الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب الزكاة]

          ░░24▒▒
          ♫
          ░1▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ): ثبتت البسملةُ في أكثرِ الأصُول (بَابُ الزَّكَاةِ): كذا للأكثر، وفي بعض النُّسخ: <كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة> وسقط: <باب> و<كتاب> لأبي ذرٍّ، وإنما ترجم المصنف بذلك على عادتهِ في إيراد الأدلَّةِ الشرعية المتَّفقِ عليها والمختلفِ فيها، قاله في ((الفتح)).
          لكن قال العينيُّ: وقع في أكثر النسخ: <كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة>، ووقع عند بعضِ الرواة: <كتاب وجوب الزكاة> وعند بعضهم: <باب وجوب الزكاة> انتهى فتأمَّله.
          والمرادُ بالوجوب: الفرضُ، والتَّعبير به على مذهبِ من لا يرى فرقاً بين الواجب وبين الفرضِ ظاهر، وأما على مذهبِ من يرى أن الفرضَ: ما ثبت بدليلٍ قطعيٍّ بخلاف الواجب، فأجيبَ عنه بأنه بالنَّظرِ إلى تفصيلِ الواجب، فإنه ثابتٌ بالحديث، وهو ظنِّيٌ، وأما أصلُ الزَّكاة فثابتٌ بالقرآن القطعيِّ، فتأمَّله.
          وفُرِضَت على الصَّحيح بعد الهجرةِ خلافاً لابن خُزيمة حيث زعمَ في ((صحيحه)) أنها فُرِضَت قبلها، وجزم النَّووي في ((الروضة)) أنه كان في السَّنة الثانية قبل فرضِ الصلاة، وقيل: فُرِضَت في السنة الأولى.
          وجزمَ ابنُ الأثير في ((التاريخ)): بأنه كان في التَّاسعة، ونظرَ فيه في ((الفتح)) بما في حديث ضِمَام بن ثعلبة، وحديث وفدِ عبد القيس وغيرهما لحديثِ أبي سفيان مع هرقلَ، فإنه كان في أوَّل السَّابعة، وفيه ذكرُ الزكاة، وأطالَ في ((فتح الباري)) للاستدلالِ لذلك آخرَ الباب، فاعرفه.
          وذكر الزكاة عقبَ الصَّلاة؛ لأنها ثالثةُ الإيمان وثانيةُ الصَّلاة في الكتاب والسنة كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3]، وكقولهِ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((بُنِيَ الإسلامُ على خَمْس))، الحديث.
          والزكاة لغة: النَّماء، يقال: زكا الزرع: نما، والتَّطهيرُ والإصلاحُ والمدح، ومنه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32]، والفلاح، ومنه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9].
          وفي ((القاموس)): زَكَا يَزْكو زَكَاءً وزَكْواً: نَمَا كأَزْكا وزَكَّاهُ الله وأزْكاهُ، والرجلُ: صلُحَ وتنعَّمَ، فهو زكِيٌّ من أزكياءَ، / والزكاةُ: صفوَةُ الشَّيء، وما أخرجتهُ من مالك لتطهِّرَهُ به، والزَّكَا _مقصوراً_: الشَّفعُ من العدد.
          وقال في ((الصحاح)): زكا ماله تزكيةً: أدَّى عنه زكاته، وزكَّاهُ أيضاً: أخذَ زكاته، وزكا نفسهُ تزكيَةً: مدحها، وتزَكَّى: تصدَّق، وزكا: نما، وأزكاهُ الله، وهذا الأمرُ لا يزكو بفلانٍ؛ أي: لا يليقُ به، انتهى ملخَّصاً.
          وأقول: فيستفادُ مما ذكر للزكاة لغةً معانٍ كثيرة.
          وشرعاً: ما يخرجُ من المال المخصُوص عن مالٍ مخصُوص أو بدن، وتطلقُ على إخراج ذلك، ولذا قال الكرماني: وهي من الأسماءِ المشتركة بين العينِ والمعنى؛ لأنَّها قد تطلقُ أيضاً على القدر المخرجِ من النِّصابِ للمستحق.
          وقال ابنُ العربي في ((المدارك)): تطلقُ الزَّكاةُ على الصَّدقةِ الواجبةِ والمندوبةِ والنَّفقة والحق والعفو، وشرعاً: إعطاءُ جزءٍ من النصاب الحوليِّ إلى فقيرٍ ونحوه.
          ثمَّ لها ركنٌ وهو الإخلاصُ، وشرطٌ هو السبب، وهو ملكُ النِّصاب الحولي، وشرطُ من تجبُ عليه، وهو العقلُ والبلوغُ والحرية، ولها حكمٌ وهو سقوطُ الواجبِ في الدنيا، وحصولُ الثَّوابِ في الأخرى، وحكمةٌ وهي التَّطهيرُ من الأدناس ورفعُ الدَّرجة واسترقاقُ الأحرار، انتهى.
          قال في ((الفتح)): وهو جيِّدٌ لكن في شرطِ من تجبُ عليه اختلاف، انتهى.
          وأقول: لينظر المرادُ من قوله: واسترقاق الأحرارِ، ومناسبة المعاني اللُّغوية للمعنَى الشرعيِّ ظاهرةٌ لمن تأمل، إذ بها ينمو المال، وتطهِّرهُ من حيث لا يرى أو تطهِّرُ مؤديها من الذُّنوب، وتنمِّي أجرهُ عند الله، وتضاعفهُ كما وردَ إن الله تعالى يربي الصَّدقة.
          وقيل: باعتبار تعلُّقها بالأموال النامية؛ ولأنها طهرةٌ للنفس من رذيلةِ البخل، ومثمرةٌ لها فضيلة الكريم، ويستجلبُ بها البركة في المال، ويمدحُ مخرجها.
          وقال نفطويه: سُمِّيت زكاةً؛ لأن مؤدِّيها يترقَّى إلى الله تعالى؛ أي: يتقرَّبُ إليه بصالحِ العمل.
          وقال الكرمانيُّ: سُمِّيت صدقةً؛ لأنها دليلٌ لتصدِيق صاحبها وصحَّة إيمانه ظاهراً وباطناً، والغرضُ من إيجابِ الزكاة: مواساةُ الفقراء، والمواساة لا تكونُ إلا في مالٍ له بال، وهو النِّصاب، ثمَّ جعلها الشَّارعُ في الأموال النَّامية من المعدنيَّاتِ والنبات والحيوان، أما المعدنيُّ ففي جوهري الثَّمنية، وهو الذَّهب والفضَّةُ، وأما النَّباتيُّ ففي القوت، وأما الحيوانيُّ ففي النِّعَم.
          ورتَّبَ مقدار الواجبِ بحسب المؤنة والتَّعب فأقلها تعباً وهو الرِّكازُ أكثرها واجباً وهو الخمس، ويليه النَّباتُ فإن سقي بماء السماء ونحوه ففيه العشر، وإلا فنصفهُ، ويليه النقدُ ففيه ربعُ العشر، ثمَّ الماشية.
          وهي أحدُ أركان الإسلام وشعائرهُ الظَّاهرة المعلوم أصل فرضيَّتها من الدِّين بالضَّرورة فيكفُرُ جاحدها، نعم في بعضِ أفرادها خلافٌ كالزكاة في مالِ الصَّبيِّ، فلا يكفرُ جاحدُ وجوبها في المختلفِ فيه، ويقاتلُ الممتنعون من أدائها.
          قال ابنُ بطَّال: أجمع العلماءُ على أن جاحد الزَّكاةِ تؤخذُ من ماله قهراً، وإن نصبَ الحربَ دونها قوتل اقتداءً بأبي بكرٍ في أهل الرِّدَّة، ووافقهُ على ذلك جميع الصَّحابة حتى عمر بن الخطاب بعد أن خالفه.
          (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى): بالرفع مبتدأ خبره محذوف؛ أي: دليلٌ على ما قلناهُ من الوجوبِ، قاله الزين بن المنير. واعترضهُ العيني فقال: وليس بشيءٍ كما لا يخفَى على الفطن، والوجه: جره عطفاً على ما قبله. انتهى.
          وأقول: الوجه: جواز الرفع أيضاً على ما مرَّ، أو على أنه خبر لمحذوف؛ أي: والدَّليلُ على وجوبها قول الله تعالى: ({وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]): وهذا وقعَ في مواضع كثيرة من القرآن، وأوَّلها في البقرة قُبَيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة:44].
          والمرادُ بالصلاة: الجنسُ المفروضُ بأصل الشَّرعِ، أو المعهودةُ فتصدق بالصَّلوات الخمس، وإقامتها في مواقيتها: بفعلِ ما يطلب فيها من واجبٍ ومندوبٍ، وإيتاء الزَّكاةِ شاملٌ لما كانت عن الأموال وعن الأبدان.
          وقال البيضاويُّ: يعني: صلاة المسلمين وزكاتهم فإنَّ غيرهما كلا صلاة ولا زكاة، أمرهم بفروعِ الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله، وفيه دليلٌ على أن الكُفَّار مخاطبون بهما، انتهى.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻): مما وصله المصنِّف فيما سبق في قصَّةِ هرقل من حديثٍ طويلٍ تقدَّمَ الكلامُ عليه هناك مبسوطاً.
          (حَدَّثَنِي أَبُو / سُفْيَانَ): أي: صخرُ بن حربٍ (☺): وفيه روايةُ صحابيٍّ عن صحابي (فَذَكَرَ): أي: أبو سفيان (حَدِيثَ النَّبِيِّ صلعم فَقَالَ): أي: أبو سفيان في أثنائه لهرقلَ.
          (يَأْمُرُنَا): أي: النَّبي عليه السلام (بِالصَّلاَةِ): بالإفراد؛ أي: الخمس المفروضة فاللام للجنس أو للعهد، وهي أمُّ العبادات البدنيَّة (وَالزَّكَاةِ): وهي أمُّ العباداتِ المالية، وفيه المطابقةُ للتَّرجمةِ، فإن الأمرَ للوجوبِ، وتقدَّم في كتاب الإيمان أنها ثبتتْ في نسخةٍ لـ((اليونينية)).
          (وَالصِّلَةِ): بكسر الصاد؛ أي: البر ولو بالسَّلامِ للأرحام، ولجميعِ ما أمرَ الله به أن يوصلَ (وَالْعَفَافِ): بفتح العين المهملة؛ أي: الكفُّ عن المحرَّماتِ وخوارِمِ المروءاتِ.