الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب العتق]

          ♫
          ░░49▒▒ (كتاب العتق)
           (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، كِتَابُ العِتْقِ، بابٌ فِي الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ) وفي بعض النُّسَخ: <بابُ ما جاءَ في العِتقِ> وعلى الأولى شرَحَ في ((التوضيح)) ووقعَ للأكثرِ _كما في ((الفتح))_: <بسم الله الرحمن الرَّحيم، في العِتقِ وفَضلِه> وزادَ ابن شَبُّوَيهِ بعد البسملةِ: <باب> وللمستَمليِّ زيادةُ: <كتاب العِتقِ> قبل البسملةِ، ولم يقل: <باب> وأثبتَهما النَّسفيُّ، كذا في ((الفتح)) وقال القسطلانيُّ: ولأبي ذرٍّ: <ما جاء في العِتقِ، بسم الله الرَّحمن الرَّحيم> وله عن المستمليِّ: <كتابُ العِتقِ، بسم الله الرَّحمن الرَّحيم> إلى آخرِ ما في ((الفتح)) وفي نسخةٍ: <كتابُ العِتقِ> وفي أخرى: <بسم الله الرَّحمن الرحيم، بابٌ في العِتق>، وفي أخرى: <كتابُ العِتقِ، بابُ ما جاءَ في العِتقِ وفضلِه> والعِتقُ _بكسر العين المهملة وسكون المثناة الفوقية_: مصدرُ عَتَقَ، لازمٌ، يقال: عَتَقَ _بفتح الفوقية_ يَعتِقُ _بكسرها_ عتقاً _بفتح أوله وبكسره_.
          قال في ((المصباح)): عَتَقَ العبدُ عَتقاً، من بابِ ضربَ، وعَتاقاً، وعَتاقةً _بفتح الأوائل_، والعِتقُ _بالكسر_ الاسمُ منه، فهو عاتقٌ، ويتعدَّى بالهمزة، فيُقال: أعتَقَه، فهو مُعتِقٌ، على قياسِ الباب، ولا يتعدَّى بنفسِهِ، فلا يُقال: عتَقَه، ولهذا قالَ في ((البارع)): لا يقالُ: عُتِقَ العبدُ، وهو ثلاثيٌّ مبنيٌّ للمفعولِ، ولا أَعتَقَ، هو بالألف مبنياً للفاعل، ولا يجوزُ: عبدٌ معتوقٌ؛ لأنَّ مجيءَ: مفعولٍ من: أفعَلتُ شاذٌّ مسموعٌ لا يُقاسُ عليه، انتهى.
          وقال في ((القاموس)) العِتق: بالكسر الكَرَمُ والجمالُ والنَّجابةُ والشَّرفُ والحريَّةُ، وبالضمِّ؛ جمعُ عَتيقٍ، عَتَقَ العبدُ يعتِقُ عَتقاً _ويُفتَح، أو بالفتح المصدرُ، وبالكسر الاسم_، وعَتاقاً، وعَتاقةً _بفتحهما_ خرجَ من الرِّقِّ، فهو عتيقٌ وعاتقٌ، والجمع: عُتَقاءُ وأَعتِقة، فهو مُعتَقٌ وعَتيقٌ، وأمَةٌ عتيقٌ وعَتيقةٌ، والجمعُ: عتائقُ، انتهى.
          والعَتقُ كما في ((الفتح)) وغيرِه: مُشتقٌّ من قولِهم: عَتَقَ الفرسُ؛ إذا سبَقَ، وعتَقَ الفَرْخُ؛ إذا طار؛ لأنَّ الرَّقيقَ يتخلَّصُ من الرِّقِّ بالعَتقِ، ويذهبُ حيثُ شاءَ، والعَتقُ بمعنى الإعتاقِ شَرعاً: إزالةُ الرِّقِّ عن آدميٍّ، ومَنْ عبَّرَ بـ: إزالةُ المِلكِ، احتاجَ لزيادةِ: لا إلى مالكٍ تقرُّباً إلى الله تعالى، ليخرُجَ بقيدِ الآدميِّ الطيرُ والبهائمُ، فلا يصِحُّ عَتقُها على الأصحِّ.
          وقال ابنُ الصَّلاح: الخلافُ فيما يُملَكُ بالاصطيادِ، أما البهائمُ الإنسيَّةُ؛ فإعتاقُها من قَبيلِ سَوائبِ الجاهليَّة، وهو باطلٌ قَطعاً، وبقيد: لا إلى مالكٍ، الوقفُ؛ لأنَّه مملوكٌ لله تعالى، ولذا ضُمِنَ بالقيمةِ، وما بعدَه لتحقيقِ الماهيَّةِ، لا لإخراجِ الكافرِ؛ لصحَّةِ عَتقِهِ وإنْ لم يكنْ قُربةً، قاله ابنُ حجَرٍ المكِّيُّ.
          وقال العينيُّ: العَتقُ لغةً: القوةُ، من قولِهم: عتَقَ الطائرُ: طارَ على جَناحِهِ، وفي الشَّرع: عبارةٌ / عن قوَّةٍ شَرعيةٍ في مملوكٍ، وهي إزالةُ المِلكِ عنه، قال: والرِّقُّ ضَعفٌ شَرعيٌّ يثبُتُ في المحلِّ، فيُعجِزُه عن التصرُّفاتِ الشَّرعيَّة، ويَسلِبُه أهليَّةَ القضاءِ والشَّهادةِ والسَّلطنةِ والتَّزوُّجِ، وغيرِ ذلك، والعِتاقُ: اسمٌ للعَتقِ، والإعتاقُ: إثباتُ العَتقِ عند أبي يوسُف ومحمدٍ، وعند أبي حنيفةَ: إثباتُ الفعلِ المُفضِي إلى حصولِ العَتقِ، انتهى، فتأمَّلْه.
          وقوله: ((وفضلِه)) بالجرٍّ، عطفٌ على: ((العَتقِ)) من عطفِ المسبَّبِ على سببِهِ، فتدبَّر.
          (وَقَوْل) بالرَّفع كما في ((اليونينية)) على الاستئنافِ، وبالجرِّ عطفاً على ((العَتقِ)) لا على: ((في العتق)) أي: وفي قولِ (اللهِ تَعَالَى) وفي بعضِ النُّسَخ: <وقولِ الله ╡> وفي بعضِ الأصُول: <وقولِه تعالى>.
          ({فَكُّ رَقَبَةٍ}) برفعِ: {فَكُّ} خبراً لمحذوفٍ راجعٍ إلى العَقَبة؛ فإنَّها _كما في البيضاويِّ_ في الأصل: الطريقُ في الجبل، ثم استعارَها لفَكِّ الرقبةِ والإطعامِ؛ أي: هي فكُّ رقَبة، وإضافتُه إلى {رَقَبَةٍ} من إضافةِ المصدَرِ إلى مفعولِهِ بعد حَذفِ الفاعل، فالجملةُ اسميَّةٌ، وهذه قراءةُ نافعٍ وابنِ عامرٍ وعاصمٍ وحمزةَ.
          ({أَوْ إِطْعَامٌ}) مصدرُ أطعمَ، معطوفٌ على {فَكُّ}، ولأبي ذرٍّ: <فكُّ رقَبةٍ، أو أَطعَمَ> على أنَّه فعلٌ ماضٍ، بدَلٌ من: {اقْتَحَمَ} وهي قراءةُ بقيَّةِ القراء السبعة، فـ{رَقَبَة} بالنصبِ مفعولُه، وخصَّها بالذِّكرِ دونَ بقيَّةِ الأعضَاءِ إشارةً إلى أنَّ حُكمَ السَّيدِ عليه كالغِلِّ، أو كالحبلِ في رقبتِهِ، فإذا عتَقَ فُكَّ الغِلُّ أو الحبلُ من عُنقِه، والمرادُ بفكِّها تخليصُ الشَّخصِ من الرِّقِّ تسميةً للشيءِ باسمِ بعضِه.
          قال في ((الفتح)): وجاء في حديثٍ صحيحٍ أنَّ فكَّ الرَّقَبةِ مختصٌّ بمَن أعانَ في عَتقِها حتَّى تُعتَقَ، فروى أحمدُ وابنُ حبَّان والحاكمُ، عن البراءِ بنِ عازبٍ ☺، قال: قال رسولُ الله صلعم: ((أَعتقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقَبةَ)) قيل: يا رسولَ الله؛ أليسَتا واحدةً؟ قال: ((لا، إنَّ عِتقَ النَّسمةِ أن ينفرِدَ بعَتقِها، وفكَّ الرَّقبةِ أن تُعينَ في عَتقِها))، قال: وهو في أثناءِ حديثٍ طويلٍ أخرجَ التِّرمذيُّ بعضَه وصحَّحَه، ولابنِ زَنجُويهِ في فضائلِ الأعمالِ من حديث البراءِ بنِ عازبٍ: جاءَ أعرابيٌّ إلى رسولِ الله صلعم، فقال: علِّمْني عمَلاً يُدخلُني الجنَّةَ، قال: ((لئنْ كنتَ أقصَرتَ الخُطبةَ لقَدْ أعرضْتَ المسألةَ، أَعتقِ النَّسَمةَ وفُكَّ الرَّقَبةَ)) فقال: يا رسولَ الله؛ أوَ ليسا واحداً؟ قال: ((لا، عَتقُ النَّسَمةِ أن تنفرِدَ بعَتقِها، وفكُّ الرقَبةِ أن تُعينَ في عَتقِها))، انتهى.
          وإذا ثبتَ الفضلُ في الإعَانةِ على العَتقِ ثبتَ في التفرُّدِ بالعتقِ من بابٍ أولى.
          وقوله: ({فِي يَوْمٍ}) المرادُ به مُطلَقُ الزَّمانِ ليلاً أو نهاراً، متعلِّقٌ بـ{إِطْعَامٌ} أي: في زمانٍ ({ذِي مَسْغَبَةٍ}) أي: مجاعةٍ، قال في ((المصباح)): سَغِبَ من باب تَعِبَ، سغَباً وسُغوباً؛ جاعَ، فهو ساغِبٌ وسَغبانُ، والمسغَبةُ المجاعةُ، وقيل: لا يكونُ السَّغَبُ إلا الجوعَ مع التَّعبِ، وربَّما سُمِّيَ العطَشُ سغَباً، انتهى.
          ({يَتِيماً}) مفعولُ {إِطْعَامٌ} أو: {أطعم} ({ذَا مَقْرَبَةٍ}) نعتُ: {يَتِيْماً} و{مَقْرَبَة} أي: قَرابة، قال في ((القاموس)): المقرَبةُ _مثلثة الراء_ والقُربةُ والقُربى: القَرابةُ، وهو قَريبِي، وذو قَرابَتي، ولا تقل: قَرابَتي، انتهى.
          لكنْ {مَقْرَبَة} في الآيةِ مفتوحةُ الميم لا غيرُ؛ لأنَّ القراءةَ سنَّةٌ متَّبعةٌ، إلى هنا ساقَ المصنِّفُ الآيةَ كما في ((الفتح)) ولو زادَ المصنِّفُ: {أَوْ مِسْكِيْناً ذَا مَتْرَبَةٍ} لكانَ أَولى؛ لأنه من جُملةِ المأمورِ بإطعامِهِ، / ثم رأيتُه ثابتاً في بعض الأصُول، والمترَبةُ: _بفتح الميم والراء_ مكانُ التُّراب، قال في ((المصباح)): يقال: تَرِبَ الرجلُ يَترَبُ _من باب: تَعِبَ_ افتقَرَ؛ كأنه لَصِقَ بالتُّراب، فهو تَريبٌ، وأَترَبُ _بالألِف_ لغةٌ فيه، انتهى.
          وقال العَينيُّ: {ذَا مَتْرَبَةٍ} صفةُ {مِسْكِيْناً} أي: ذا فَقرٍ قد لَصِقَ بالتُّرابِ من الفقرِ، وقيل: المترَبةُ من التُّربة؛ وهي شِدَّةُ الحالِ، انتهى.