الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله}

          ░12▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالى) ولأبي ذرٍّ: <╡>؛ أي: بابُ ذكرِ هذه الآيةِ، وإنما ذكرَها هنا؛ لأنَّ فيها ذِكرَ الرجالِ الموصُوفين بما فيها، وكذا في حديثِ البابِ، وفيهم نزلَتِ الآيةُ، فحصلَتِ المناسبةُ، فتأمل.
          وهي في سورةِ الأحزابِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} جارٌّ ومجرورٌ، خبرٌ مقدَّمٌ، و{رِجَالٌ} مبتدأٌ مؤخَّرٌ، ذكره القسطلانيُّ كالعينيِّ، ولم يتعرَّضا لإعرابِ جملةِ: {صَدَقُوا} وهي: صفةٌ لـ{رِجَالٌ} أو مستأنفٌ، وأقولُ: لو جُعلَ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} حالٌ من: {رِجَالٌ}، وجملةُ: {صَدَقُوا} خبر لم يمتنِعْ إن جعَلْنا الحالَ كالصِّفةِ مسوِّغةِ للابتِداءِ بالنَّكِرةِ، فليتأمل.
          وجملةُ: {عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} صلةُ: {مَا} أو صفتُها، قال في ((الفتح)): المرادُ بالمعاهَدةِ المذكورةِ ما تقدَّمَ ذِكرُه من قولِه تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} [الأحزاب:15]، وكان ذلك أولَ ما خرجوا إلى أُحدٍ، هذا قولُ ابنِ إسحاقَ، وقيل: ما وقعَ ليلةَ العقَبةِ من الأنصارِ إذ بايَعُوا النبيَّ صلعم على أن يُؤوُه / وينصُروه ويمنَعُوه، والأولُ أَولى، انتهى.
          وقال البيضاويُّ: {مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} من الثباتِ معَ الرسولِ والمقاتَلةِ لإعلاءِ الدِّينِ، من: صدَقَني، إذا قال لك الصِّدقَ، فإنَّ المعاهِدَ إذا وفى بعَهدِه فقد صدَقَ فيه ({فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}) أي: ماتَ بالقتالِ ({وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]) قال في ((المصباح)): نحَبَ نَحْباً _من باب: قتَلَ_: نذَرَ، وقَضى نحْبَه: ماتَ أو قُتلَ في سبيلِ اللهِ، وأصلُه: الوفاءُ بالنذرِ، وفي التنزيلِ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}، انتهى.
          وذكر الواحديُّ عن النزَّالِ بنِ سَبْرةَ، عن عليٍّ ☺ قال: قالوا له: حدِّثْنا عن طلحةَ، فقال: ذاك امرؤٌ نزلَتْ فيه آيةٌ من كتابِ اللهِ تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} طَلْحةُ ممن قضَى نحبَه، لا حسابَ عليه فيما يستقبِلُ، ومن حديثِ عيسى بنِ طلحةَ: أنَّ النبيَّ صلعم مرَّ عليه طلحةُ، فقال: ((هذا ممَّنْ قضى نحبَه)).
          وقال مقاتلٌ في ((تفسيرِه)): {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يعني: أجلَه، فماتَ على الوفاءِ بالعهدِ؛ يعني: حمزةَ وأصحابَه المقتولين بأُحُدٍ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} يعني: من المؤمنين مَن ينتظِرُ أجلَه على الوفاءِ بالعهدِ، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} كما بدَّلَ المنافقون.
          وقال البيضاويُّ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} نذرَه بأن قاتَلَ حتى استُشهدَ؛ كحمزةَ ومُصعبِ بنِ عُميرٍ وأنسِ بنِ النَّضْرِ، والنَّحبُ: النَّذرُ، واستُعيرَ للموتِ لأنَّه كنَذرٍ لازمٍ في رقَبةِ كلِّ حيوانٍ، انتهى.
          {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} أي: الشهادةَ؛ كعثمانَ وطلحةَ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وأصلُ النَّحْبِ: النَّذرُ، فلمَّا كان كلُّ حيٍّ لا بدَّ له من الموتِ، كان كأنَّه نذرٌ لازمٌ له، فإذا ماتَ فقد قضاه، قال: والمرادُ هنا مَن مات على عهدٍ؛ لمُقابلتِه بمَن ينتظرُ ذلك، قال: وأخرجَ ذلك ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادٍ حسَنٍ عن ابن عباسٍ ☻.
          وقال النَّسفيُّ في ((تفسيره)): النَّحبُ يأتي على وجوهِ النذرِ، {قَضَى نَحْبَهُ} أي: نذْرَه والخطَرَ؛ أي: فرَغَ من خطَرِ الحياةِ؛ لأنَّ الحيَّ على خطَرٍ ما عاشَ، والسيرَ السريعَ؛ أي: سار بسرعةٍ إلى أجلِه، والنَّوبةَ؛ أي: قضى نَوبتَه، والنَّفَسَ؛ أي: فرَغَ من أنفاسِه، والنَّصَبَ؛ أي: فرَغَ من نصَبِ العيشِ وجهدِه، انتهى.
          ({وَمَا بَدَّلُوا}) أي: العهدَ ولا غيَّرُوه ({تَبْدِيلاً}) مصدرٌ مؤكِّدٌ لعاملِه، وقال البيضاويُّ: أي: شيئاً من التبديلِ، رويَ أنَّ طلحةَ ثبَتَ مع رسولِ الله صلعم يومَ أُحدَ حتى أُصيبَتْ يدُه، فقال عليه السلامُ: ((أوجَبَ طَلحةُ أوجَبَ طَلحةُ)) وفيه تعريضٌ لأهلِ النفاقِ ومرضِ القلبِ بالتبديلِ، انتهى.
          وقال غيرُه: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} بل استمرُّوا على ما عاهدوا اللهَ عليه، وما نقَضُوه كفعلِ المنافقين الذين قالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب:13] {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} [الأحزاب:15].