الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

كتاب الغسل

          ░░5▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ.كِتَابُ الغُسْلِ)
          قال في ((الفتح)): الأكثر تأخير البسملة، ووجهه: أن الترجمة قائمة مقام اسم السورة، والأحاديث المذكورة بعدها كالآيات المفتتحة بها، وأما وجه تقديمها: فلما مر، ووقع للأصيلي: <باب الغسل>: بإسقاط البسملة، وإبدال (كتاب): بباب، قيل: وهو أولى؛ لأن الكتاب يجمع أنواعاً، والغسل نوع واحد، من أنواع الطهارة، وإن كان في نفسه متعدداً.
          والغُسل _بضم الغين_ اسم الاغتسال، وقيل: الماء، وأما المصدر، ففيه الضم والفتح، قاله الأصمعي، لكن الأشهر فيه الفتح لغة، والأشهر عند الفقهاء الضم.
          وقال الكرماني: الغُسل _بالضم_ اسم للاغتسال، وأيضاً: اسم للماء الذي يغسل به، وجمع الغسل، وهو ما يغسل به الثوب من الأشنان ونحوه، وأما الغَسل _بالفتح_ فهو مصدر غسل الشيء غسلاً، وبالكسر: اسم لما يغسل به الرأس من السدر وغيره.
          وقال النووي في ((شرح مسلم)): إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر: فيجوز فيه الضم والفتح، وقيل: إن كان مصدر الغسل، فهو بالفتح، وإن كان بمعنى الاغتسال فبالضم. انتهى.
          وقيل: المصدر: بالفتح، والاغتسال: بالضم.
          وقال أبو زيد: الغَسل _بالفتح_ فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذي يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء كالأشنان.
          وحقيقة الغسل لغة: السيلان مطلقاً، وشرعاً: جريان الماء / على البشرة والشعر بنية أو لا؛ لكن اشترط كثير من الفقهاء النية، ومنهم السادة الشافعية، ولا يشترط فيه الدلك عند الأكثر، واشترطه المالكية والمزني، واحتج المزني بالقياس على الوضوء، واحتج ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب في الغسل لعدم الفرق بينهما.
          ورد: بأنا لا نسلم وجوب الدلك في الوضوء أيضاً، وبأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للتوضئ من غير إمرار، فبطل دعوى الإجماع، وانتفت الملازمة.
          ولما فرغ المؤلف من الكلام على الطهارة الصغرى، شرع في الكلام على الطهارة الكبرى مقدماً الأولى لأكثريتها، ومصدراً في الكبرى بآيتين، ليشير إلى أن وجوب الغسل بنص القرآن أيضاً، فقال مقدماً آية المائدة؛ لأنها مجملة، وآية النساء مفصلة فقال: (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): بالجر، أو الرفع، وللأصيلي: <╡>، وفي بعض النسخ: (وقول الله) ({وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6]): المراد: الاغتسال الأكبر عن الحدث لا عن النجاسة، والطهارة أعم من كونها عن حدث أو خبث، فلا ينافي ما في الحديث من قوله صلعم: (سبحان الله إن المؤمن لا ينجس): لأنه محمول على الطهارة عن نجاسة البدن المعنوية لا الحسية. والجنب: من إصابته بجنابة، يستوي فيه المذكر، والمؤنث، والواحد، والجمع، لجريانه مجرى المصدر، ومثل الجنب: الحائض والنفساء إذا طهرتا
          ({وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى}): أي: مرضاً يخاف معه من استعمال الماء، أو مرضاً يمنعكم عن الوصول إليه لضعفكم وعجزكم، روى ابن أبي حاتم عن مجاهد: أنها نزلت في مريض الأنصار، لم يكن له خادم، ولم يستطيع أن يقوم ويتوضأ
          ({أَوْ عَلَى سَفَرٍ}): ولو قصيراً، حيث لم تجدوا فيه ماء لما روى البغوي بسنده إلى جابر أنه قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر، فشجه في رأسه فاحتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي أخبر بذلك، قال: (قتلوه قتلهم الله، ألَا سَألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده)
          ({أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ}) [المائدة:6]: أي: أو حدثتم، إذ الغائط أصله: المكان المطمئن من الأرض، ثم كنى به عن الخارج من أحد السبيلين
          ({أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}): أي: لمستم المشتهيات من غير المحارم؛ أي: مسستم بشرتهن ببشرتكم، بدليل قراءة حمزة، والكسائي: {أَو لَمَسْتُم} هنا وفي المائدة، وهذا مذهب الشافعية مطلقاً، والمالكية والحنابلة: بشرط حصول الشهوة، وهو مذهب ابن مسعود، وابن عمر، وبعض التابعين، وذهب كثيرون منهم الحنفية إلى أن ({لَامَسْتُمُ}): بمعنى: جامعتم، وحملوا قراءة: {لَمَسْتُم} عليه، وإن كان خلاف الظاهر لما قام عندهم من الأدلة، وهو مذهب علي، وابن عباس، وأكثر الصحابة، والتابعين، والاحتجاج لهذه المذاهب مما يطول، وقد تقرر في الفروع
          ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6]): يريد: فلم تتمكنوا من استعماله، إذ الممنوع عنه كالمفقود.
          قال البيضاوي: ووجه هذا التقسيم: أن المترخص بالتيمم، إما محدث، أو جنب، والحال المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر، والجنب لما سبق ذكر، اقتصر على بيان حاله، والمحدث لما لم يجر ذكره، ذكر أسباب ما يحدث بالذات، وما يحدث بالعرض، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب، وبيان العذر مجملاً، فكأنه قيل: وإن كنتم جنباً مرضى، أو على سفر، أو محدثين جئتم من الغائط، أو لمستم النساء، فلم تجدوا ماء ({فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}): أي: اقصدوا تراباً طهوراً، وهو مذهب الشافعي لما صح من قوله صلعم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، وفي رواية (وتربتها طهوراً) ولما قاله ابن عباس: الصعيد: هو التراب، وهو مذهب الحنفية، وكلما يصعد على الأرض من جنسها، وقيل: طيباً حلالاً، وتمام البحث يأتي _إن شاء الله_ في محله
          ({فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6]): أي: من الصعيد، وهو التراب، ويقدر في منه آية النساء لتتوافق الآيتان، ومن للتبعيض كما هو الظاهر من المقام، وقال الحنفية: لابتداء الغاية.
          وتبرأ منه في ((الكشاف)) حيث قال: قالوا: إن من لابتداء الغاية، ثم قال: وهو قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن الماء، ومن التراب إلا معنى التبعيض، والإذعان للحق أحق من المراء. انتهى.
          ولا بد في مسح اليدين من المسح إلى المرفقين لما ورد أنه عليه الصلاة والسلام تيمم، ومسح يديه إلى مرفقيه، / وللقياس على الوضوء، وعند الحنابلة والمالكية: الفرض أن يديه تمسح إلى كوعيه فقط؛ ولكن يسن إلى مرفقيه
          ({مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6]): أي: لم يفترض عليكم ما ذكر للضيق عليكم ({وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}): أي: من الأحداث أو الذنوب؛ فإن الوضوء مكفراً لها، أو ليطهركم بالتراب إذا فقدتم الماء، فمفعول ({يريد}) في الموضعين محذوف، واللام لام الجحود وهي للتعليل، وقيل: زائدة، والمعنى: ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج، حتى لا يرخص لكم في التيمم؛ ولكن يريد تطهيركم ({وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}): بشرعه ما يطهر أبدانكم، ويكفر ذنوبكم، أو ليتم برخصته إنعامه عليكم بعزائمه ({لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]): أي: نعمته فيزيدها عليكم.
          قال البيضاوي: والآية مشتملة على سبعة أمور، كلها مثنى: طهارتان: أصل، وبدل، والأصل اثنان: مستوعب، وغير مستوعب، وغير المستوعب: باعتبار الفعل: غسل ومسح، وباعتبار المحل:محدود، وغير محدود، وأن آلتهما: مائع، وجامد، وموجبها: حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إليه: مرض أو سفر، وأن الموعود عليها: تطهير الذنوب وإتمام النعمة
          (وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ} [النساء:43]): أي: لا تقوموا إليها ({وَأَنْتُمْ سُكَارَى}): أي: من نحو نوم أو خمر ({حَتَّى تَعْلَمُوا}): أي: تنتبهوا أو تعلموا ({مَا تَقُولُونَ}): أي: ما تتكلمون به في صلاتكم، سبب ورودها: أن عبد الرحمن بن عوف صنع مأدبة، ودعا نفراً من الصحابة قبل تحريم الخمر، فأكلوا وشربوا، حتى ثملوا، وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم _قيل: هو علي_ ليصلي بهم فقرأ في {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]:أعبد ما تعبدون، فنزلت.
          وقال الضحاك: عني به سكر النوم، لا سكر الخمر، وقيل: أراد بالصلاة: مواضعها، وليس المراد منها حينئذ نهي السكران عن قربان الصلاة، وإنما المراد: النهي عن الإفراط في الشرب، وقرئ:{سُكَارَى}: بضم السين، و {سَكْرى} [الحج:2]: بفتحها على أنه جمع كهلكى أو مفرد بمعنى: وأنتم قوم سكرى، وقرئ: ▬سُكْرى↨: كحبلي على أنها صفة الجماعة
          ({وَلَا جُنُباً}): عطف على محل:({وَأَنتُمْ سُكَارَى}) الواقعة حالاً ({إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}): فعلى أن المراد النهي عن الصلاة: لا تقربوا الصلاة حال كونكم مسافرين إذا فقدتم الماء؛ فإنه جائز حينئذٍ للصلاة، وعلى الثاني: لا تقربوا مواضع المسكن في حال السكر، ولا في حال الجنابة، إلا حال العبور، فيجوز لكم المرور لا اللبث، وعليه أكثر السلف والخلف، ولم يجوز الحنفية للجنب المرور في المساجد، وحملوا الآية على المعنى الأول
          وقوله: ({حَتَّى تَغْتَسِلُوا}): متعلق بــ({لاَ تَقْرَبُواْ})، فهو غاية للنهي عن القربان حال الجنابة، وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرز عما يلهيه، ويشغل قلبه، ويزكي نفسه عما يجب تطهيرها عنه.
          وقوله: ({وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}): تقدم الكلام عليه قريباً ({إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوَّاً}): يتجاوز عنكم ({غَفُورَاً} [النساء:43]): يستركم، فلذلك يسر الأمر عليكم، ورخص لكم.
          وقد ذكرنا الآيتين بتمامهما، وفسرناهما لذكرهما في (الفرع) كذلك، ولابن عساكر في الأولى: <{فَتَيَمَّمُوا} إلى قوله: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}> وفي رواية له: <{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] الآية>، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني، والأصيلي: <{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}>
          وأما الآية الثانية: فلأبوي ذر والوقت، والأصيلي:<{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}إلى قوله: {عَفُوَّاً غَفُورَاً}> وفي رواية:({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} الآية إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوَّاً غَفُورَاً} [النساء:43]).
          تنبيه: قدمنا عن الحافظ ابن حجر أنه قال: قدم آية المائدة على آية النساء لدقيقة، وهي أن لفظ التي في المائدة: ({فَاطَّهَّرُوا}) ففيها إجمال، ولفظ التي في النساء:({حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ}) ففيها تصريح بالاغتسال، وبيان للتطهير المذكور، ودل على أن المراد بقوله تعالى: ({فَاطَّهَّرُوا}): فاغتسلوا قوله تعالى في الحائض: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] أي: اغتسلن اتفاقاً، ودلت آية النساء على أن استباحة الجنب الصلاة، وكذا اللبث في المسجد، يتوقف على الاغتسال، وحقيقة الاغتسال: غسل جميع الأعضاء، مع مميز ما للعبادة عما للعادة بالنية. انتهى.
          واعترضه العيني فقال: لا إجمال في:({فَاطَّهَّرُوا})؛ لأن معناه: طهروا أبدانكم، كما ذكرنا، وتطهير البدن هو الاغتسال، ولا إجمال لا لغة، ولا اصطلاحاً على ما لا يخفى. انتهى.
          وأقول: ما قاله في ((الفتح)) من / أن الآية فيها إجمال ظاهر، وإن لم يجب عنه في ((الانتقاض)):لأن قوله: ({فَاطَّهَّرُوا}) معناه: أوجدوا الطهارة، وهي صادقة بطهارة أعضاء الوضوء، وبطهارة جميع البدن، وبكونها بنية أو لا، فهي مجمل؛ لأنه ما لم تتضح دلالته، وهي هنا كذلك، وأما قوله: ({حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ}): فمدلوله غسل جميع الأعضاء، إذ حقيقة الاغتسال: جريان الماء على جميع البدن بنية شرعاً عندنا، وهو بين لا خفاء فيه، وإذا علمت ذلك ظهر لك اندفاع اعتراض العيني المذكور؛ لأن ({فَاطَّهَّرُوا}): ليس معناه ما ذكره بخصوصه بل أعم؛ وكأنه ظن أن ذلك معناه؛ لكونه مراداً من الآية بالاتفاق، وهذا لا نزاع، إنما النزاع في الدلالة عليه بخصوصه، ولا خفاء بين المقامين.
          ولا يقال: يخرج عن كونه مجملاً لاقترانه بقوله: ({جُنُباً}) لتعيين المراد به منه بناء على الأصح: أن المجمل: ما لم تتضح دلالته ولو بقرينة، خلافاً لبعض الأصوليين؛ لأنا نقول: يجوز أن يكون ({جُنُباً}):على طهارة جميع البدن لولا آية النساء، أو بيان الشارع، بل يجوز لولا ما ذكر أن يكفي الجنب غسل أعضاءه فقط، ويكون الاكتفاء بذلك تخفيفاً منه تعالى، وإن كان الحكم الثابت هو غسل جميع البدن إجماعاً، وكلامنا إنما هو في دلالة اللفظ لا في المراد منه؛ فإن ذلك لا ينازع فيه أحد.
          ولا يقال أيضاً:إن تقدم حكم الطهارة الصغرى في صدر آية المائدة يدل على أن المراد هنا الطهارة الكبرى؛ لأنا نقول مع ذلك: يجوز أن يكون المقصود من قوله: ({فَاطَّهَّرُوا}) لولا آية النساء، أو بيان الشارع الطهارة المفصلة في صدر الآية التي هي الصغرى، فتأمل، وأنصف.