الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب سهام الفرس

          ░51▒ (بابُ سِهَامِ الْفَرَسِ): أي: باب بيانِ مقدارِ سهامِ الفرسِ الذي يُقاتلُ عليه من الغنيمَةِ، و((سِهام)) بكسر السين المهملة وتخفيف الهاء، جمع سَهْمٍ _بفتح السين وسكون الهاء_ وبمعنى النَّصيب، قال في ((المصباح)): السَّهم: النَّصيبُ، والجمع: أَسهُم وسِهَام وسُهمان _بالضَّمِّ_،وأسهمتُ له بالألفِ: أعطيتُه سهماً، وساهمتُهُ مُسَاهمةً بمعنَى: قارعتُه مُقارعةً، واستهَمُوا: اقترعُوا، والسُّهْمَة وزان غُرْفَة: النَّصيب، وتصغيرها سُهَيمَة، وبها سُمِّي، ومنه: سهيمة بنت عميرٍ المزنيَّة امرأة يزيد بن ركانة التي بتَّ طلاقها، والسَّهم: واحد النَّبل، وقيل: السَّهم: نفس النَّصل.
          (وَقَالَ مَالِكٌ): أي: الإمامُ المجتهد، هكذا لأكثر الرُّواة، ووقع لأبي ذرٍّ تأخير هذا الأثر عن الحديث الآتي (يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينَ): بفتح الموحَّدة (مِنْهَا): أي: من الخيل، ظاهره جرُّ ((البراذين))، ويحتمل رفع ((البراذين))، وهو الموجودُ في أكثرِ النُّسخِ، فقوله: ((منها)) حالٌ، وتقدَّم تعريفُ الخيلِ مراراً.
          وأمَّا ((البراذين)) فهي جمع بِرْذَوْن _بكسر الموحَّدة وسكون الراء وفتح المعجمة وسكون الواو_ التُّركيُّ من الخيلِ، وخلافها العرابُ، والأنثى برذونَةٌ، وزادَ في ((الموطَّأ)): ((والهجين))، ويأتي قريباً تعريفُه، وقال في ((المصباح)): البرذونُ يقعُ على الذَّكر والأنثى، وربَّما قالوا في الأنثى: برذونة، قال ابن فارسٍ: برذن الرَّجل برذنةً: إذا ثقُلَ، واشتقاقُ البرذونِ منه، قال المطرزيُّ: البرذونُ: التُّركيُّ من الخيلِ، وهو خلافُ العرابِ، وجعلوا النُّون أصليَّةً كأنَّهم لاحظوا التَّعريفَ، وقال في الحرذون: نونه زائدة؛ لأنَّه عربيٌّ، فقياسُ البرذونِ عند من يحملُ المعرَّبة على العربيَّة زيادة النُّون، انتهى.
          (كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل:8]): قال في ((الفتح)) نقلاً عن ابن بطَّالٍ: لأنَّ اللهَ تعالى امتنَّ بركوبِ الخيلِ وأَسهمَ لها رسولُ الله، واسم الخيلِ يقعُ على البرذونِ والهجينِ، ومن زعمَ بينهما فرقاً فعليهِ الدَّليل، انتهى، بخلافِ البغالِ والحميرِ والبعيرِ، والآية استوعبَتْ ما يُركَبُ من هذا الجنسِ كما يقتضيهِ الامتنانُ، فلمَّا لم ينصَّ على البرذون والهجين منها دلَّ على دخولهما في الخيلِ، والمرادُ بالهجينِ: ما يكون أحد أبوَيه غير عربيٍّ والآخر عربيًّا، وقيل: الهجينُ: الذي أبوه فقط عربيٌّ، وأمَّا الذي أمُّه فقط عربيَّةٌ فيُسمى: المقرف.
          واقتصرَ على هذا القيلِ ابنُ حجر المكِّيُّ وغيره من الفقهاء، وعن أحمدَ: الهجينُ: البرذون، ويحتملُ أنَّه أراد في الحكمِ، وقيل: المرادُ بالبراذينِ: الجفَاةُ الخلقَةِ من الخيلِ، وأكثر ما تُجلَب من بلاد الرُّوم، ولها جَلَدٌ على السَّير في الشِّعاب والجبال والوعر، بخلافِ الخيلِ العربيَّة، وقال العينيُّ كابن بطَّالٍ: وبقول مالكٍ قال أبو حنيفة والثوريُّ والشافعيُّ وأبو ثورٍ، وقال الليثُ: يُسهَم للهجينِ والبرذونِ دون سهم الفرسِ، وبه قال أحمدُ، وقال مكحولٌ: لا شيءَ للبراذين، وبه قال الأوزاعيُّ، انتهى ملخَّصاً.
          وقال في ((الفتح)): وقعَ لسعيدِ بن منصورٍ ولأبي داود في ((المراسيل)) عن مكحولٍ: أنَّ النبيَّ صلعم هجَّن الهجينَ يوم خيبر وعرَّب العرابَ، فجعل للعربيِّ سهمين وللهجينِ سهماً، وهذا / منقطعٌ، ويؤيِّده ما روى الشافعيُّ في ((الأمِّ)) وسعيد بن منصُور من طريقِ عليِّ بن الأقمرِ، قال: أغارَتْ الخيلُ، فأدركت العرابُ وتأخَّرت الكرادنُ، فقام المنذرُ الوادعيُّ فقال: لا أجعلُ ما أدرك كمَن لم يدركْ، فبلغَ ذلك عمرَ فقال: هَبِلَتِ الوادِعيَّ أمُّهُ، لقد أذكرَتْ به، أمضُوها على ما قالَ، وكان أوَّل مَن أسهمَ للبراذين دون سهامِ العرابِ، وفي ذلك يقول شاعرهم:
وَمِنَّا الَّذِي قَدْ سَنَّ فِي الْخَيْلِ سُنَّةً                     وَكَانَتْ سَوَاءً قَبْلَ ذَاكَ سِهَامُهَا
          وهذا منقطعٌ أيضاً، وقد أخذ أحمد بمقتضى حديث مكحولٍ في المشهورِ عنه، وعنه كالجماعةِ، وعنه: إن بلغَتْ البراذينُ مبالغ العربيَّة سُوِّي بينها، وإلَّا فُضِّلتِ العربيَّة، واختارها الجوزجانيُّ وغيره، وعن اللَّيث: يُسهمُ للبرذونِ والهجينِ دون سهمِ الفرسِ.
          (وَلاَ يُسْهَمُ): بسكون السِّين والبناء للمجهولِ؛ أي: ولا يُسهِم الإمامُ (لأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ): هذا من كلامِ مالكٍ أيضاً، وبه قال الجمهورُ، وقال اللَّيثُ وأبو يوسفَ وأحمد وإسحاق: يُسهَم لفرسين فقط؛ لحديثٍ أخرجه الدارقطنيُّ لكن بسندٍ ضعيفٍ عن أبي عَمرةَ، قال: أسهمَ لي رسولُ الله صلعم لفرسِي أربعة أسهمٍ ولي سهماً، فأخذتُ خمسةَ أسهمٍ، قال القرطبيُّ: ولم يقلْ أحدٌ: يسهمُ لأكثر من فرسين، إلَّا ما رُوِي عن سليمان بن موسَى: أنَّه يسهم لكلِّ فرسٍ سهمانِ بالغاً ما بلغَتْ، قاله في ((الفتح)).