الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الأجير

          ░120▒ (بَابُ الأَجِيرِ): بفتح الهمزة وبكسر الجيم، ويجمعُ على أجراء؛ أي: هذا باب بيان حُكم الأجير هل يُسْهَم له أم لا.
          قال في ((المصابيح)): مقصُود المصنِّف بالتَّرجمة جواز أخذِ الأجرةِ على الغزو؛ لئلا يقال فيه أخذها على نفسِ الطَّاعة وهو ليسَ / على وفق القواعد، فبين أنَّ الأجيرَ غازٍ في سبيل الله قائمٌ بطاعةِ الله لا باعتبارِ الأجرة، ولهذا يستحقُ السَّهم من الغنيمة، فدلَّ ذلك على أن غرضَ الأجرة غير غرضِ الطَّاعة، وقريب من هذا أخذ أئمَّة المساجد الأرزاقَ فلا يعدُّ ذلك أخذاً للأجرةِ على الطَّاعة، بل على ملازمةِ المسجد للطَّاعة، وليست منها فهي كأجير الغزو، انتهى.
          (وَقَالَ الحَسَنُ): أي: البصري (وَابْنُ سِيرِينَ): هو محمَّد (يُقْسَمُ): بسكون القاف مبنياً للمجهول (لِلْأَجِيرِ مِنَ المَغْنَمِ): أحد الظَّرفين نائب الفاعل، وهذا الأثرُ المعلَّق وصله عبد الرَّزاق عنهما بلفظ: ((يُسْهم للأجير)) ووصله ابنُ أبي شيبة عنهما بلفظ: ((العبدُ والأجيرُ إذا شهدَا القتالَ أُعطيا من الغنيمةِ)).
          قال في ((الفتح)): للأجيرِ في الغزوِ حالان:
          أحدهما: أن يكون استُؤجر للخدمةِ، أو استُؤجر ليقاتلَ، فالأول قال الأوزاعيُّ وأحمد وإسحاق: لا يُسهم له، وقال الأكثر: يُسهم له لحديثِ سلمة: ((كنتُ أجيراً لطلحَةُ أسوسُ فرسَه)) أخرجَه مسلمٌ، وفيه: ((أنَّ النَّبي صلعم أسهمَ له)) وقال النَّووي: لا يُسْهم للأجيرِ إلا إنْ قاتلَ.
          وأمَّا الأجيرُ إذا استُؤجر ليقاتل فقال المالكيَّة والحنفيَّة: لا يُسْهم له، وقال الأكثرُ: له سهمُه.
          وقال أحمدُ: لو استأجرَ الإمام قوماً على الغزوِ لم يُسْهم لهم سوى الأجرةِ.
          وقال الشَّافعي: هذا فيمَن لم يجبْ عليه الجهَاد، أمَّا الحرُّ البالغُ المسلمُ إذا حضرَ الصَّف فإنه يتعينُ عليه الجهادُ فيُسهم له، ولا يستحقُّ أجرةً فإن كان عبداً أو صغيراً رضخَ له، وإن كان ذمِّياً فله الأجرة إن حضرَ بإذن الإمام، ولا يُسهم له ولا يرضخ.
          وقال القسطلانيُّ: خصَّه الشَّافعية بالأجير لغير الجهاد كسياسة الدَّواب، وحفظ الأمتعة، وقد قاتلَ فإن لم يقاتل لم يُقسم له، بل يقتصرُ على الأجرةِ، وزاد القسطلانيُّ: ومحلُّ ذلك في أجير وردت الإجارة على عينهِ، فإن وردَتْ على ذمَّته أُعطي وإن لم يقاتل قال: أمَّا الأجير للجهادِ فإن كان ذمِّياً فله الأجرة دون السَّهم والرَّضخ، وإن كان مسلماً فلا أجرةَ له وهل يستحقُّ السَّهم فيه وجهان:
          أحدهما: نعم وإن لم يقاتلْ.
          والثاني: لا وإنْ قاتل، انتهى ملخصاً.
          (وَأَخَذَ عَطِيَّةُ): بفتح العين وكسر الطاء المهملتين (ابْنُ قَيْسٍ): بفتح القاف وسكون التحتية، هو أبو يحيى الكلاعِي الحمصِي، ويقال: الدِّمشقي، وقال أبو مسهر: كان مَولد عطيَّة بن قيس في حياة رسولِ الله صلعم في سنة سبع، وغزا في خلافة معاوية، وتوفي سنة عشر ومائة، وقيل: كان من التَّابعين، وكان لأبيه صُحبة.
          (فَرَسًا): لم يعلم اسم الفرسِ ولا صاحبه (عَلَى النِّصْفِ): أي: استأجرَ عطيَّة فرساً على أن له نصفَ ما يحصلُ له من الغنيمةِ وقت القسمةِ، ولصَاحبها النَّصف الآخر (فَبَلَغَ): بتخفيف اللام المفتوحة (سَهْمُ الفَرَسِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَخَذَ): أي: عطيَّة (مِائَتَيْنِ): أي: مائتي دينار (وَأَعْطَى): بالبناء للفاعل كـ((أخذ)) المعطوف عليه (صَاحِبَهُ): أي: صاحب الفرس، وفيه إشارة إلى أنَّه مذكر (مِائَتَيْنِ): أي: من الأربعمائة.
          قال في ((الفتح)): هذا جائزٌ عند من يجيزُ المخَابرة، وقال بصحَّته هنا الأوزاعي وأحمد خلافاً للأئمَّة الثلاثة.
          وقال العينيُّ: وهذا الذي فعله عطيَّة لا يجوزُ عند مالك وأبي حنيفةَ والشَّافعي؛ لأنَّها إجارةٌ مجهولةٌ، فإذا وقعَ مثل هذا كان لصاحبِ الدَّابة كراء مثلها، وما أصابَ الرَّاكب في المغنمِ فله.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): وقعَ في روايةِ المستملي بين أثر عطيَّة بن قيس، وحديث يعلى بن أمية: / <باب استعارة الفرسِ في الغزو> وهو خطأ؛ لأنه يستلزمُ أن يخلوَ باب الأجير من حديث مرفوعٍ، ولا مناسبةَ بينه وبين حديث يعلى بن أميَّة، وكأنَّه وجدَ هذه التَّرجمة في الطرَّة خالية من حديث، وظنَّ أن هذا موضعها، وإن كان كذلك فحكمُها حكم التَّرجمة الماضية قريباً، وهي باب الخروج في الفزعِ وحدَّه، وكأنَّه أرادَ أن يوردَ فيها حديث أنس في قصَّة فرس أبي طلحةَ أيضاً، فلم يتَّفق ذلك قال: ويقوي هذا أنَّ ابن شبويه جعلَ هذه التَّرجمة مستقلَّة قبل باب الأجير بغير حديث، وأوردَها الإسماعيليُّ عقبَ باب الأجير، وقال: لم يذكر فيها حديثاً، انتهى.
          وأقول: خلو بابِ الأجير من حديث مرفوعٍ لا يستلزمُ الخطأ، فكم وقعَ للمصنِّف نظيرَ ذلك، فتأمَّل.