الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب الحوالة]

          ░(38▒) ♫
          (الحَوَالاَتِ) بالألف والتاء، جمعُ: حَوالةٍ _بفتح الحاء وقد تكسَرُ_ من غير ذكرِ: كتاب، وللمُستَمليِّ كما في الفرع: <كتابُ الحوالاتِ، بسمُ الله الرحمن الرحيم>، وللأكثرِ كما في ((الفتح)): <بسم الله الرحمن الرحيم، بابٌ في الحَوالة>.
          قال: وزاد النسفيُّ والمستمليُّ بعد البسمَلةِ: <كتابُ الحَوالةِ> وما في القسطلانيِّ / ممَّا حكاه عن الحافظِ، فغيرُ محرَّرٍ لمن تأمَّلَه.
          ░1▒ (باب فِي الْحَوَالَةِ) وهي لغةً: مشتقَّةٌ من التَّحويلِ، أو من الحَول، يقال: حالَ عن العَهدِ: انتقَلَ عنه، قال ابنُ الملقِّن: وفي ((نوادر اللحيانيِّ)): أُحيلُه إحالةً وإحالاً، وهي عند الفقهاء: نقلُ دَينٍ من ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ، وأركانُها: مُحيلٌ، ومُحالٌ، ومُحتالٌ عليه، ودَينٌ، وصيغةٌ، وشرطُ صحَّتِها: رضى المحيلِ بلا خلافٍ، وكذا المحتالُ عند الأكثرين خلافاً للحنابلةِ فيما إذا كان المحالُ عليه مَليًّا لا المحتالُ، خلافاً للحنفيَّة ولابنِ شعبانَ من المالكيَّةِ؛ لتفاوُتِ النَّاسِ في الاقتضاءِ، فلعلَّ المحالَ عليه مُعسِرٌ أو مُفلِسٌ، فيتضرَّرُ المحتالُ، إذ لا رجوعَ له على المحيلِ حينئذٍ، ويُشترَطُ تماثُلُ الحقَّينِ جنساً وقَدْراً وصفةً؛ كحُلولٍ وتأجيلٍ وصحَّةٍ وتكسُّرٍ وجودةٍ ورَداءةٍ، ولا يختصُّ جوازُها بالنقدَين خلافاً لبعضِهم.
          قال في ((الفتح)): واختلفَ الفقهاءُ؛ هل هي بيعُ دينٍ بدينٍ رُخِّصَ فيه؛ أي: للحاجةِ، فاستُثنيَ من بيع الدَّينِ بالدَّينِ، أو هي استيفاءٌ؟ وقيل: عقدُ إرفاقٍ مستقِلٍّ، انتهى فتأمَّل.
          (وَهَلْ يَرْجِعُ) أي: المحيلُ، قاله القسطلانيُّ كشيخِ الإسلامِ تَبعاً للعينيِّ، وقال البرماويُّ: ((وهل يرجِعُ)) أي: المحتالُ عن المحيلِ، قال: وفي بعضِها: ببنائه للمفعولِ، انتهى.
          (فِي الْحَوَالَةِ) ولم يجزِمْ بالحُكمِ للاختلافِ فيه. فإن قلنا: إنَّ الحوالةَ عقدٌ لازمٌ؛ فلا يُرجَعُ فيها، وإن قلنا: عقدٌ جائزٌ؛ فيُرجعُ.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصريُّ (وَقَتَادَةُ) أي: ابنُ دعامةَ (إِذَا كَانَ) أي: المحالُ عليه (يَوْمَ) أي: وقتَ (أَحَالَ) أي: المُحيلُ (عَلَيْهِ مَلِيًّا) أصله بالهمز بعد التحتية الساكنة، فأُبدلتِ الهمزةُ ياءً، وأدغمَتِ الياء في الياء (جَازَ) جوابُ: ((إذا)) أي: جازَ هذا الفعلُ؛ وهو الحوالةُ، وحينئذٍ فليس للمُحتالِ أن يرجِعَ على المحُيلِ، وقد وصَلَ أثرَيهما المعلَّقِ ابنُ أبي شيبةَ والأثرَمُ، واللفظُ للثَّاني من طريقِ سعيدِ بن أبي عَروبةَ عنهما أنهما سُئلا عن رجلٍ احتال على رجلٍ فأفلَسَ، قالا: إذا كان مَليًّا يومَ احتالَ عليه، فلا يرجِعُ عليه.
          ومفهومُ قولِهما: إذا كان مليًّا أنه إذا كان مُفلِساً يومَ الحوالةِ يرجِعُ عندهما، وعند أحمدَ: يرجِعُ إذا لم يعلَمِ المحتالُ بإفلاسِ المحالِ عليه، ومذهبُ الشافعيِّ أنَّ المحتالَ لا يرجعُ بحالٍ، ولو أفلَسَ المحالُ عليه أو ماتَ أو جحَدَ وحلَفَ، كما لو تعوَّضَ عن الدَّين ثم تلِفَ، وكذا لو بان المُحالُ عليه عبداً لغيرِ المحيلِ، بل يطالبُه بعد العتقِ.
          وعند المالكيَّةِ: يرجِعُ عليه فيما إذا حصل منه غرورٌ، بأن يكونَ إفلاسُ المحالِ عليه مقترِناً بالحوالةِ وهو جاهلٌ به مع علمِ المحيلِ به، وعند الحنفيَّة: يرجِعُ عليه إذا توِيَ حقُّه.
          قال العينيُّ: وبه قال شُريحٌ وعثمانُ البَتِّيُّ والشعبيُّ والنخعيُّ وآخرون، والتَّوى عند أبي حنيفةَ: إما أن يجحَدَ الحوالةَ ويحلفَ ولا بيِّنةَ عليه، أو يموتَ مفلِساً.
          وقال أبو يوسفَ ومحمدٌ: يحصلُ التَّوَى أيضاً بأن يحكُمَ الحاكمُ بإفلاسِه في حالِ حياتِه، لكن نَقلَ في ((الفتح)) عن أبي حنيفةَ أنه يرجِعُ بالفَلَسِ مطلَقاً، عاشَ أو ماتَ، ولا يرجِعُ عنده بغير الفَلَسِ، قال: وعن الحكَمِ: لا يرجِعُ إلا إذا ماتَ المحالُ عليه، وعن الثوريِّ: يرجِعُ بالموت، وأما بالفَلَسِ فلا يرجِعُ إلا بمَحضَرِ المُحيلِ والمحالِ عليه.
          وقال مالكٌ: لا يرجعُ إلا إنْ غرَّه، علِمَ بإفلاسِه أم لا، وقال الحسنُ وشريحٌ وزُفرُ: الحوالةُ كالكفالةِ، فيرجعُ على أيِّهما شاء، / وبه يُشعِرُ إدخالُ البُخاريِّ أبوابَ الكفالةِ في أبواب الحوالة، قال: وذهب الجمهورُ إلى عدم الرُّجوعِ مطلَقاً، واحتجَّ الشافعيُّ بأنَّ معنى قولِ الرجلِ: أحَلتُه وأبرأَني: حوَّلتُ حقَّه عني، وأثبتُّه على غيري.
          وذكرَ أنَّ محمَّدَ بن الحسَنِ احتجَّ لقوله بحديثِ عثمانَ أنه قال في الحوالةِ أو الكفالةِ: يرجِعُ صاحبُها، لا توًى على مسلمٍ، قال: فسألتُه عن إسنادِه، فذكَرَه عن رجلٍ مجهولٍ عن آخرَ معروفٍ، لكنه منقطِعٌ، فبطلَ الاحتجاجُ به من أوجُهٍ، انتهى باختصار.
          (وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ) ممَّا وصله ابنُ أبي شيبةَ بمعناه (يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ) أي: إذا كان لهما دَينٌ على إنسانٍ، فأفلسَ، أو ماتَ، أو جحَدَ وحلفَ حيثُ لا بيِّنةَ، فيخرُجُ هذا الشريكُ مما وقع في نصيبِ صاحبِه، وذلك الآخرُ كذلك إذا وقعَتِ القسمةُ بالتراضي مع استواءِ الدَّين.
          (وَأَهْلُ الْمِيرَاثِ) أي: وكذلك يتخارَجُ أهلُ الميراثِ، وعطفُه على ما قبله من عطفِ الخاصِّ على العامِّ، فألحقَ المصنِّفُ الورَثةَ بالشريكَين (فَيَأْخُذُ هَذَا) أي: أحدُ الشريكَين (عَيْناً وَهَذَا) أي: الشريكُ الآخَرُ.
          (دَيْناً، فإنْ تَوِيَ) بفتح المثناة الفوقية وكسر الواو، من باب علِمَ، قال ابنُ الملقِّن نقلاً عن ابنِ التِّين: ((تَوِيَ)) ضبطناه: بفتح الواو وسكون الياء، والصوابُ: كسر الواو وفتح الياء على وزن: غَوِيَ، والتَّواءُ: ممدودٌ، وقد يُقصَرُ.
          وقال صاحبُ ((المغيث)) عن أبي بكرٍ في قوله: ((ذاك الذي لا تَوًى عليه)) أي: لا ضياعَ ولا خسارةَ، من قولهم: تَويَ المالُ: هلَكَ، يَتوي، وتَوِيَ حقُّ فلانٍ على غريمِهِ: ذهَبَ، تَوْياً وتَوًى، والقصرُ أجودُ، فهو توٍ وتاوٍ، وقيل: من التو، بمعنى: المنفرِدِ، انتهى؛ أي: بأن هلَكَ.
          (لأَحَدِهِمَا) أي: لأحدِ الشريكَين أو الوارثَين شيءٌ مما أخذَه (لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ) أي: لأنَّه رضي بالدَّينِ عِوَضاً، كما لو اشترى عَيناً فتلفَتْ في يدِه، وألحَقَ المصنِّفُ الحوالةَ بذلك.