الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[أبواب المحصر]

          ░░27▒▒
          ♫
          قال في ((الفتح)): ثبتت البسملةُ للجميع.
          ░1▒ (باب الْمُحْصَرِ) بإفراد <باب> للأكثر، ورواه أبو ذرٍّ بلفظ: <أبواب المحصر> وهو بضم الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين آخره راء، اسم مفعولٍ من أحصره، وهو شرعاً الممنوعُ في الحجِّ من الوقوف بعرفة أو الطَّواف بالبيت كالمعتمرِ الممنوع من الطَّواف.
          (وَجَزَاءِ الصَّيْدِ) بالجر؛ أي: وفدائه إذا قتله محرمٌ أو حلال (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجر، ويجوز رفعهما عطفاً على ((باب))، ولعلَّه أولى من قول شيخِ الإسلام، / ومن تبعهُ بالرفعِ على الاستئناف ({فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}) أي: مُنعتُم عن الوقوفِ أو الطَّوافِ، يقال: حصرهُ العدوُّ وأحصره حبسَهُ ومنعهُ عن مقصدِهِ، مثل صدَّه وأصدَّهُ.
          وقال القاضِي إسماعيل: الظَّاهرُ أنَّ الإحصارَ بالمرضِ والحصرُ بالعدوِّ، ومنهُ فلما حصر رسولُ الله صلعم، وقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وقال الكسائي: يقال من العدوِّ حَصَرَ فهو محصورٌ، ومن المرضِ أحصرَ فهو محصر، ووافقهُ المبرد والزَّجاج. وحكيَ عن الفراء: أنَّه أجاز كلُّ واحدٍ منهما مكان الآخر.
          ({فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}) أي: فاهدوا، أو فعليكم ما تيسَّرَ، أو فالواجبُ عليكم ما تيسَّرَ من بدنةٍ أو بقرة أو شاةٍ حيث أحصرتم عند أكثرِ العلماء ({وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ}) ليس معطوفاً على {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} كما قالهُ ابن جرير، بل على {فَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ} وسقط لأبي ذرٍّ: <{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ}>... إلخ؛ أي: شعورها أو شيئاً منها وإن طالتْ وخرجت عن حدِّ الرأس بخلافِ الممسوحِ في الوضوء، فإنَّ شرطهُ أن لا يخرج بالمد عن حدِّ الرأس ({حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة 196]) أي: حيث يحلُّ ذبحهُ في الموضع الذي أحصر فيه سواءٌ كان في الحلِّ أو في الحرم، وهذا ما عليه الأكثرُ ومنهم الشَّافعيُّ.
          وقال بعضهم: محلُّ هديِ المحصر الحرم، فإن كان حاجًّا أو معتمراً فمحلُّهُ يوم يبلغُ هديه الحرم.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) أي: ابن أبي رباح في تفسيرِ الآية مما وصلهُ ابن أبي شيبةَ وعبد بن حميدٍ عنه (الإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بَحَبْسِهِ) بموحدة أوله وبفتح الحاء والسين المهملتين؛ أي: باعتبارهِ من مرضٍ أو عدوٍّ، والذي في ((اليونينية)) كما قال القسطلاني <يحبِسه> فعل مضارع مكسور الموحدة قبل السين؛ أي: يمنعهُ فلا يختصُّ بالعدوِّ، بل يشملُ المرض وغيرهما.
          وروى ابن المنذر عن ابن عبَّاس نحوه ولفظهُ: ((فإن أُحصِرتم قال: من أحرَمَ بحجٍّ أو عمرةٍ، ثم حُبِس عن البيت بمرضٍ يجهده أو عدوٍّ يحبسه، فعليه ذبحُ ما استيسر من الهدي))، فإن كانت حجَّةُ الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كان حجَّةً بعد الفريضةِ فلا قضاءَ عليه.
          قال في ((الفتح)): وفي اقتصارهِ على تفسير عطاء إشارةٌ إلى أنَّه اختارَ القول بتعميم الإحصارِ قال: وهي مسألة اختلافٍ بين الصَّحابة وغيرهم فقال كثيرٌ منهم: الإحصار من كلِّ حابسٍ حبس الحاج من عدوٍّ ومرضٍ وغير ذلك، حتى أفتى ابن مسعودٍ رجلاً لُدغ بأنَّه مُحصر، أخرجهُ ابن جرير بإسناد صحيحٍ عنه، انتهى.
          لكن قال القسطلاني: أخرجهُ ابن حزمٍ بإسنادٍ حسن عنه والطحاوي ولفظه عن علقمة قال: لُدِغ صاحبٌ لنا وهو محرِمٌ بعمرَةٍ فذكرناه لابن مسعودٍ فقال: يبعثُ بهدي ويواعدهُ أصحابه موعداً، فإذا نحرَ عنه حلَّ، وبه قال الحنفية ككثيرٍ من الصَّحابة كابن مسعودٍ وزيد بن ثابت قالوا: وإذا قامت الدَّلالة على أن شرعيَّته للحابس مطلقاً، استُفيد جوازهُ لمن سُرِقت نفقتهُ ولا يقدرُ على المشي، وهو قول الحنفية وآخرين.
          وقال مالكٌ والشَّافعي وأحمد وإسحاق والليث بن سعدٍ وآخرون: لا يكونُ الإحصارُ إلَّا بالعدوِّ دون المرض؛ لأنَّ الآية وردت لبيان حكمِ إحصاره عليه السلام وأصحابهِ يوم عمرة الحديبية وكان بالعدوِّ، وقال في سياقِ الآية: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فعلم أن مشروعيَّةَ الإحلال في العدوِّ كان لتحصيلِ الأمن منه، وبالإحلالِ لا ينجو من المرض فلا يكون الإحصارُ بالمرضِ في معناه، فلا يلحقُ به لا دلالةً ولا قياساً، ولأنَّ مشروعيَّةَ التحلُّل قبل الأداء بعد الشُّروع في الإحرام على خلاف القياس فلا يقاسُ عليه.
          قال في ((الفتح)): وفي المسألة قولٌ ثالثٌ حكاهُ ابن جرير وغيره وهو أنَّه لا حصرَ بعد النَّبي صلعم.
          واحتجَّ الشَّافعي أيضاً ومن تابعه بما رواهُ ابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس، وكذا الشَّافعي في ((مسنده)) عن ابن عبَّاس: لا حصرَ إلا حصرَ العدوِّ، فأما من أصابه مرضٌ أو وجعٌ أو ضلال فليس عليه شيءٌ.
          وروى الشَّافعي أيضاً عن ابن عُمر وطاوس والزهري وزيد بن أسلم نحوه.
          وفي ((الموطأ)) عن سالم عن أبيه قال: من حُبس دون البيت بمرضٍ فإنَّه لا يحلُّ حتى يطوفَ بالبيت، وسيأتي بيان كيفيَّة التَّحلُّل في الباب الآتي، وصحَّ هذا المذهب أيضاً عن ابن عبَّاس أخرجه الشَّافعي وعبد الرزاق كلاهما عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عبَّاس قال: لا حصرَ إلا من حبسهُ عدوٌّ فيحل بعمرة، / وليس عليه حجٌّ ولا عمرةٌ، ولا يتحلل بالمرضِ إذا لم يشرطهُ عند الإحرام عند الشَّافعيَّة، فإن شرطهُ كذلك تحلَّل به على المشهور.
          واحتجَّ الحنفية ونحوهم بأنَّ الإحصار هو المنعُ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوصِ السَّبب، وبأنَّ إجماع أهل اللُّغةِ على أنَّ مدلول لفظ الإحصارِ بالعمرة المنعُ الكائنُ بالمرض، والآية وردت بذلك اللفظ.
          وتعقَّبه المحقِّق ابن الهمام: بأنَّهُ ظاهرٌ في أنَّ الإحصارَ خاصٌّ بالمرض، والحصرُ خاصٌّ بالعدوِّ، ويحتملُ أن يراد كون المنعِ بالمرضِ فما صدقات الإحصارِ، فإن أراد الأول وردَ عليه كون الآية لبيان حكمِ الحادثة التي وقعت للرَّسول صلعم وأصحابه ♥، واحتاجَ إلى جوابِ صاحب ((الأسرار)).
          وحاصلهُ أن كون النَّص الوارد لبيان حكم الحادثة قد ينتظمها لفظاً، وقد ينتظمُ غيرها مما يعرفُ به حكمها دلالةً، وهذه الآيةُ كذلك، إذ يُعلم منها حُكم منع العدوِّ بطريق أولى؛ لأنَّ منع العدو حسيٌّ لا يتمكن معهُ من المضيِّ بخلافه في المرض، إذ يمكنُ بالمحمل والمركب والخدم، فإذا جاز التَّحلل مع هذا فمع ذاك أولى، انتهى.
          واحتجَّ أبو حنيفة وموافقيه أيضاً بما رواهُ أحمد عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: ((من كُسِرَ أو عَرَجَ فقَد حلَّ)) قال: فذكرتُ ذلك لابن عبَّاس وأبي هريرة فقالا: صدقَ.
          تتمة: ذكر الملا علي القاري في ((شرح مناسكه)): أنَّ الإحصار على اثني عشرَ نوعاً وفصلها.
          (قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ) أي: البخاريُّ فيما زاده أبو ذرٍّ عن المستملي على عادتهِ الغالبة في تفسيرِ ما يُناسب ما ذكره ({حَصُوراً} [آل عمران:39]) أي: من قوله تعالى في يحيى بن زكريا: {وَحَصُوراً} (لَا يَأتِي النِّسَاءَ) فحصور بمعنى: محصور؛ لأنَّه مُنِع مما يكونُ من الرجال من وطءِ النِّساءِ، مع أنَّ له ما لهم فليس كونه حصوراً؛ لأنَّه كان هيوباً لهنَّ أو لا ذكر له، فإنَّ ذلك نقيصةٌ لا تليقُ بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل المرادُ مدحُ يحيى أنَّه معصومٌ، مبالغاً في حبس النَّفسِ عن الفواحش والقاذورات والملاهي.
          روي أنَّه مرَّ في صباهُ بصبيانٍ يلعبون فدعوهُ للَّعب فقال: ما للَّعبِ خُلِقت، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهنَّ، بل قد يفهم وجود نسلٍ له من دعاء والده زكريا عليه السلام، وهذا التَّفسيرُ نقله الطَّبري عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وغيرهم، وحكاهُ أبو عبيدة في ((المجاز)) وقال: إنَّ له معاني أُخَر أي: فمنها ما نقلهُ ابن أبي حاتمٍ عن ابن عبَّاس: أنَّه الذي لا ينزل الماء.