الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب المناقب]

          ░░61▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ) سقطَتِ البسملةُ من أكثرِ الأصُولِ (كِتَابُ المَنَاقِبِ) وقعَ في بعضِ الأصُولِ: <بابُ المناقبِ> قال العينيُّ: والأولُ أَولى؛ لأنَّ الكتَابَ يجمَعُ الأبوابَ، وفيه أبوابٌ كثيرةٌ تتعلَّقُ بأشياءَ كثيرةٍ على ما لا يخفَى، انتهى.
          وعكَسَ القسطلانيُّ تَبعاً لـ((الـفتح))، فقال: ((بابُ المنَاقبِ))، وفي بعضِ النُّسخِ: <كتابُ المناقبِ>، والأولُ أوجَهُ، قال: لأنَّ الظَّاهرَ من صَنِيعِ البُخاريِّ أنَّه أرادَ كتابَ أحاديثِ الأنبياءِ على الإطلاقِ، ويكونُ هذا البابُ من جملةِ كتَابِ أحاديثِ الأنبياءِ.
          قال في ((الفتح)): وقد جَمعَ في هذا البابِ أمورَ النَّبيِّ صلعم من المبتدأِ إلى المنتهى، فبدأَ بمقدِّمتِها من ذكرِ ما يتعلَّقُ بالنسَبِ الشريفِ، فذكَرَ أشياءَ تتعلقُ بالأنسابِ، ومن ثم ذكرَ أموراً تتعلقُ بالقبائلِ، ثم النهيَ عن دعوى الجاهليةِ؛ لأنَّ مُعظمَ فخرِهم كان بالأنسابِ، ثم ذكرَ صفةَ النَّبيِّ صلعم وشمائلَه ومعجزاتِه، واستَطردَ منها لفضائلِ أصحابِه، ثم أتْبعَها بأحوالِه قبل الهجرةِ، ومنها ما جرى له بمكَّةَ، والمَبعثَ، وإسلامَ أصحابِه، وهجرةَ الحبشةِ، والمعراجَ، ووفودَ الأنصارِ، والهجرةَ إلى المدينةِ، ثم الغزواتِ على ترتيبِها، ثم الوفاةَ، وهي آخرُ تراجمِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ، انتهى، فتأمله.
          و((المناقِبِ)) جمعُ: مَنقَبةٍ _بفتحِ الميم فيهما_، بمعنى: المكرُمةِ والمفخَرةِ، كما في ((القاموس))، فهي ضدُّ المثلَبةِ، وقال في ((الأساس)): المناقِبُ هي: المفاخِرُ والمآثِرُ، وسُمِّيت بذلك لأنَّها كما قال التِّبريزيُّ: كأنَّها تنقُبُ الصخرةَ لعِظَمِها، وتنقُبُ قلبَ الحسُودِ.
          ░1▒ (قَوْلُ اللَّهِ) برفعِ: ((قولُ)) وجرِّه على ما في ((اليونينيَّةِ)) وفرعِها، فالرفعُ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ، نحوُ: يدلُّ لذلك، ولعل الجرَّ على حذفِ: ((بابُ)) وإبقاءِ: ((قول)) مجروراً، فتأمل.
          وفي بعضِ الأصُولِ: <وقولِ اللهِ> بالجرِّ، عطفٌ على: ((المناقِبِ))، وفي بعضِ الأصُولِ: <بابُ قولِ اللهِ تعالى> أي: في أواخرِ سورةِ الحجُراتِ: ({يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ}) أي: أوجَدْناكم ({مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}) أي: آدمَ وحوَّاءَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ حوَّاءَ مخلوقةٌ من آدمَ، قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] وقال البيضاويُّ: من آدمَ وحوَّاءَ، / أو خَلقْنا كلَّ واحدٍ منكم من أبٍ وأمٍّ، فالكلُّ سواءٌ في ذلك.
          فلا وجهَ للتفاخرِ بالنسبِ، قال: ويجوزُ أن يكونَ تقريراً للأُخوَّةِ المانعةِ عن الاغتيابِ انتَهَى.
          وما أحسَنُ ما قيلَ:
الناسُ من جِهةِ التمثالِ أكْفاءُ                      أبوهمُ آدمٌ والأمُّ حوَّاءُ
فإن يكُنْ لهم في أصلِهم شرَفٌ                     يُفاخِرونَ به فالطينُ والماءُ
ما الفضلُ إلا لأهلِ العلمِ إنهمُ                     على الهدى لمَنِ استهدى أدلَّاءُ
وقيمةُ المرءِ ما قد كان يُحسِنُه                     والجاهلونَ لأهلِ العلمِ أعداءُ
          ({وَجَعَلْنَاكُمْ}) أي: أيها الناس ({شُعُوباً}) بضمِّ الشِّين المعجمةِ، جمعُ: شَعبٍ _بفتحِها_ ({وَقَبَائِلَ}) جمعُ: قبيلةٍ، وسيأتي الفرقُ بينهما في كلامِ المصنِّفِ بأنَّ الشُّعوبَ: الأنسَابُ البَعِيدةُ، وأنَّ القبَائلَ: البطونُ دونَ ذلك.
          وقال البيضاويُّ: الشَّعبُ: الجمعُ العَظِيمُ المنتسِبُون إلى أصلٍ واحدٍ، وهو يَجمعُ القبَائلَ، والقبيلةُ: تَجمَعُ العمَائرَ، والعِمَارةُ: تجمعُ البُطونَ، والبطنُ: تجمَعُ الأفخَاذَ، والفخِذُ: تَجمعُ الفصائلَ، قال: فخُزيمةُ شَعبٌ، وكِنانةُ قَبيلةٌ، وقريشٌ عِمارةٌ، وقُصيٌّ بطنٌ، وهاشمٌ فخِذٌ، وعبَّاسُ فصيلةٌ.
          قال: وقيل: الشُّعوبُ: بطونُ العجَمِ، والقبائلُ: بطونُ العربِ، انتهى.
          ومثلُه في الكرمانيِّ والعينيِّ، وزاد العينيُّ: وسُمِّيت شُعوباً لأنَّ القبائلَ تتشعَّبُ منها، وقال صاحبُ ((المنتهى)): الشَّعبُ: ما تشعَّبَ من قبائلِ العربِ والعجَمِ، والشُّعوبُ: الأُممُ المختلفةُ، فالعربُ شَعبٌ، وفارسٌ شَعبٌ، والرُّومُ شَعبٌ، والتُّركُ شَعبٌ، وفي ((الموعِبِ)): الشَّعبُ مثالُ: كعبٍ.
          وعن ابنِ الكلبيِّ: بالكسر، وفي ((نوادِرِ الهجريِّ)): لم يُسمَعْ فصيحاً بكسرِ الشينِ، وفي ((المحكَمِ)): الشَّعبُ هو: القبيلةُ نفسُها، وقد غلَبَ الشعوبُ بلفظِ الجمعِ على جيلِ العجَمِ.
          قال الخَفاجيُّ: ولغلَبةِ الشُّعوبِ على العجَمِ، قيل لمَنْ يفضِّلُ العجَمَ على العربِ: شُعوبيٌّ _بالضم_ نسبةً إلى الجمعِ؛ كأنصاريٍّ، انتهى.
          وفي ((تهذيبِ الأزهريِّ)): أُخذتِ القبائلُ من قبائلِ الرأسِ لاجتماعِها، وفي ((الصِّحاحِ)): قبائلُ الرأسِ: هي القِطعُ المشعوبُ بعضُها إلى بعضٍ، تصلُ بها الشؤونُ، وقال الزجَّاجُ: القبيلةُ من ولدِ إسماعيلَ عليه السلامُ كالسِّبطِ من ولدِ إسحاقَ عليه السلام، سُمُّوا بذلك ليُفرَّقَ بينهما، ومعنى القبيلةِ من ولدِ إسماعيلَ معنى الجماعةِ، يُقالُ لكلِّ جماعةٍ من واحدٍ: قبيلةٌ، ويقالُ لكلِّ جمعٍ على شيءٍ واحدٍ: قَبيلٌ، أخذاً من قبائلِ الشجرةِ؛ وهي أغصانُها.
          قال: وذكرَ ابنُ الهبَّاريَّةِ في كتابِهِ: ((فلَكِ المعاني)) أنَّ القبائلَ من ولدِ عدنانَ مِائتانِ وسبعةٌ وأربعون قبيلةً، والبُطونَ من ولدِه مائتان وأربعةٌ وأربعون بطناً، والأفخاذَ خمسةَ عشَرَ فخِذاً غيرَ أولادِ أبي طالبٍ، ثم قال: وقسَمَ الجَوَّانيُّ العربَ إلى عشَرةِ طبقاتٍ: الجَذْمُ، ثم الجمهورُ، ثم الشِّعبُ، ثم القَبيلةُ، ثم العِمارةُ، ثم البطنُ، ثم الفخِذُ، ثم العشيرةُ، ثم الفصيلةُ، ثم الرَّهطُ، انتهى.
          وقال في ((فتح الباري)): وقسَمَها الزُّبيرُ بنُ بكَّارٍ في كتابِ ((النسَبِ)) إلى: شِعبٍ، ثم قبيلةٍ، ثم عِمارةٍ _بكسرِ العين أكثرُ من فتحِها_، ثم بطنٍ، ثم فَخِذٍ، ثم فصيلةٍ، قال: وزاد غيرُه: قيل: الشِّعبُ: الجَذْمُ، وبعد الفصيلةِ: العشيرةُ، ومنهم مَن زاد بعد العشيرةِ الأسرةَ، ثم العِترةَ، قال: فمثالُ الجَذْمِ: عدنانُ، ومثالُ شِعبٍ: مُضرُ، ومثالُ القَبيلةِ: كِنانةُ، ومثالُ العِمارةِ: قريشٌ، وأمثلةُ ما دون ذلك لا تَخفى، قال: ويقَعُ في عباراتِهم أشياءُ مرادِفةٌ لِما تقدمَ، كقولِهم: حيٌّ وبيتٌ وعَقيلةٌ وأَرُومةٌ وجُرثُومةٌ ورَهطٌ، وغيرُ ذلك.
          قال: ورتَّبَها محمدُ بنُ أسعدَ النسَّابةُ المعروفُ بالحرَّانيِّ جميعَها، وزاد فقال: حرمٌ جَذْمٌ، ثم جُمهورٌ، ثم شِعبٌ، ثم قبيلةٌ، ثم عِمارةٌ، ثم بطنٌ، ثم فخِذٌ، ثم عَشيرةٌ، ثم فصيلةٌ، ثم رهطٌ، ثم أُسرةٌ، ثم عِترةٌ، ثم ذرِّيَّةٌ، قال: وزاد غيرُه في أثنائها ثلاثةً؛ وهي: بيتٌ، وحيٌّ، وجَماعةٌ، فزادت على ما ذكرَ الزُّبيرُ عشَرةً، انتهت.
          تنبيه: سقطَ لأبي ذرٍّ: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} بعد قوله: {وَأُنْثَى...} الآيةَ ({لِتَعَارَفُوا}) بتاء واحدة، / وقُرئَ: ▬لتتعارفوا↨ بتاءين على الأصل، وقرأ ابنُ كثيرٍ في روايةٍ عنه: ▬ولتعارفوا↨ بالإدغام، وقُرئ: ▬ولتعْرِفوا↨ بسكون العين وكسر الرَّاء، ونُسبت لابنِ عباسٍ، وأنكرَها بعضُ أهلِ اللُّغةِ؛ أي: ليعرِفَ بعضُكم بعضاً، ويتميَّزَ بقُربِ النسبِ وبُعدِه مثلاً؛ لئلَّا يفتريَ الشَّخصُ بانتسَابِهِ إلى غيرِ آبائه، وليصِلَ أحدكُم رحِمَه، وليعرِفَ مَن يرِثُه من غيرِه، ولغيرِ ذلك من الفوائدِ، لا للتفاخُرِ بالآباءِ والقبائلِ.
          ثم بيَّنَ تعالى الفضيلةَ المعتبَرةَ بالذَّاتِ التي يتميَّزُ بها الشخصُ ويكتسِبُ بها الشرفَ على غيرِه عند الله تعالى بقولِه: ({إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13])، فإنَّ التَّقوى بها تكمُلُ النفوسُ وتتفاضلُ الأشخاصُ، فمَن أراد شرفاً ومزيَّةً فعليه بالتقوى، كما قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن سرَّه أن يكونَ أكرمَ الناسِ فليتَّقِ اللهَ))، وكما قال أيضاً: ((يا أيُّها الناسُ، إنما الناسُ رجُلانِ: رجلٌ مؤمنٌ تقيٌّ كريمٌ على اللهِ تعالى، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللهِ))، كذا في البيضاويِّ.
          والحديثُ الثاني: أخرجَه ابنُ أبي حاتمٍ عن ابنِ عمرَ ☻ مطوَّلاً، ولفظُه: طافَ رسولُ الله صلعم يومَ فتحِ مكَّةَ على ناقتِه القَصْواءِ يستلِمُ الأركانَ بمِحجَنٍ في يدِه، فما وجدَ لها مُناخاً في المسجِدِ حتى نزَلَ على أيدي الرجالِ، فخرَجَ بها إلى بطنِ المَسيلِ، فأُنيخَت، ثم إنَّ رسولَ الله صلعم خطَبَهم على راحلتِه، فحمِدَ اللهَ وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: ((يا أيُّها الناسُ؛ إنَّ اللهَ قد أذهبَ عنكم عَيبةَ الجاهليةِ وتعظيمَها بآبائها، فالناسُ رجلانِ؛ رجلٌ تقيٌّ كريمٌ على اللهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللهِ، إنَّ اللهَ يقولُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13])) ثم قال: ((أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم)).
          وروى أحمدُ والحارثُ وابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ أبي نصرةَ، حدثَني مَن شهِدَ خُطبةَ النبيِّ صلعم بمِنًى وهو على بعيرٍ يقولُ: ((يا أيُّها الناسُ؛ إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألَا لا فضلَ لعربيٍّ على عجَميٍّ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتَّقوى، خيرُكم عندَ الله أتقَاكُم)).
          (وَقَوْلُهُ) بالرفعِ والجرِّ؛ أي: اللهِ تعالى في أولِ سورةِ النساء: ({وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ}) أي: الذي يسألُ بعضُكم بعضاً به، فيقولُ: أسألُك باللهِ، وأصلُ: {تَسَاءَلُونَ} تتساءلون بتاءين، فأُدغمت أُولاهما في الثانيةِ في قراءةِ الأكثرِ، وقرأ عاصمٌ وحمزةُ والكِسائيُّ بطرحِ إحداهما تخفيفاً ({وَالأَرْحَامَ}) بالنصبِ للأكثرِ عطفاً على: {اللَّهَ} أي: واتقوا الأرحامَ فلا تقطعُوها، أو عطفٌ على محلِّ الجارِّ والمجرورِ، كقولِك: مررتُ بزيدٍ وعمراً، قاله البيضَاويُّ، فليتأمل.
          وهو من عطفِ المتغايرَينِ، وقيل: إنَّه من عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ لأنَّ معنى: {اتَّقُوا اللَّهَ} اتقوا مخالفتَه، وقطعُ الأرحامِ مندرِجٌ في ذلك، وقرأ حمزةُ بجرِ: ▬الأرحامِ↨، وهي قراءةُ الحسَنِ وابنِ عباسٍ عطفاً على ضميرِ {بِهِ} المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ، وهو جائزٌ عند الكوفيِّين من غيرِ ضعفٍ، واختاره ابنُ مالكٍ، وجرى عليه من البصريِّين يونُسُ والأخفشُ، وخصَّه جمهورُ البصريين بالشِّعرِ، وقال البيضاويُّ: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه كبعضِ الكلمةِ، لكن قال البغويُّ: والقراءةُ الأولى أفصحُ؛ لأنَّ العربَ لا تكادُ تنسِّقُ بظاهرٍ على مُكنًّى، إلا أن تُعيدَ الخافضَ، فتقولُ: مررتُ به وبزيدٍ، إلَّا أنَّه جائزٌ مع قلَّتِه، انتهى.
          وقُرئَ بالرفعِ على أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ، تقديرُه: والأرحامُ كذلك؛ أي: مما يُتَّقى أو يُتَساءَلُ به، قال: وقد نبَّهَ اللهُ تعالى / أنَّ قرْنَ الأرحامِ باسمِه على أنَّ صِلتَها بمكانٍ منه تعالى، قال: وعنه صلعم: ((الرَّحِمُ معلَّقةٌ بالعرشِ، تقولُ: مَن وصلَني وصلَه اللهُ، ومَن قطعَني قطعَه اللهُ))، انتهى.
          وأقول: قراءةُ الرفعِ نسبَها العينيُّ لعبدِ اللهِ بنِ يزيدَ المقرئِ، وقال في ((الفتح)): وقرأ ابنُ مسعودٍ فيما قيل بالرفعِ، انتهى.
          وقوله: ({إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}) سقطَ من بعضِ الأصولِ، وأبدلَه بقولِه: <الآيةَ>، وهو تعليلٌ لسابقِه، و{رَقِيباً} أي: مُراقباً لجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم، وقال البيضاويُّ: حافظاً مطَّلعاً، انتهى.
          والمرادُ من ذكرِ هذه الآيةِ _كما في ((الفتح))_ الإشارةُ إلى الاحتياجِ إلى معرفةِ النسَبِ؛ لأنَّه يُعرفُ به ذو الأرحامِ المأمورِ بصلَتِهم، قال: وذكرَ ابنُ حزمٍ في مقدِّمةِ كتابِ ((النسَبِ)) له فصلاً في الرَّدِّ على مَن زعمَ أنَّ عِلمَ النسبِ علمٌ لا ينفَعُ وجهلٌ لا يضُرُّ بأنَّ في علمِ النسَبِ ما هو فرضٌ على كلِّ أحدٍ، وما هو فرضٌ على الكفايةِ، وما هو مستحبٌّ، قال: فمِن ذلك أن يعلَمَ أنَّ محمداً رسولُ الله صلعم هو ابنُ عبدِ الله الهاشميُّ، فمَن زعمَ أنَّه لم يكُنْ هاشمياً فهو كافرٌ، وأن يَعلمَ أنَّ الخليفةَ من قريشٍ، وأن يعرِفَ مَن يلقاه بنسَبٍ في رَحِمٍ محرَّمةٍ ليجتنِبَ تزويجَ ما يحرُمُ عليه منهم، وأن يعرِفَ مَن يتَّصِلُ به ممَّن يرِثُه؛ إذ يجِبُ عليه بِرَّه بصِلةٍ أو نفَقةٍ أو معاوَنةٍ، وأن يعرِفَ أمَّهاتِ المؤمنين، وأنَّ نِكاحَهنَّ حرامٌ على المؤمنين، وأن يعرِفَ الصحابةَ، فإنَّ حبَّهم مطلوبٌ، وأن يعرفَ الأنصارَ ليُحسِنَ إليهم؛ لثبوتِ الوصيَّةِ بذلك، ولأنَّ حبَّهم إيمانٌ وبغضَهم نفاقٌ.
          قال: ومن الفقهاء من يفرِّقُ في الأشرفِ بين العربِ والعجَمِ، فحاجتُه إلى علمِ النسبِ آكدُ، وكذا مَن يفرِّقُ بين نصارى تغلِبَ وغيرِهم في الجِزيةِ وتضعيفِ الصدقةِ، قال: وما فرضَ عمرُ ☺ الدِّيوانَ إلَّا على القبائلِ، ولولا علمُ النسبِ ما تخلَّصَ له ذلك، وقد تبِعَه على ذلك عثمانُ وعليٌّ وغيرُهما.
          وقال ابنُ عبدِ البرِّ في أولِ كتابِ ((النسَبِ)): ولَعَمري؛ لم يُنصِفْ مَن زعمَ أنَّ علمَ النسَبِ عِلمٌ لا ينفعُ وجهلٌ لا يضرُّ.
          قال في ((الفتح)): وهذا الكلامُ قد رُويَ مرفوعاً ولا يثبُتُ، ورُويَ عن عمرَ أيضاً _أي: موقوفاً عليه_،ولا يثبُتُ، بل وردَ في المرفوعِ حديثُ: ((تعلَّمُوا من أنسابِكُم ما تَصِلُون به أرحامَكُم)) قال: وله طُرقٌ أقواها ما أخرجَه الطبَرانيُّ من حديثِ العلاءِ بنِ خارجةَ، وجاء هذا أيضاً عن عمرَ كما ذكرهُ ابنُ حزمٍ بإسنادٍ رجالُه موثَّقونَ، إلَّا أنَّ فيه انقِطَاعاً.
          قال: والَّذي يظهرُ: حملُ ما وردَ من ذمِّه على المتعمِّقِ فيه حتى يشتغِلَ عمَّا هو أهمُّ منه، وحَملُ ما وردَ في استحسَانِه على ما تقدَّمَ من الوجُوهِ التي أوردَها ابنُ حزمٍ، ولا يخفَى أنَّ بعضَ ذلك لا يختَصُّ بعلمِ النَّسَبِ، انتهى.
          وزاد العينيُّ: وقال أبو عمرَ: رُويَ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((كفرٌ بالله ادِّعاءُ نسَبٍ لا يُعرفُ، وكفرٌ بالله تبرُّؤٌ من نسَبٍ وإن دَقَّ)).
          ورُويَ عن أبي بكرٍ مثلُه، وقال صلعم: ((مَن ادَّعى إلى غيرِ أبيهِ، أو انتمَى إلى غَيرِ مَواليهِ، فعليه لعنةُ اللهِ)) وردَّه من وجوهٍ صَحيحةٍ ما يدلُّ على معرفةِ رسولِ اللهِ صلعم بأنسَابِ العربِ.
          وروى الترمذيُّ مصحَّحاً من حديثِ ابنِ عَمرٍو: خرجَ رسولُ الله صلعم وفي يدِه اليمنى كتابٌ، وفي اليسرى كتابٌ، فقال: ((هذا كتابٌ من ربِّ العالمين، فيه أسماءُ أهلِ الجنةِ وأسماءُ آبائهم وقبائلِهم)).
          وقال أبو محمد الرَّشاطيُّ: الحضُّ على معرفةِ الأنسابِ ثابتٌ بالكتابِ والسُّنةِ وإجماعِ الأمةِ، انتهى.
          (وَمَا يُنْهَى) أي: عنه، عطفٌ على: ((قولُ الله))، والفعلُ المبنيُّ للمَفعولِ مضارعُ الغائبِ.
          وقولُه: (مِنْ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ) بيانٌ لـ((ما)) الموصُولةِ أو النَّكِرةِ الموصُوفةِ، وفي أكثرِ الأصُولِ: <عن> بالعين بدلَ الميم، وعليه فلا يَحتاجُ لتقديرِ: عنه، وتكونُ: ((ما)) مصدريَّةً، وعليه شرَحَ شيخُ الإسلامِ، ولذا قال: ولو قال: وما يُنهى عنه من دعوَى الجاهليَّةِ كان أوضَحَ، انتهى.
          واختُلفَ في المرادِ بـ((دعوى الجاهلية))، فقيل: النُّدبةُ على الميِّتِ والنِّياحةُ عليه، وقيل: قولُهم: يا لَفُلانٍ، وقيل: انتسابُ الشخصِ إلى غيرِ أبيه، قال الكرمانيُّ: وهو المناسبُ للمَقامِ، وسيأتي عن قريبٍ أنَّ المصنفَ ترجَمَ له / ببابٍ مستقلٍّ، ونتكلمُ عليه هناك بأبسطَ.
          (الشُّعُوبُ) بضم الشين المعجمة، جمعُ: شَعبٍ _بفتحِها وقد تكسر_ (النَّسَبُ) بفتحِ النون والسين المهملة خبرُ: ((الشُّعوبُ)) (الْبَعِيدُ) صفتُه، مثلُ: مضرَ وربيعةَ (وَالْقَبَائِلُ) بالقافِ، جمعُ: قبيلةٍ، مبتدأٌ (دُونَ ذَلِكَ) خبرُه؛ أي: أنزلُ من الشُّعوبِ؛ كقُريشٍ وتميمٍ، وفي بعضِ الأصولِ: <والقبائلُ: البطونُ دونَ ذلك> وهذا التفسيرُ قولُ مجاهدٍ والضحَّاكِ، وأنشَدُوا لعَمرِو بنِ أحمرَ:
من شَعبِ همْدانَ أو سعْدِ العَشِيرةِ                     أو خَوْلانَ أو مَذْحِجٍ هاجُوا له طَرَباً