الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل

          ░28▒ (بابُ الْكَافِرِ): أي: باب بيان حُكم الكَافرِ (يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ): ببناء ((يقتل)) للفاعل، والجملة حالٌ أو مستأنفةٌ (ثُمَّ يُسْلِمُ): بضمِّ أوَّله؛ أي: الكافر القَاتل (فَيُسَدِّدُ): بضمِّ التَّحتيَّة وفتح السِّين المهملة وتشديد الدَّال المهملة المكسورة؛ أي: فيُسدِّد أقوالَه وأفعالَه، ولأبي ذرٍّ بفتحها (بَعْدُ): ببنائها على الضَّمِّ؛ لنيَّة معنى المضَافِ إليه؛ أي: بعدَ قتلهِ المسلمَ (وَيُقْتَلُ): بالبناء للمفعولِ، وللنَّسفيِّ: <أو يقتل> بـ((أو))، وعليها اقتصرَ ابن بطَّالٍ والإسماعيليُّ، قال في ((الفتح)): وهي أليقُ بمرادِ المصنِّفِ، وقال الكرمانيُّ: أو ثمَّ يصيرُ مقتولاً، انتهى.
          وأقول: لا يخفَى ما في ذلك، فإنَّ حديث الباب يدلُّ على اجتماعِ الأمرين، فالظَّاهر أنَّ هذا هو مرادُ المصنِّف، فاللَّائق جعل ((أو)) بمعنى الواو، فافهم.
          قال ابن المنيِّر: ذكر المصنِّفُ في التَّرجمة: ((يسدِّد))، والذي وقعَ في الحديثِ فيستشَّهد، وكأنَّه أشارَ بذلك إلى أنَّ الشَّهادة ذكرت للتَّنبيه على إحدى وجوهِ التَّسديد، وإنَّ كلَّ تسديدٍ كذلك وإن كانَتْ الشَّهادةُ أفضلُ، لكن دخول الجنَّة لا يختصُّ بالشَّهيد المسدِّد، فجعل المصنِّف التَّرجمة كالشَّرح لمعنى الحديث، وإزالة لوهم من يتوهَّم أنَّ هذا خاصٌّ بمن يستشهد، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): ويظهرُ لي أنَّ البخاريَّ أشارَ في التَّرجمةِ إلى ما أخرجَه أحمدُ والنسائيُّ والحاكمُ من طريقٍ أُخرى عن أبي هُريرة مرفوعاً: ((لا يجتمعانِ في النَّار مسلمٌ قتلَ كافراً، ثمَّ سدَّدَ المسلمُ وقاربَ))... الحديث، ولفظ الترمذيِّ عن أبي هريرة: أنَّ رسولَ الله صلعم قال: ((لا يجتمعَان في النَّارِ مسلمٌ قتلَ كافراً ثم سدَّدَ وقاربَ، ولا يجتمعَانِ في جوفِ مؤمنٍ غبارٌ في سبيلِ اللهِ وفيحُ جهنَّمَ، ولا يجتمعَان في قلبِ عبدٍ الإيمانُ والحسدُ))، انتهى، واعترض العينيُّ على ((الفتح)) فقال كعادته: التَّرجمة لا تكون إلَّا بما يدلُّ على شيءٍ من الحديثِ، انتهى.
          وأقولُ: تقدَّم غير مرَّةٍ أنَّ البخاريَّ إذا لم يكنْ الحديث على شرطهِ يُورده ترجمةً.
          وقال في ((الانتقاض)): تكرَّر منه إنكارُ مثل هذا مراراً، قال: وقد أعجبَ العينيُّ مثل هذا الجوابِ وارتضَاه في أماكنَ كثيرةٍ، فجزمَ به مراراً، قال: وفي ذلكَ دلالةٌ على أنَّه لا يستحضرُ ما كتبَهُ، بل يأتي في كلِّ مكانٍ بما سنَحَ له ولا يُبالي.