الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم

          ░8▒ (باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ببناءِ: ((يُصرَعُ)) للمجهولِ ورفعِه؛ بمعنى: يُطرَحُ على الأرضِ في الجهادِ بمعنى: عرَضَ له (فَمَاتَ) سقطَ للنَّسفيِّ أو للمُستمليِّ، وعلى ثبوتِه فهو معطوفٌ على: ((يُصرَعُ)) لأنه بمعنى: يموتُ، أو يُصرَعُ بمعنى: صُرعَ، فإنَّ عطفَ الماضي على المضارعِ أو بالعكسِ جائزٌ لكنَّه قليلٌ بشَرطِ الاتِّحادِ في الزمانِ (فَهُوَ) أي: مَن يُصرعُ في سبيلِ الله (مِنْهُمْ) أي: من المجاهدين حُكماً وثواباً، قال شيخُ الإسلامِ: قيل: الجملةُ جوابُ: ((مَن)) الموصولةِ لتَضمُّنِها معنى الشرطِ، والأوجَهُ أنَّ الجُملةَ استِئنافيةٌ لبيانِ حصولِ فضلِ الجهادِ لمَنْ ذكَرَ، كأنه قيل: كيف يحصُلُ فضلُه له مع أنه لم يُقتَلْ فيه؟ فقيل: لأنه من المجاهدين، انتهى.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ، ويجوزُ الرفعُ، ولأبي ذرٍّ: <╡> بدلَ: ((تعالى)) وفي بعضِ النُّسخِ: <وقولِه تعَالى>؛ أي: في سورةِ النساءِ ({وَمَنْ يَخْرُج}) {مَن} شرطيةٌ، شَرطُها: {يخرُجْ}، وجزاؤها: جملةُ: {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الآتيةُ ({مِنْ بَيْتِهِ}) متعلقٌ بـ{يخرُجْ} ({مُهَاجِراً}) حالٌ من فاعِلِ: {يَخْرُجْ} المستتِرِ الراجعِ إلى: {مَنْ} ({إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ}) متعلقٌ بـ{مُهَاجراً}؛ أي: إلى امتِثالِ أمرِ اللهِ ورسولِه.
          ({ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ}) قال البيضَاويُّ: وقُرئَ: ▬يُدرِكْه↨ بالرفعِ على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: ثم هو يدرِكُه، وبالنصبِ على إضمارِ: أن؛ كقوله:
وألحَقُ بالحِجازِ فأسترِيحا
          وزاد في ((الكشاف)) في وجهِ الرفعِ فقال: وقيل: رفعُ الكافِ منقولٌ من الهاءِ، وكأنه أرادَ أن يقِفَ عليها، ثم نُقلَ حركةُ الهاءِ إلى الكافِ، كقولِه: من عنَزيٍّ سبَّني لم أضرِبُه.
          ({فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ}) أي: ثبَتَ ثوابُه ({عَلَى اللَّهِ}) وقولُه: ({وَقَعَ}: وَجَبَ) تفسيرٌ من البخاريِّ تبِعَ فيه أبا عُبيدةَ في ((المجاز))، وسقطَ للمستَمليِّ، وقال البيضاويُّ: الوقوعُ والوجوبُ متقارِبانِ، والمعنى: ثبَتَ أجرُه عند اللهِ ثبوتَ الأمرِ الواجبِ، انتهى.
          وأما قولُ ((الكشاف)): فقد وجَبَ ثوابُه على الله، وحقيقةُ الوجُوبِ الوقوعُ والسُّقوطُ، والمعنى: فقد علِمَ اللهُ كيف يُثيبُه، وذلك واجبٌ عليه، انتهى؛ فهو على اعتِقادِه.
          وقال في ((الفتح)): أي: يحصُلُ الثوابُ بقصدِ الجهادِ إذا خلصَتِ النِّيةُ، فحالَ بين القاصِدِ وبين الفعلِ مانعٌ، فإنَّ قولَه: {يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} أعمُّ من أن يكونَ بقتلٍ أو وقوعٍ من دابَّةٍ أو غيرِ ذلك، فتُناسبُ الآيةُ الترجمةَ.
          وقد روى الطبريُّ والسُّديُّ وغيرُهما أنَّ الآيةَ نزلَتْ في رجلٍ كان مسلماً مقيماً بمكةَ، فلما سمِعَ قولَه تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] قال لأهلِه وهو مريضٌ: أخرِجوني إلى جهةِ المدينةِ، فأخرَجُوه، فماتَ في الطريقِ، فنزلَتْ، واسمُه: ضَمْرةُ على الصحيحِ، وسمَّى البيضاويُّ الرجلَ: جندب بن ضمْرةَ.
          وعبارةُ ((العمدة)): قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: روى: هُشيمٌ عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ في قولِه تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:100] قال: كان رجلٌ من خُزاعةَ يقالُ له: ضَمْرةُ بنُ العيصِ بنِ ضُمْرةَ / بنِ زِنباعٍ الخُزاعيُّ، لمَّا أُمِروا بالهجرةِ وكان مريضاً، فأمَرَ أهلَه أن يفرِشُوا له على سريرٍ ويحمِلُوه إلى رسولِ الله صلعم، قال: ففعَلُوا، فأتاه الموتُ وهو بالتَّنعيمِ، فنزلتِ الآيةُ، قال: وقد قيلَ في ضَمْرةَ هذا: أبو ضَمْرةَ بنُ العِيصٍ، قال ابنُ عبدِ البَرِّ: الصَّحيحُ أنه ضَمْرةُ لا أبو ضَمْرةَ، روَينا عن زيدِ بنِ حَكيمٍ، عن الحكَمِ بنِ أبانٍ قال: سمِعتُ عِكرِمةَ يقولُ: اسمُ الذي خرَجَ من بيتِه مهاجِراً إلى اللهِ ورسولِه: ضَمْرةُ بنُ العِيصِ، قال عكرمةُ: طلبتُ اسمَه أربعَ عشْرةَ سنةً حتى وقَفتُ عليه، انتهت.
          وقال في ((الكشاف)): رُويَ في قصَّةِ جُندُبَ بنِ ضَمْرةَ أنه لمَّا أدركَه الموتُ أخذَ يصفِّقُ بيمينِه على شمالِه ثم يقولُ: اللهم هذه لك وهذه لرسولِك، أبايعُك على ما يُبايعُك عليه رسولِك، فماتَ حَميداً، فبلَغَ أصحابَ رسولِ اللهِ، فقالوا: لو تُوفِّيَ بالمدينةِ لَكانَ أتَمَّ أجراً، وقال المشركون وهم يضحَكون: ما أدرَكَ هذا ما طلَبَ، فنزلت.
          وقالوا: كلُّ هجرةٍ لغرضٍ دينيٍّ من طلَبِ علمٍ أو حجٍّ أو جهادٍ، أو فِرارٍ إلى بلدٍ يَزدادُ فيه طاعةً أو قَناعةً وزُهداً في الدُّنيا، أو ابتِغاءَ رِزقٍ طيِّبٍ، فهي هجرةٌ إلى اللهِ ورسولِه، وإن أدرَكَه الموتُ في طريقِه، فأجرُه واقعٌ على الله، انتهى.