الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب الجزية والموادعة]

          ░░58▒▒
          ♫
          ░1▒ (باب الْجِزْيَةِ) قال في ((الفتح)): كذا للأكثرِ، قال: ووقعَ عندَ ابنِ بطالٍ وأبي نُعيمٍ: <كتابُ الجِزيةِ>، ووقعَ لجميعِهم البسمَلةُ أولَه سوى أبي ذرٍّ، انتهى / .
          أي: فإنه أسقطَها، لا أنه ذكَرَها مؤخَّرةً، كما قد يُتوهَّمُ من هذا الكلامِ كما صرَّحَ بالإسقاطِ غيرُه، فافهم.
          وقال في ((الفتح)): الصوابُ: إثباتُ: <كتاب> ويكونُ معقوداً للجِزيةِ والمهادَنةِ، والأبوابُ بعد ذلك مفرَّعةٌ على الكتابِ، و((الجِزيةِ)) بكسر الجيم وسكون الزاي، تطلَقُ على العَقدِ، وعلى المالِ المجعولِ على أهلِ الذِّمَّةِ ليسكُنُوا في ديارِ الإسلامِ، أو ليحقِنُوا دماءَهم وذَرارِيَهم وأموالَهم، أو لنكُفَّ عن قتالِهم، مأخوذةٌ من: جزَأتُ الشيءَ؛ إذا قسمتَه، ثم سُهِّلَت الهمزةُ، أو من الجزاءِ؛ لأنها جزاءُ ترْكِنا لهم في بلادِ المسلمين، أو من الإجزاءِ؛ لأنَّها تَجزي، بمعنى: تَكفِي في عصمتِه مَن تُجعلُ عليه.
          (وَالْمُوَادَعَةِ) بضم الميم وفتح الواو والدال والعين المهملتين، عطفٌ على: ((الجِزيةِ))، وهي مصدرُ: وادَعَ؛ كقاتَلَ، تارَكَ.
          وقال الكرمانيُّ: الموادَعةُ: المصالَحةُ، والمرادُ بها كما في ((الفتح)): متارَكةُ أهلِ الحربِ مدَّةً معيَّنةً لمصلحةٍ، وهي المهادَنةُ، والحكمةُ في مشروعيَّتِها أن الذُّلَّ بوضعِها قد يُلجِئُهم إلى الدخولِ في الإسلامِ مع ما في مخالطَتِهم للمسلمين من الاطِّلاعِ على محاسِنِ الشريعةِ ودينِ الإسلامِ، وشُرِعَتْ في سنةِ ثمانٍ، وقيل: تسعٍ.
          وقوله: (مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ والْحَرْبِ) حالٌ من: ((الجِزيةِ والموادَعةِ)) على سبيلِ اللفِّ والنَّشرِ المرتَّبِ؛ لأنَّ الجِزيةَ مع أهلِ الذِّمَّةِ، والموادَعةَ مع أهلِ الحربِ، انتهى.
          و((الذِّمَّةِ)) بمعنى: العهدِ والأمانِ، والمرادُ بهم: أهلُ الكتابِ، و((الحربِ)) ضدِّ: الصُّلحِ، معطوفٌ على: ((الذِّمَّةِ))، وأهلُه أعمُّ من أهلِ الذِّمَّةِ.
          (وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجر، عطفٌ على: ((الجِزيةِ)) أو: ((الموادَعةِ)) ({قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ}) هذه الآيةُ في سورةِ براءةَ، نزلَتْ _كما قال مجاهدٌ_ حين أُمرَ رسولُ الله صلعم بقتالِ الرومِ، وذلك سنة تسعٍ من الهجرةِ.
          وقال الكلبيُّ: نزلت في بني قُرَيظةَ والنَّضيرِ، فكانت أولَ جِزيةٍ أصابَها أهلُ الإسلامِ، وأولَ ذلٍّ أصابَ أهلَ الكتابِ بأيدي المسلمين، فهذه الآيةُ في الأصلِ في مشروعيةِ الجزيةِ، ودلَّ منطوقُ الآيةِ على مشروعيَّتِها مع أهلِ الكتابِ، ومفهومُها أنَّ غيرَهم لا يشارِكُهم فيها، قاله في ((الفتح)).
          وقال ابنُ حجَرٍ المكيُّ في ((التحفة)): وتنقطِعُ مشروعيتُها بنزولِ عيسى عليه السلام؛ لأنه لا يبقى لهم حينئذٍ شُبهةٌ بوجهٍ، فلم يُقبَلْ منهم الإسلامُ، قال: وهذا من شَرعِنا؛ لأنه إنما ينزِلُ حاكِماً به متلقِّياً له عنه صلعم من القرآنِ والسنةِ والإجماعِ، أو عن اجتهادِه مستمَدًّا من هذه الثلاثةِ.
          والظاهرُ أن المذاهبَ في زمنِه لا يَعمَلُ منها إلا بما يوافِقُ ما يراه؛ لأنه لا مجالَ للاجتهادِ مع النصِّ أو اجتِهادِ النبيِّ عليه السلام؛ لأنه لا يُخطِئُ، كما هو الصوابُ، وأركانُها: عاقدٌ، ومعقودٌ له، ومكانٌ، ومالٌ، وصيغةٌ، انتهى.
          ومعنى: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ} أنهم لا يؤمنون بهما على ما ينبغي؛ لأنهم يقولون: إنَّ المسيحَ ابنُ اللهِ تعالى اللهُ عن ذلك، فإيمانُهم كَلَا إيمانٍ.
          ({وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:29]) قال القسطلانيُّ: وساقَ في روايةِ أبي ذرٍّ وابنِ عساكرَ إلى قوِله: <{وَلاَ يُحَرِّمُونَ}> ثم قال: <إلى قولِه: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}> قال شيخُ الإسلامِ ومَن تبِعَه: يعني: الخمرَ والميسِرَ، انتهى.
          ولو حُملَ على أعمَّ منهما لَكان أَولى، ولذا قال البيضاويُّ: ما ثبَتَ تحريمُه بالكتابِ والسُّنةِ، وقيل: رسولُه هو الذي يزعُمونَ اتِّباعَه، والمعنى أنهم يُخالِفُون أصل َدينِهم المنسوخِ اعتِقاداً / وعمَلاً، انتهى، فتأمله.
          (وَلاَ يَدِينُونَ) بفتحِ أوله وكسرِ الدال؛ أي: ولا يتديَّنون (دِينَ الْحَقِّ) أي: بدينِ الإسلامِ الثابتِ الناسخِ سائرَ الأديانِ ومُبطِلِها.
          وقال البغَويُّ: أي: ولا يَدينُونَ الدِّينَ الحقَّ، أضافَ الاسمَ إلى الصفةِ، وقال قتادةُ: الحقُّ هو اللهُ؛ أي: ولا يَدينُونَ دينَ اللهِ، ودينُه الإسلامُ.
          وقال أبو عبيدةَ: معناه: ولا يُطيعون اللهَ طاعةَ أهلِ الحقِّ.
          ({مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}) متعلقٌ بمحذوفِ حالٍ منِ: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} قال البغَويُّ: يعني: اليهودَ والنصَارى، انتهى.
          والأَولى التعميمُ ليشمَلَ كلَّ مَن لهم كتابٌ من غيرِهم؛ كزاعمِ التمسُّكِ بصُحفِ شِيثَ وصُحفِ إبراهيمَ وزَبورِ داودَ، فإنَّ هؤلاءِ تُعقَدُ لهم الجِزيةُ أيضاً، و((الـ)) في {الْكِتَابَ} للجِنسِ.
          وقوله: ({حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}) أي: إن لم يُسلِموا، غايةٌ لـ{قاتِلُوا}، و{الْجِزْيَةَ} هي: الخَراجُ المضروبُ على رِقابِهم، قاله البغويُّ.
          وقال البيضاويُّ: الجِزيةُ: ما تقرَّرَ عليهم أن يُعطُوه، مشتقٌّ من: جَزى دَينَه؛ إذا قضاه.
          ({عَنْ يَدٍ}) قال البيضاويُّ: حالٌ من الضميرِ في: {يُعْطُوا} أي: عن يدٍ مُواتيةٍ؛ بمعنى: منقادِينَ، أو عن يدِهم بمعنى: مسلِّمين بأيديهم، غيرَ باعثين بأيدي غيرِهم، ولذلك مُنعَ من التوكُّلِ فيه، أو عن غِنى، ولذلك قيل: لا تؤخَذُ من الفقيرِ، أو عن يدٍ قاهرةٍ عليهم بمعنى: عاجِزين أذِلَّاءَ، أو من الجزيةِ؛ يعني: نَقْداً مسلَّمةً عن يدٍ إلى يدٍ، أو عن إنعامٍ عليهم، فإنَّ إبقاءَهم بالجِزيةِ نعمةٌ عظيمةٌ.
          ({وَهُمْ صَاغِرُونَ}) أي: أذلاءُ، وعن ابنِ عباسٍ ☻: تؤخَذُ الجزيةُ من الذمِّيِّ ويوجَأُ عنُقُه، ومفهومُ الآيةِ يقتضي تخصيصَ الجِزيةِ بأهلِ الكتابِ، ويؤيدُه أنَّ عمرَ لم يكُنْ يأخذُ الجزيةَ من المجوسِ حتى شهِدَ عنده عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ أنه عليه الصلاةُ والسَّلامُ أخذَها من مجوسِ هَجَرَ، وأنه قال: سُنُّوا بهم سنَّةَ أهلِ الكتابِ، وذلك لأنَّ لهم شُبهةَ كتابٍ، فأُلحِقُوا بالكتابين.
          وأما سائرُ الكفَرةِ، فلا تؤخَذُ منهم الجزيةُ عندنا، وتؤخَذُ عند أبي حنيفةَ منهم إلا مشرِكي العربِ؛ لِما روى الزُّهريُّ أنه عليه الصلاة والسلامُ صالَحَ عبَدةَ الأوثانِ إلا مَن كان من العربِ.
          وعند مالكٍ: تؤخَذُ من كلِّ كافرٍ إلا المرتدَّ، وقال أبو يوسُفَ كما في البغَويِّ: لا تؤخَذُ من العربيِّ، كتابياً كان أو مشركاً، وتؤخذُ من العجميِّ كتابياً كان أو مشركاً، ولا تجبُ على الصِّبيان، وكذا النِّساءُ والخُناثى؛ لِما رواه معاذُ بنُ جبلٍ أنه قال: ((بعثَني رسولُ الله صلعم إلى اليمنِ، فأمرَني أن آخُذَ من كلِّ حالِمٍ ديناراً أو عِدْلَه مَعافِرَ))، ولم يفصِلْ بين الغنيِّ والفقيرِ والمتوسِّطِ، ويأتي قريباً تفصيلُ قَدْرِها.
          وقوله: (أَذِلاَّءُ) تفسيرٌ لـ{صَاغِرُونَ}، وهو _بفتحِ الهمزة وكسرِ الذال المعجمةِ واللام المشدَّدة الممدودة_ جمعُ: ذليلٍ، ولأبي ذرٍّ: <يعني: أذِلاءَ> بزيادةِ: <يعني>.
          وقال في ((الفتح)): وعن الشافعيِّ: المرادُ بالصَّغارِ هنا التِزامُ حُكمِ الإسلامِ، وهو يرجعُ إلى التفسيرِ اللُّغويِّ؛ لأنَّ الحُكمَ على الشخصِ بما لا يعتقِدُه ويضطَرُّ إلى احتمالِه يستلزِمُ الذُّلَّ، انتهى.
          وقوله: (وَالمَسْكَنَةُ: مَصْدَرُ المِسْكِينِ، أَسْكَنُ مِنْ فُلاَنٍ: أَحْوَجُ مِنْهُ، فَهُوَ مِنَ المَسْكَنةِ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى السُّكُونِ) كذا وقعَ لأبي ذرٍّ وابنِ عسَاكرَ، وزادَا في بعضِ الأصولِ: <والمسكَنةُ مصدَرُ المسكينِ، يُقالُ: فلانٌ أسكَنُ من فُلانٍ؛ أي: أحوَجُ> وسقَطَ الجميعُ لغيرِهما، وكلمةُ: ((من)) من / كلامِ البخاريِّ، إلا قولَ: ((ولم يذهَبْ إلى السُّكونِ))، فإنه من كلامِ الفِرَبريِّ، كما سيأتي بما فيه.
          وقال في ((الفتح)): هذا الكلامُ ثبَتَ في كلامِ أبي عُبيدةَ في ((المجازِ))، والقائلُ: ((ولم يذهَبْ إلى السُّكونِ)) قيل: هو الفِرَبريُّ الراوي عن البخاريِّ، أراد أن ينبِّهَ على أنَّ قولَ البخاريِّ: ((أسكَنُ)) من المسكَنةِ، لا من السُّكونِ، وإن كان أصلُ المادةِ واحداً.
          ووجهُ ذِكرِ: ((المسكنةُ)) هنا أنَّه لمَّا فسَّرَ الصَّغارَ بالذِّلَّةِ، وجاءَ في وصفِ أهلِ الكتابِ أنهم ضُربَتْ عليهمُ الذِّلَّةُ والمسكنةُ، ناسَبَ ذِكرَ المسكَنةِ عند ذِكرِ الذِّلَّةِ، انتهى.
          واعترض العينيُّ قولَه: والقائلُ... إلخ، قيل: هو الفِرَبريُّ، فقال: مَن قال هذا ممن تصدَّى لشرحِ ((البخاريِّ)) أو من غيرِهم، وهذا تخمينٌ وحَدْسٌ، ولئِنْ سُلِّمَ أنَّ أحداً منهم ذكَرَ هذا على الإبهامِ، فلا يُفيدُ شيئاً؛ لأنَّ المتصرِّفَ في مادةٍ خارجاً عن القاعدةِ لا يؤخَذُ منه، وهذا مما لا نزاعَ فيه ولا مُكابَرةَ، انتهى، فتأمله.
          و((المسكَنةُ)) بفتح الميم وسكون السين المهملة، مصدرٌ ميميٌّ، مبتدأٌ، خبرُه: ((مصدرُ)) المضافِ لـ((المسكين))، لكنه على حذفِ مُضافٍ؛ أي: مصدرُ فعلِ المسكينِ، وهو: سَكَنَ، وقولُه: ((يقالُ: فلانٌ أسكَنُ...)) إلخ، بيانٌ لأنَّ المرادَ المسكينُ بمعنى: المحتاجِ، لا بمعنى: الساكنِ من السُّكونِ، و((أسكَنُ)) أفعلُ تفضيلٍ، بمعنى: أحوجُ، خبرٌ لمحذوفٍ نحوِ: فلانٌ، وكذا ثبَتَ في بعضِ الأصولِ، كما مر.
          وقوله: (وَمَا جَاءَ فِي أَخْذِ الجِزْيَةِ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوسِ وَالعَجَمِ) عطفٌ على: ((الجِزيةِ))، فهو من جملةِ الترجمةِ؛ أي: وبابُ ما وردَ في أخذِ الجِزيةِ ممَّنْ ذُكرَ، والعطفُ في الثلاثةِ الأوَلِ من عطفِ المباينِ من كلِّ وجهٍ، وأما الرابعُ فهو من عطفِ الخاصِّ على العامِّ من وجهٍ، وهذا مرادُ مَن قال: وعطفُ: ((العجم)) على مَن تقدَّمَ ذِكرُه من عطفِ الخاصِّ على العامِّ، انتهى.
          فلا يرِدُ تنظيرُ ((الفتح)) فيه بقولِه: وفيه نظرٌ، والظاهرُ أنَّ بينَهما خصوصاً وعموماً من وجهٍ، انتهى، فتأمل.
          فأمَّا اليهودُ والنصارى فتُقبَلُ منهم الجِزيةُ بالاتِّفاقِ، وكذا من المجوسِ مطلَقاً؛ لحديثِ بَجالةَ الواقعِ في البابِ، خلافاً للحنفية؛ فإنهم قالوا: تؤخَذُ من مجوسِ العجَمِ دونَ مجُوسِ العربِ.
          وحكى ابنُ عبدِ البرِّ الاتفاقَ على قَبولِها من المجوسِ، لكن حكى ابنُ التينِ عن عبدِ الملكِ أنَّها لا تُقبلُ إلا من اليهودِ والنصارى.
          وحكى الطحاويُّ عن الحنفيةِ أنها تُقبَلُ من جميعِ كفَّارِ العجَمِ، ولا تقبَلُ من مشرِكةِ العربِ، وعن مالكٍ: تُقبلُ من جميعِ الكفارِ، وبه قال الأوزاعيُّ وفُقهاءُ الشامِ، وحكى ابنُ القاسمِ عن مالكٍ أنها لا تُقبلُ من قريشٍ، كذا في ((الفتح)).
          لكن الذي رأيتُه في كتُبِ الحنفيةِ أنها تُقبلُ من المجوسِ مطلقاً، ولو عربياً، بخلافِ الوثَنيِّ؛ فإنَّها تُقبلُ عندهم منه إذا كان عجَمياً لا عربياً، وفرَّقُوا بينه وبين المجوسِ بأنَّ لهم كتاباً بخلافِ الوثَنيِّين، فاعرِفْه.
          وعند الشافعيِّ وأحمدَ: لا تُقبلُ إلا ممن له كتابٌ أو شُبهةُ كتابٍ، فلا تُقبلُ من عبَدةِ الأوثانِ والشَّمسِ والقمرِ، ولا من الوثَنيِّ ومَن في معناهم؛ لأنَّ اللهَ أمَرَ بقتلِ المشركين إلا أن يُسلِمُوا أو يؤدُّوا الجِزيةَ في أهلِ الكتابِ؛ لأنهم يصدُقُ عليهم قولُه تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101]، وتؤخَذُ أيضاً ممن يزعُمُ أنه متمسِّكٌ بصُحُفِ شِيثَ أو إدريسَ أو إبراهيمَ، أو زَبورِ داودَ، وكذا ممن أحدُ أبوَيه كتابيٌّ والآخرُ وثَنيٌّ على المذهبِ، مع أنه لا يحِلُّ نِكاحُ / نسائهم ولا ذبائحُهم اتفاقاً، إلا ما حُكيَ عن أبي ثورٍ من حلِّ ذلك، وليس ذلك بخَرْقٍ لإجماعِ مَن تقدَّمَه، وإن زعمَه ابنُ قُدامةَ؛ لأنه حكاه ابنُ عبدِ البرِّ عنِ ابنِ المسيَّبِ أنه لم يكُنْ يرى بذبيحةِ المجوسِ بأساً إذا أمرَه مسلمٌ بذبحِها، وإلا ما رواه ابنُ أبي شَيبةَ عنه وعن عطاءٍ وطاوسٍ وعمرِو بنِ دينارٍ أنهم لم يكونُوا يرَونَ بأساً بالتسرِّي بالمجوسيَّةِ.
          وقال أبو عبيدةَ كما في ((الفتح)): ثبتَتِ الجزيةُ على اليهودِ والنصارى بالكتابِ، وعلى المجوسِ بالسُّنةِ، قال: واحتجَّ غيرُه بعمومِ قولِه عليه السلام في حديثِ بُريدةَ وغيرِه: ((فإذا لقِيتَ عدوَّكَ من المشركين، فادعُهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالجِزيةَ)).
          واحتجُّوا أيضاً بأنَّ أخذَها من المجوسِ يدُلُّ على تَركِ مفهومِ الآيةِ، فلمَّا انتفى تخصيصُ أهلِ الكتابِ بذلك، دلَّ على أنْ لا مفهومَ لقولِه تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}.
          وأجيبَ بأنَّ المجوسَ كان لهم كتابٌ، ثم رُفعَ، وروى الشافعيُّ وغيرُه في ذلك حديثاً عن عليٍّ، وسيأتي في الباب ذكرُه.
          وتُعقِّبَ بقولِه تعالى: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام:156]، وأُجيبَ بأنَّ المرادَ: مما اطَّلعَ عليه القائلون، وهم قريشٌ؛ لأنهم لم يَشتهِرْ عندهم من جميعِ الطوائفِ مَن له كتابٌ إلا اليهودَ والنصارى، وليس في ذلك نفيُ بقيَّةِ الكُتُبِ المنزَلةِ؛ كالزَّبورِ وصُحفِ إبراهيمَ وغيرِ ذلك.
          (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) هو: سفيانُ (عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ) بفتحِ النون وكسرِ الجيمِ فتحتيَّة ساكنة فحاء مهملة، واسمُه: عبدُ الله (قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ) أي: ابنِ جبرٍ (مَا شَأْنُ) بالشِّين المعجمةِ وسكونِ الهمزة ورفعِ النونِ، خبرُ: ((ما)) الاستفهاميَّةِ؛ أي: ما حالُ (أَهْلِ الشَّأْمِ) أي: من أهلِ الكتابِ (عَلَيْهِمْ) أي: في الجِزيةِ (أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ اليَمَنِ) بالجرِّ، عطفٌ على: ((أهلِ الشَّأْمِ)) (عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟) أي: واحدٌ.
          (قَالَ) أي: مجاهدٌ (جُعِلَ) بضمِّ الجيمِ (ذَلِكَ) أي: الفرقُ بينهما في الجِزيةِ (مِنْ قِبَلِ) بكسرِ القاف؛ أي: من جهةِ (اليَسَارِ) بفتحِ التحتيَّة وتخفيفِ السِّين المهملة؛ أي: الغِنى؛ فإنَّ أهلَ الشأمِ يغلِبُ عليهم اليسارُ، فجُعلتِ الجِزيةُ على كلِّ واحدٍ أربعةَ دنانيرَ؛ أي: إن كان غنياً، وإلا فبحَسَبِ حالِه، فعلى المتوسِّطِ ديناران، وعلى الفقيرِ دينارٌ، وكذلك أهلُ اليمن، فعلى كلِّ واحدٍ دينارٌ في كلِّ سنةٍ إن كان فقيراً، وإلا فبحسَبِه، فافهم.
          تنبيه: أثرُ ابنِ عُيينةَ وصلَه عبدُ الرزاقِ عنه به بزيادةٍ بعد قولِه: ((من أهلِ الشأْمِ))؛ وهي: ((من أهلِ الكتابِ، تؤخَذُ منهم الجِزيةُ أربعةَ دنانيرَ...)) إلخ.
          وأشار البخاريُّ بهذا الأثرِ إلى جوازِ التفاوُتِ في الجِزيةِ، فأقلُّها عند الجمهورِ دينارٌ لكلِّ سنةٍ عن كلِّ واحدٍ ولو غنياً، وخصَّه الحنفيةُ بالفقيرِ، وأما المتوسِّطُ فعليه ديناران، وعلى الغنيِّ أربعةٌ، وهو موافقٌ لأثرِ مجاهدٍ، كما دلَّ عليه حديثُ عمرٍو عند الشافعيةِ: يُستحَبُّ للإمامِ أن يُماكِسَ حين يأخُذُها منهم.
          وبه قال أحمدُ، لكن المماكسةُ لغيرِ الفقيرِ والسَّفيهِ، فيأخُذُ من المتوسِّطِ دينارَينِ فأكثرَ، ومن الغنيِّ أربعةً فأكثرَ.
           قال ابنُ الرِّفعةِ نقلاً عن الإمامِ: تجبُ المماكَسةُ.
          وروى أبو عبيدةَ من طريقِ أبي إسحاقَ عن حارثةَ بنِ مُضرِّبٍ، عن عمرَ أنه بعثَ عُثمانَ بنَ حُنيفٍ بوَضعِ الجِزيةِ على أهلِ السَّوادِ ثمانيةً وأربعين، وأربعةً وعشرين، واثنَي عشَرَ، وهذا على حسابِ الدينارِ باثنَي عشَرَ، وعن مالكٍ: لا يُزادُ على الأربعين، ويُنقَصُ منها عن مَنْ لا يُطيقُ.
          وهذا محتمَلٌ أن يكونَ جعَلَه على حِسابِ الدينارِ بعشَرةٍ، والقدْرُ الذي لا بد منه دينارٌ.
          وفيه / حديثُ مسروقٍ عن معاذٍ أنَّ النبيَّ صلعم حين بعثَه إلى اليمنِ قال: ((خُذْ من كلِّ حالمٍ ديناراً)) أخرجَه أصحابُ السُّننِ، وصحَّحَه التِّرمذيُّ والحاكمُ.
          واختَلفَ السلَفُ في أخذِها من الصبيِّ، فالجمهورُ: لا؛ لمفهومِ حديثِ معاذٍ، وكذا لا تؤخَذُ من شيخٍ فانٍ، ولا من امرأةٍ ولا مجنونٍ ولا عاجزٍ عن الكسبِ ولا أجيرٍ، ولا من أصحابِ الصوامِعِ والدُّيورِ في قولٍ، والأصحُّ عند الشافعيةِ: الوجوبُ على مَن ذُكرَ آخراً.