الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب البيعة في الحرب أن لا يفروا

          ░110▒ (بابُ البَيْعَةِ) بفتح الموحدة وسكون التحتية؛ أي: باب جوازِ أو وقوعِ مبايعة الإمام (فِي الحَرْبِ) متعلِّق بالبيعةِ أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ أو صفة لها (أَنْ لاَ يَفِرُّوا) بفتح التحتية وكسر الفاء؛ أي: على أن لا يفروا من العدوِّ وإنْ ماتوا، وتقدير الجار بعلى أولى من تقديرهِ بالباء، كما قاله العينيُّ ومن تبعَه بدليل وجودِ <على> في بعض النُّسخ.
          ولقوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) أي: بعض الصَّحابة أو العلماء (عَلَى المَوْتِ) أي: وقال بعضهم: البيعة على الموت، ويجري فيه نظير ما مرَّ في الحرب.
          وقال في ((الفتح)): كأنه أشارَ إلى أنه لا تنافي بين الرِّوايتين؛ لاحتمال أن يكون ذلك في مقامين أو أحدهما يستلزمُ الآخر.
          (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ بدل ((تعالى)): <╡> ({لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنِينَ}) أي: الذين كانوا مع رسول الله صلعم في الحديبية ({إِذْ يُبَايِعُونَكَ}) وتسمى هذه البيعة / بيعة الرِّضوان، و{إذ} ظرف لرضيَ أو حرف تعليل ({تَحْتَ الشَّجَرَةِ}) ظرف لـــ((يبايعونك)) وأل في الشجرة للعهدِ وهي سمُرة، وقيل: أم غيلان.
          قال البيضاويُّ: روي أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لما نزلَ الحديبية بعثَ جواس بن أميَّة الخزاعي إلى أهل مكَّة فهمُّوا به فمنعه الأحابيشُ، فرجعَ فبعث عثمان بن عفَّان ☺ فحبسوهُ فأرجفَ بقتله فدعا رسول الله صلعم أصحابه، وكانوا ألفاً وثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشاً ولا يفرُّوا عنه، وكان جالساً تحت سمُّرة أو سدرة، انتهى.
          فاللام في ((لقوله)) تعليل للبيعة، وقال ابنُ المنير: تعليل لقوله: ((أن لا يفروا)) أي: أنهم بايعوه على الصَّبر، قال: ووجه أخذه منها ما في آخرها من قولهِ تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح:18] أي: في موقف الحربِ، فدلَّ على أنهم أضمروا أن لا يفروا فأعانهم اللهُ على ذلك، واعترض بأن البخاري ذكر الآية عَقِبَ قوله: ((وقال بعضُهم: على الموت)) فتكون تعليلاً له.
          قال في ((الفتح)): ووجه انتزاعِ ذلك منها أن المبايعة فيها مطلقةٌ، وقد أخبرَ سلمة بن الأكوع أنه بايعَ على الموتِ، فدلَّ على أنه المراد منها، ولا تَنافي بين قولهم: بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار؛ لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولابد وهو الذي أنكره نافع، وعدل إلى قوله: ((بل بايعهم على الصبر)) أي: على الثبات وعدم الفرار سواء أفضى بهم ذلك إلى الموت أم لا انتهى ملخصاً.
          وأقول: الأولى أن الآية تعليل للأمرين معاً، ثم رأيت شيخ الإسلام قال: يصح الاستدلال بها لكل من القولين لصدقه بكل منهما، وإن أخبر سلمة بن الأكوع وهو ممن بايع تحت الشجرة أنه بايع على الموت على أن جابراً وغيره أخبروا أنهم بايعوه عليه الصلاة والسلام على أن لا يفروا، ولم يبايعوه على الموت انتهى.