الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من قسم الغنيمة في غزوه وسفره

          ░186▒ (بَابُ مَنْ): أي: بيانِ مَن (قَسَمَ): بفتحِ القاف والسِّين المهملةِ الخفيفة، ويجوز تشديدها (الغَنِيمَةَ): بفتحِ الغين، فعيلةٌ بمعنى: مفعولةٍ (فِي غَزْوِهِ): بإضافةِ ((غَزوِ)) من غير تاء إلى ضميرِ الغائبِ العائدِ إلى: ((مَن))، وكذا ضميرُ: (وَسَفَرِهِ): وهو من عطفِ العامِّ على الخاصِّ.
          قال في ((الفتح)): أشار بذلك إلى الردِّ على قولِ الكوفيِّين: إنَّ الغنائمَ لا تُقسمُ في دارِ الحربِ، واعتلُّوا بأنَّ المِلكَ لا يتِمُّ عليها إلا بالاستيلاءِ، ولا يتِمُّ الاستيلاءُ إلا بإحرازِها في دارِ الإسلامِ.
          وقال الجمهورُ: هو راجعٌ إلى نظرِ الإمامِ واجتهادِه، وتمامُ الاستيلاءِ يحصُلُ بإحرازِها بأيدي المسلمين، ويدلُّ على ذلك أنَّ الكفارَ لو أعتَقُوا حينئذٍ رقيقاً لم ينفُذْ عِتقُهم، ولو أسلمَ عبدُ الحربيِّ ولحِقَ بالمسلمين صار حراً، انتهى.
          واعترض العينيُّ قولَه: واعتلُّوا... إلخ، فقال: هذا الردُّ مردودٌ؛ لأنَّ البابَ فيه حديثان، وليس واحدٌ منهما يدلُّ / على أنَّ قسمةَ الغنيمةِ كانت في دارِ الحربِ، أمَّا حديثُ رافعٍ، فيدُلُّ على أنها كانت في ذي الحُليفةِ، وأمَّا حديثُ أنسٍ، فيدلُّ على أنها كانت في الجِعِرَّانةِ، وكلٌّ من ذي الحُليفةِ والجِعِرَّانةِ من دارِ الإسلامِ، ففي الحقيقةِ الحديثان حجةٌ للكوفيين؛ لأنه لم يُقسَمْ إلا في دارِ الإسلامِ، انتهى.
          وأجابَ في ((الانتقاض)) فقال: دعواه أنَّ الموضِعَين كانا من دارِ الإسلامِ، نصٌّ حينئذٍ على المنعِ بما يطولُ ذِكرُه.
(وقال رَافِعٌ): أي: ابنُ خَديجٍ الصحابيُّ، مما وصلَه المصنِّفُ في الذبائحِ (كُنَّا): أي: معشَرَ الصحابةِ (مَعَ النَّبِيِّ صلعم بِذِي الحُلَيْفَةِ): بالحاء المهملةِ، تصغيرُ: حَلَفةٍ _بفتحات_، قال النوويُّ: المرادُ به: ميقاتُ أهلِ المدينةِ.
          وقال في ((المصباح)): ذو الحُلَيفةِ: ماءٌ من مياهِ بني جُشَمَ، ثم سُميَ به الموضعُ، وهو ميقاتُ أهلِ المدينةِ، نحوُ مرحلةٍ عنها، ويقالُ: على ستةِ أميالٍ، انتهى.
          لكن زاد مسلمٌ كالبخاريِّ في بابِ مَن عدَلَ عَشْراً من الغنمِ بجَزُورٍ: ((من تِهامةَ)) بعد قولِه: ((بذي الحُليفةِ)) قيل: وهو واردٌ على النوويِّ على ما مرَّ في ((الشركةِ)).
          (فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلًا): أي: غنِمناها، ولأبي ذرٍّ: <إبِلاً وغنَماً>، زاد في ((الشركةِ)): ((فعجِلَ القومُ، فأغلَوا بها القُدورَ، فجاءَ رسولُ اللهِ صلعم، فأمرَ بها فأُكفِئت)).
          (فَعَدَلَ): بتخفيف الدَّال المهملةِ؛ أي: فقوَّمَ (عَشَرَةً): بالتاء، ولأبي الوقتِ: <كلَّ عشَرةٍ>، وفي نسخةٍ للفرعِ وأصلِه: <عشْراً> بحذفِ التاءِ، وهو متعيِّنٌ كما نُقلَ عن ابنِ مالكٍ، لكن كلامُ ابنِ هشامٍ في ((توضيحه)) على ((الألفية)) صريحٌ في أنه يتعيَّنُ التأنيثُ في مثلِ هذا؛ لأنَّ الغنمَ مذكَّرٌ في قولِه: (مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ): أي: جعَلَها معادِلةً له حين قسَمَ الغنائمَ، كما صرَّحَ به في الحديثِ بعده.