ولا بدَّ أن يبيِّنَ عددَ النُّجومِ بنجمَينِ أو أكثرَ عند مَنْ يشترِطُ تعدُّدَها، ولا بدَّ من بيانِ قِسْطِ كلِّ نجمٍ، ولا بدَّ أن تكونَ الكتابةُ لجميعِ الرقيقِ، فلا يصِحُّ كتابةُ بعضِه؛ لأنه حينئذٍ لا يستقِلُّ بالاكتساب، إلا أن يكونَ باقيه حُرًّا، ولا بدَّ أن يقولَ: إذا أدَّيتَ النجومَ فقد عَتِقتَ، ولا بدَّ أن يقبلَ المكاتَبُ الكتابةَ.
          قال في ((الفتح)): وعُرفَ من الترجمةِ اشتراطُ التأجيل في الكتابة، وهو قولُ الشافعيِّ؛ أي: وأحمدَ وقوفاً مع التَّسميةِ، بناءً على أنَّ الكتابةَ مُشتقَّةٌ من الضَّمِّ، وهو ضمُّ بعضِ النجوم إلى بعضٍ، وأقلُّ ما يحصُلُ به الضمُّ نجمان، ولأنه أمكنُ لتحصيلِ القدرةِ على الأداءِ، قال: وذهبَ المالكيَّةُ والحنفيَّةُ إلى جوازِ الكتَابةِ الحالَّةِ، واختارَه بعضُ الشَّافعيةِ كالرُّويانيِّ.
          وقال ابنُ التينِ: لا نصَّ لمالكٍ في ذلك، إلا أنَّ محقِّقي أصحابِهِ شبَّهوه ببيعِ العبدِ من نفسِهِ، واختارَ بعضُ أصحابِ مالكٍ أن لا يكونَ أقلَّ من نجمَين، كقول الشافعيِّ، انتهى.
          وقال البيضَاويُّ: الكِتابُ؛ أي: المكاتَبةُ، وهو أنْ يقولَ الرجلُ لمملوكِهِ: كاتَبتُك على كذا من الكتابِ؛ لأنَّ السَّيدَ كتبَ على نفسِهِ عَتقَه إذا أدَّى المال، أو لأنَّه مما يُكتَبُ لتأجيلِهِ، أو ممَّا من الكَتْبِ بمعنى الجَمعِ؛ لأنَّ العِوضَ يكونُ فيه منجَّماً بنجُومٍ يُضمُّ بعضُها إلى بعضٍ.
          ({مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}) متعلَّقُ الجارِّ والمجرورِ، حالٌ من فاعل: {يَبْتَغُونَ} وهو شاملٌ للعبدِ والأمَةِ وجملةُ: ({فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}) خبرٌ، {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} إنْ جعَلْناه مبتدأً، ودخلَتِ الفاءُ لتضمُّنِ معنى الشرط، وقيل: هو مفعولٌ لمضمَرِ يفسِّرُه: {فَكَاتِبُوهُمْ} على حدِّ: أزَيداً ضربتَه.
          قال البَيضاويُّ: والأمرُ بالمكاتَبةِ للنَّدبِ عند أكثر العلماءِ؛ لأنَّ الكتابةَ مُعاوَضةٌ تتضمَّنُ الإرفاقُ، فلا تجبُ كغيرِها، وقال داودُ: تجبُ المكاتَبةُ للعبد إذا سألَها، وبه قال أيضاً عِكرِمةُ، قال: واحتجاجُ الحنفيَّةِ بإطلاقِه على جوازِ الكتابةِ الحالَّةِ ضعيفٌ؛ لأن المطلَقَ لا يعُمُّ، مع أنَّ العجزَ عن الأداءِ في الحالِ يمنعُ صحَّتَها، كما في السَّلَمِ فيما لا يوجدُ عند المحلِّ.
          وقال أيضاً: {خَيْراً} أمانةً وقدرةً على أداءِ المالِ بالاحتِرافِ، وقد رُويَ مثلُه مرفوعاً، وقيل: صلاحاً في الدِّين، وقيل: مالاً، قال: وضَعفُه ظاهرٌ لفظاً ومعنًى، وهو شرطُ الأمرِ، فلا يلزَمُ من عدَمِهِ عدَمُ الجوازِ.
          وسببُ نزولِ الآيةِ _كما في ((الفتح))_ ما رواه ابنُ إسحاقَ عن خالِهِ عبدِ الله بنِ صَبيحٍ _بفتح الصاد المهملة_ عن أبيه قال: كنتُ مملوكاً لحُوَيطِبِ بنِ عبدِ العُزَّى، فسألتُه الكتابةَ فأبى، فنزلَتْ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ...} الآيةَ، أخرجَه ابنُ السَّكَنِ وغيرُه في ترجمةِ صَبيحٍ في الصَّحابة.
          ({وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}) / بمد همزة الفعلين والأمرِ، كما قال البيضاويُّ: أمرٌ للمَوالي _كما قبلَه_ بأن يبذُلوا لهم شيئاً من أمْوالِهم له، وفي معناهُ حطُّ شَيءٍ من مالِ الكتابةِ، وهو للوجُوبِ عند الأكثرين، ويكفِي أقلُّ متموَّلٍ، وعن عليٍّ ☺: بحَطِّ الرُّبعِ، وعن ابنِ عباسٍ: الثُّلُثِ، وقيل: ندبٌ لهم إلى الإنفاقِ عليهم بعد أنْ يؤدُّوا ويَعتِقوا، وقيل: أمرٌ لأغنياءِ المسلمين بإعانةِ المكاتَبينِ وإعطَائهم سَهْمَهم من الزَّكاةِ، ويحِلُّ للمَولى وإنْ كان غنياً؛ لأنَّه لا يأخُذُ الصَّدقةَ كالدَّائن والمشترِي، ويدُلُّ عليه قولُه عليه السَّلامُ في حديثِ بَريرةَ: ((هو لها صدَقةٌ، ولنا هديَّةٌ))، انتهى.
          بخلاف مُكاتَبي بني هاشمٍ وبني المطَّلبِ، فلا يحِلُّ لهم أخذُها ليدفعوها عن الكِتابةِ إلى مواليهم.
          وقال العَينيُّ: واختُلفَ في الإيتاءِ، فذهبَ الشافعيُّ؛ أي: وأحمدُ، إلى أنه واجبٌ، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: ليس الحَطُّ بواجبٍ، والأمرُ فيه للنَّدبِ والحضِّ على أن يضعَ الرجلُ عن عبدِهِ من مالِ الكتَابةِ شيئاً مسمًّى يستعينُ به على الخلاصِ، واختلفُوا في مقدارِ الذي يُحَطُّ، فقال الشافعيُّ: هو غيرُ مقدَّرٍ، وهو المنقولُ عن سعيدِ بن جُبيرٍ.
          وقال أحمدُ: هو ربعُ المال، وهو مَرويٌّ أيضاً عن عليٍّ، ورُويَ عن ابن مسعودٍ: الثُّلثُ.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: لو كان الإيتاءُ واجباً لَكان مقدَّراً، فإذا امتنعَ السَّيدُ منه رفعَه إلى الحاكمِ. ووجهُ مناسَبةِ الآيةِ للترجمةِ ظاهرٌ.
          (وَقَالَ رَوْحٌ) بفتح الراء وسكون الواو وبالحاء المهملة؛ أي: ابنُ عُبادةَ _بضم العين_ ممَّا وصلَه القاضِي إسماعيلُ في ((أحكام القرآن)) وكذا عبدُ الرَّزاقِ والشافعيُّ من وجهَينِ آخرَين.
          (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بالتَّصغير، هو: عبدُ الملك (قُلْتُ لِعَطَاءٍ) أي: ابنِ أبي رَبَاحٍ (أَوَاجِبٌ عَلَيَّ) بتشديد الياء، إذا طلَبَ منِّي مملوكي الكِتابةَ (إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالاً أَنْ أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ) بضم الهمزة، ولأبي ذرٍّ: <ما أَرَاهُ> بفتحها (إِلاَّ وَاجِباً، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) بفتح العين (قُلْتُ لِعَطَاءٍ: تَأْثُرُهُ) ولأبي ذرٍّ: <أتأثُرُه> بهمزة الاستفهام، والفعلُ _بضم المثلثة بعد الهمزة الساكنة_ يعني: أتنقُلُه (وترويه عَنْ أَحَدٍ؟ قَالَ) أي: عطاءٌ (لاَ) أي: لا أَرويه عن أحدٍ، وظاهرُ هذا أنَّه من روايةِ عَمرِو بنِ دينارٍ عن عطاء.
          قال الحافظُ ابنُ حجَرٍ: وليس كذلك، بلْ وقعَ في هذه الرِّوايةِ تحريفٌ لَزِمَ منه الخطأُ، والصَّوابُ ما رأيتُه في الأصلِ المعتمَدِ من رواية النَّسفيِّ عن البُخاريِّ بلفظ: <وقاله> أي: الوجُوبَ عمرُو بنُ دينارٍ، وفاعلُ ((قلتُ لعطاءٍ: تأثُرُه)) ابنُ جُريجٍ لا عمرٌو، وحينئذٍ فيكونُ قولُه: ((وقال عَمرو بنُ دينارٍ)) مُعترِضاً بين قولِه: ((ما أَراه إلا واجباً)) وبين قوله: ((قلتُ لعطاءٍ: أتأثُرُه؟)) ويؤيِّدُ ذلك ما أخرجَه عبدُ الرزاق والشافعيُّ، ومن طريقِه البَيهقيُّ بسنَدِه عن ابنِ جُريجٍ بلفظ: قال: قلتُ لعطاءٍ: أواجبٌ عليَّ إذا علمتُ أنَّ فيه خيراً أن أُكاتِبَه؟ قال: ما أُراه إلَّا واجباً. قالَها عمرُو بنُ دينارٍ، وقلتُ لعطاء: أتأثُرُها عن أحدٍ؟ قال: لا.
          وقوله: (ثُمَّ أَخْبَرَنِي...) إلخ، من كلامِ ابنِ جُريجٍ، وفاعل: ((أخبرني)) ضميرُ عطاءٍ كما وقعَ مصرَّحاً به / في روايةِ القاضِي إسماعيلَ في ((أحكام القرآن)) ولفظُه: ((قال ابنُ جُرَيجٍ: وأخبرَني عطاءٌ)).
          (أَنَّ مُوسَى بْنَ أَنَسٍ) أي: الصَّحابيَّ المشهورَ، وموسى هذا كان قاضِي البَصرةِ (أَخْبَرَهُ) أي: أخبرَ عطاءً (أَنَّ سِيرِينَ) بكسر السين المهملة فمثناة تحتية ساكنة، هو والدُ محمَّدٍ الإمامِ المشهورِ في التَّعبير، وكان سِيرينُ من سَبيِ عينِ التَّمرِ قُربَ الكوفةِ، فاشتراهُ أنسٌ في خلافةِ أبي بكرٍ، وذكرهُ ابنُ حبَّانَ في ثقاتِ التَّابعين، وروى عن عمرَ وغيرِهِ.
          وقال الكِرمانيُّ: ((سيرين)) كأنَّه تعريبُ شيرينَ، الذي هو بمعنى الحُلوِ، والدُ محمَّدِ بنِ سِيرينَ، من سَبيِ عينِ التَّمرِ، كاتبَه أنسٌ على عشرينَ ألفَ درهمٍ، فأدَّاها وعَتَقَ، انتهى.
          (سَأَلَ أَنَساً) أي: ابنَ مالكٍ الأنصاريَّ، خادمَ رسولِ الله صلعم، ومولى سيرينَ (الْمُكَاتَبَةَ وَكَانَ) أي: سيرينُ، لا أنسٌ، وبذلك صرَّحَ الدَّمامينيُّ نقلاً عن ابنِ المنيِّر، فقال في تفسيرِ: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}: إنَّ المرادَ بالخير المالُ في أظهر التَّفاسير، فإنَّ البخاريَّ قال في حديثِ سِيرينَ: ((وكان كثيرَ المال)) أي: عند سؤالِه الكتابةَ، والبخاريُّ ممَّن يرى أنَّ العبد لا يملِكُ، انتهى.
          (كَثِيرَ الْمَالِ فَأَبَى) أي: فامتنعَ أن يُكاتبَه (فَانْطَلَقَ) أي: سيرينُ (إِلَى عُمَرَ) أي: ابنِ الخطَّاب (☺) فذكر له ذلك، وفي رواية إسماعيلَ بنِ إسحاقَ: ((فاستعداه عليه)) (فَقَالَ) أي: عمرُ لأنسَ (كَاتِبْهُ) أمرٌ له بالمكاتَبةِ (فَأَبَى، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ) بكسر الدال وتشديد الراء فهاء تأنيث، آلةٌ معروفةٌ يُضرَبُ بها (وَيَتْلُو عُمَرُ) ☺ ({فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}) أدَّى اجتهادُ عمرَ إلى أنَّ الأمرَ في الآية للوجوب، وأنسٍ إلى أنَّه للندبِ، وهي مُحتمِلةٌ للأمرَين، لكنَّ الظاهرَ منها ما قاله عمرُ ☺.
          (فَكَاتَبَهُ) أي: فكاتبَ أنسٌ سيرينَ. قال القسطلانيُّ: وقرأتُ في باب تعجيلِ الكتَابةِ من ((المعرفة)) للبيهقيِّ: عن أنسِ بنِ سيرينَ عن أبيه قال: كاتبَني أنسُ بنُ مالكٍ على عشرينَ ألفَ درهمٍ، فأتَيتُه بكتابتِهِ، فأبى أن يقبَلَها منِّي إلَّا بنحوِها، فأتيتُ عمرَ بنَ الخطاب، فذكرتُ ذلك له، فقال: أراد أنسٌ الميراثَ، وكتبَ إلى أنسٍ أن يقبَلَها من الرجلِ، فقَبِلَها.
          وقال الرَّبيعُ: قال الشَّافعي: رُويَ عن عمرَ بن ِالخطاب أنَّ مُكاتباً لأنسٍ جاءَه، فقال: إنِّي أتَيتُ بمكاتَبَتي إلى أنسٍ، فأبى أن يقبَلَها، فقال: أنسٌ يريدُ الميراثَ، ثم أمرَ أنساً أن يقبَلَها، أَحسِبُه قال: فأبى، فقال: فآخذُها فأضَعُها في بيتِ المال، فقَبِلَها أنسٌ، وروى ابنُ أبي شَيبةَ من طريقِ عُبيدِ الله بنِ أبي بكرِ بنِ أنسٍ قال: هذه مُكاتَبةُ أنسٍ عندنا، هذا ما كاتبَ أنسٌ غُلامَه سيرين، كاتبَه على كذا وكذا ألفِ درهمٍ، وعلى غُلامَين يعملانِ مثلَ عمَلِه، انتهى.
          وفي ((الفتح)): روى ابنُ سعدٍ من طريقِ محمدِ بن سِيرينَ قال: كاتَبَ أنسٌ أبي على أربعينَ ألفَ درهمٍ، وروى البيَهقيُّ عن سيرينَ قال: كاتبَني أنسٌ على عشرينَ ألفَ درهمٍ، قال: فإن كانا محفوظَين جُمعَ بينَهما بحملِ أحدِهما على الوزن، والآخرِ على العددِ، انتهى.
          ثم قال: واستُدلَّ بفعلِ عمرَ على أنَّه كان يرى وجوبَ الكتابةِ إذا سألَها العبدُ؛ لأنَّ عمرَ لمَّا ضربَ أنساً على الامتناعِ دلَّ على ذلك، وليسَ ذلك بلازمٍ؛ لاحتمَالِ / أنه أدَّبَه على تركِ المندوبِ المؤكَّدِ. وكذلكَ ما رواه عبدُ الرَّزاقِ أنَّ عثمانَ قال لمَنْ سألَه الكتابةَ: لولا آيةٌ من كتَابِ اللهِ ما فعلتُ، فلا يدُلُّ أيضاً على أنَّه كان يرى الوجوبَ.
          ونقلَ ابنُ حزمٍ القولَ بوجُوبِها عن مسروقٍ والضَّحَّاكِ، زادَ القُرطبيُّ: وعِكرِمةَ، وعن إسحاقَ بنِ راهوَيهِ: مكاتبتُه واجبةٌ إذا طلبَها، ولكن لا يُجبِرُ الحاكمُ السيدَ على ذلك، وللشَّافعيِّ قولٌ بالوجُوب، وبه قال الظاهريَّةُ، واختاره ابنُ جريرٍ الطَّبريُّ.
          قال ابنُ القصَّار: إنما علا عمرُ أنساً بالدِّرَّةِ على وجهِ النُّصحِ لأنسٍ، ولو كانتِ الكتابةُ لَزِمَتْ أنساً لم يأبَ، وإنما ندَبَه عمرُ ☺ إلى الأفضل.
          وقال القرطبيُّ: لمَّا ثبتَ أنَّ رقَبةَ العبدِ وكسبَه مِلكٌ لسيِّدِه دلَّ على أنَّ الأمرَ بكتابتِه غيرُ واجبٍ؛ لأن قوله: خُذْ كسبي وأَعتِقْني يصيرُ بمنزلةِ: أَعتِقْني بلا شيءٍ، وذلك غيرُ واجبٍ اتِّفاقاً.