الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: الشهادة سبع سوى القتل

          ░30▒ (بابٌ): بالتَّنوين (الشَّهَادَةُ سَبْعٌ): بتقديم السِّين المهملة على الموحَّدة، خبرُ ((الشَّهادة))، ويجوزُ ترك تنوين ((باب)) على إضافتِهِ لـ((الشَّهادة))، و((سبع)) خبرٌ لمحذوفٍ؛ أي: هي سبعٌ، والجملةُ مستأنفةٌ استئنافاً بيانيًّا (سِوَى الْقَتْلِ): أي: إلَّا القتلَ في سبيلِ اللهِ، فتكونُ بها ثمانيةٌ، لكنْ استشكلَهُ الإسماعيليُّ وغيره بأنه لا مطابقةَ بين التَّرجمةِ والحديثِ الذي أوردَهُ هنا، وأجابَ الزَّركشيُّ ومَن تبعَهُ بأنَّه أشارَ بها إلى أنَّ الحديثَ بالسَّبعِ قد وردَ، لكنْ ليس على شرطِهِ؛ أي: وهو ما رواهُ مالكٌ في ((الموطَّأ)) من حديثِ جابرِ بن عتيكٍ بلفظ: ((الشُّهداءُ سبعةٌ سوَى القتلِ في سبيلِ الله تعالى، المطعُونُ شهيدٌ، والغرقُ شهيدٌ، وصاحِبُ ذاتِ الجنْبِ شهيدٌ، والمبطونُ شهيدٌ، والحرقُ شهيدٌ، والَّذي يموتُ تحتَ الهدْمِ شهيدٌ، والمرأةُ تموتُ بجُمْعٍ شهيدٌ)) و((جُمْع)) بضمِّ الجيم وسكون الميم فعين مهملة بمعنى: مجموع، كالذُّخر بمعنى: المذخُورِ، وهي أن تموتَ وفي بطنها ولدٌ ميتٌ، وقيل: هي الميِّتة بكراً.
          وقال في ((الفتح)): جمع بضمِّ الجيم وقد تُفتَح وتُكسَر أيضاً، وهي النفساءُ، قال: وقيل: التي تموتُ بمزدلفَةَ، وهو خطأٌ ظاهرٌ، والأوَّل أشهرُ، انتهى، وقال في ((القاموس)): ماتَتْ بجمعٍ مثلَّثةُ، عذراء أو حاملاً أو مثقلةً.
          وأجابُ ابن المنيِّرِ بأنَّ ظاهرَ كلامِ ابن بطَّالٍ: أنَّ البخاريَّ أرادَ أن يُدخِل حديثَ جابر بن عتيك _أي: الَّذي رواهُ أبو داود والنَّسائيُّ وابن حِبَّان_ فأعجلَتْه المنيَّة عن ذلك، / وزادَ فيه ونقصَ، فمِن زيادته: ((ومَن ماتَ في سبيلِ اللهِ فهو شهيدٌ))، قال: ولأحمدَ من حديثِ راشدِ بن خُنَيسٍ وفيه: ((والسِّل))، وروى أصحابُ ((السُّنن)) وصحَّحه التِّرمذيُّ من حديثِ سعيدِ بن زيدٍ مرفوعاً: ((مَن قُتِل دون مالِهِ فهو شهيدٌ))، وقال: في الدِّين والدَّم والأهلِ مثلُ ذلك، انتهى.
          وروى الخطيبُ في ((تاريخه)) عن ابن عبَّاسٍ مرفوعاً: ((مَن عشِقَ وعفَّ وكتَمَ فماتَ فهو شهيدٌ))، ورواه السَّرَّاج في ((مصارعِ العُشَّاق)) بلفظ: ((من عشِقَ فظفرَ فعفَّ فمَاتَ ماتَ شهيداً))، وروى ابنُ عبدِ البرِّ في ((كتاب العلمِ)) عن أبي ذرٍّ وأبي هريرةَ: ((إذا جاءَ الموتُ طالبَ العلمِ وهو على حالِهِ ماتَ شهيداً))، وروى التِّرمذيُّ وقال: حسنٌ غريبٌ: ((مَن قالَ حين يُصبِحُ ثلاثَ مرَّاتٍ: أعوذُ باللهِ السَّميعِ العليمِ من الشَّيطانِ الرَّجيم، وقرأ ثلاث آياتٍ من آخرِ سورةِ الحشرِ، فإن ماتَ من يومِه ماتَ شهيداً))، ولأبي نُعيمٍ عن ابن عمر: ((مَن صلَّى الضُّحى وصامَ ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ ولم يتركْ الوترَ كتبَ اللهُ له أجرَ شهيدٍ)).
          قال في ((الفتح)): وروى مسلمٌ عن أبي هُريرةَ شاهداً لحديثِ جابرِ بنِ عَتِيكٍ، ولفظُه: ((ما تعدُّونَ الشُّهداءُ فيكم؟)) قال: ويحتمَلُ أن يكونَ أرادَ التَّنبيه على أنَّ الشَّهادةَ لا تنحصِرُ في القتلِ، بل لها أسبابٌ أُخَر، وتلكَ الأسبابُ اختلفَتْ الأحادِيثُ في عدَدِها، ففي بعضِها خمسَةٌ، وفي بعضِهَا سبعَةٌ، والَّذي وافَقَ شرطَ البُخاريِّ الخمسة، فنبَّه بالتَّرجمة على أنَّ العددَ الواردَ ليس على معنى التَّحديدِ، انتهى.
          وقال بعضُ المتأخِّرين: ويحتملُ أن يكونَ بعض الرُّواة _يعني: رواةُ الخمسةِ_ نسيَ الباقِي.
          قلتُ: وهو احتمالٌ بعيدٌ، لكنْ يقرِّبه ما تقدَّمَ من الزيادَةِ في حديثِ أبي هُريرة عند مسلمٍ، وكذا وقَعَ لأحمدَ من وجهٍ آخر عنه: ((والمجنوبُ شهيدٌ)) يعني: صاحِبَ ذاتِ الجنْبِ، والَّذي يظهرُ أنَّه صلعم أعلمَ بالأقلِّ، ثمَّ عَلِمَ زيادةً على ذلكَ فذكرَهَا في وقتٍ آخرَ ولم يقصِدْ الحصرَ في شيءٍ من ذلكَ، وقد اجتمَعَ لنا من الطُّرقِ الجيِّدة أكثرَ من عشرينَ خَصْلةً، فإنَّ مجموعَ ما قدَّمته ممَّا اشتملتْ عليه الأحاديثُ التي ذكرتها أربعَ عشرةَ خصلةً، وتقدَّم في باب مَن ينكبُّ في سبيلِ الله حديثُ أبي مالكٍ الأشعريِّ مرفوعاً: ((مَن وقصَه فرسُه أو بعيرُه أو لدغَتْه هامةٌ أو ماتَ على فراشِه على أيِّ حتفٍ شاءَ اللهُ فهو شهيدٌ)).
          وصحَّح الدَّارقطنيُّ من حديثِ ابنِ عُمر: ((موتُ الغريبِ شهَادةٌ))، ولابنِ حبَّانَ من حديثِ أبي هُريرة: ((مَن ماتَ مُرَابطاً ماتَ شَهيداً))...الحديث، وللطَّبرانيِّ من حديثِ ابن عبَّاس مرفوعاً: ((المرءُ يموتُ على فراشِهِ في سبيلِ اللهِ شهيدٌ))، وقال ذلك أيضاً في المبطونِ واللَّديغِ والغَرِيقِ والشَّريقِ والذي يفترسُهُ السَّبُع والخارُّ _بالخاء المعجمة وتشديد الرَّاء_ عن دابَّته، وصاحبُ الهدْمِ، وذاتُ الجنْبِ، ولأبي داود من حديث أمِّ حرامٍ: ((المائدُ في البحرِ الذي يصيبُه القيءُ له أجرُ شهيدٍ)).
          وقد تقدَّمت أحاديثُ في مَن طلبَ الشَّهادة بنيَّة صادقة أنَّه يُكتَب شهيداً في باب تمنِّي الشَّهادة، ويأتي في كتاب الطِّبِّ حديثٌ في من صبرَ في الطَّاعونِ أنَّه شهيدٌ، وتقدَّمَ حديثُ عقبةَ بن عامرٍ في من صرعَتْه دابَّتُه، وأنَّه عند الطَّبرانيِّ، وعنده من حديثِ ابن مسعودٍ بإسنادٍ صَحيحٍ أنَّ: ((مَن يتردَّى من رؤوسِ الجبَالِ وتأكلُه السِّباعُ، ويغرَقُ / في البحارِ لشهيدٌ عندَ اللهِ))، قال: ووردَتْ أحاديثُ أخرى في أمورٍ أخرى لم أعرِّج عليها لضعفِهَا، قال ابنُ التِّين: هذه كلُّها ميتاتٌ فيها شدَّة تفضَّلِ اللهِ على أمَّة محمَّد بأن جعلهَا تمحيصاً لذنوبِهِم، وزيادةً في أجورِهِم، يبلِّغهم بها مراتبَ الشُّهداء.
          قلتُ: والَّذي يظهرُ أنَّ المذكورين ليسُوا في المرتبَةِ سواء، ويدلُّ عليهِ ما روى أحمدُ وابنُ حبَّان في ((صحيحه)) من حديثِ جابر، والدَّارميُّ وأحمدُ والطَّحاويُّ من حديث عبدِ الله بنِ حبشيٍّ، وابنُ ماجه من حديثِ عَمرو بن عنبسةَ: أنَّ النبيَّ صلعم سُئل: أيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قال: ((مَن عقرَه جوادُه وأُهرِيق دمُه))، وروى الحسنُ بن عليٍّ الحلواني في كتاب ((المعرفة)) له بإسنادٍ حسنٍ من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ قال: ((كلُّ موتةٍ يموتُ بها المسلمُ فهو شهيدٌ، غيرَ أنَّ الشَّهادةَ تتفَاضَلُ)).
          قال: ويتحصَّلُ ممَّا ذكِرَ في هذه الأحاديثِ أنَّ الشهداء قسمان، شهيدُ الدُّنيا والآخرةِ، وهو من يُقتَل في حربِ الكفَّار مُقبلاً غيرَ مدبرٍ مُخلِصاً، وشهيدُ الآخرةِ، وهم مَن ذُكِروا؛ أي: غيرِ المقتولِ في سبيلِ الله بمعنى أنَّهم يُعطَون من جنسِ أجرِ الشُّهداء، ولا تجرِي عليهم أحكامهُم في الدُّنيا، وللنَّسائيِّ وأحمدَ من حديثِ العرباضِ بن ساريةَ مرفوعاً: ((يختصمُ الشُّهداءُ والمُتوفَّون على الفرشِ في الذين يُتوَفَّون من الطَّاعونِ فيقولون: انظرُوا إلى جراحِهِم، فإن أشبهَتْ جراحَ المقتولينَ فإنَّهم معهم ومنهم، فإذا جراحُهُم قد أشبهَتْ جراحَهم))، قال: وإذا تقرَّر ذلك فيكونُ إطلاقُ الشُّهداءِ على غيرِ المقتولِ في سبيلِ الله مجازاً، فيحتجُّ به مَن يجيزُ استعمالَ اللَّفظِ في حقيقتِهِ ومجازِه، والمانعُ يجيبُ بأنَّه من عمومِ المجاز، وقد يُطلَق الشَّهيدُ على من قُتِل في حربِ الكفَّار، لكن لا يكونُ له ذلك في حكمِ الآخرةِ لعارضٍ يمنعُه كالانهزامِ وفسَادِ النِّيَّة، انتهى ملخَّصاً.
          وقال شيخُ الإسلام وغيرُه: وقد قسَّم العلماءُ الشُّهداء ثلاثة أقسامٍ: شهيدٌ في حكم الدُّنيا، بمعنى أنَّه لا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه، وفي حكمِ الآخرةِ بمعنى أنَّ له فيها ثواباً خاصًّا، وهو مَن قُتِل في قتالِ الكفَّار بسببهِ، وقد قاتلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، وشهيدٌ في الآخرة دون الدُّنيا، وهم من ذُكِروا آنفاً، وشهيدٌ في الآخرةِ دون الدُّنيا، وهو من قُتِل في قتالِ الكفَّار بسببِه وقد غلَّ في الغنيمةِ أو قُتِل مُدبِراً أو قُتِل رياءً ونحوه.
          تنبيهٌ: أوصلَ العينيُّ وغيرُه الشُّهداء أخذاً من الأحاديثِ إلى نحو أربعين، منها: ما رواهُ الحارثُ بن أبي أسامةَ عن أنس بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ الله صلعم: ((الشُّهداءُ ثلاثةٌ: رجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالهِ صابراً محتسباً لا يريدُ أن يُقتَل ولا يَقتُل، فإن ماتَ أو قُتِل غُفِرتْ له ذنوبُه كلُّها، ويُجارُ من عذابِ القبرِ، ويُؤمن من الفَزَع الأكبرِ، ويُزوَّجُ من الحورِ العينِ، ويُخلَعُ عليه حلَّة الكرامةِ، ويُوضَعُ على رأسِهِ تاجُ الخلدِ، والثَّاني رجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالهِ محتَسِباً يُريد أن يَقتُل ولا يُقتَلَ، فإن ماتَ أو قُتِل كانتْ ركبتُه وركبةُ إبراهيمَ الخليلِ عليه السَّلامُ بين يدي اللهِ ╡ في مقعدِ صِدْقٍ، والثَّالث رجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالهِ محتسباً يريدُ أن يُقتَل ولا يَقتُل، فإن ماتَ أو قُتِل فإنَّه يجيءُ يوم القيامةِ شاهراً سيفَهُ واضعَه على عاتقِهِ والنَّاسُ جاثونَ على الرُّكبِ يقولون: أفسِحُوا لنا، قد بذلنا دماءَنا لله ╡، والذي نفسِي بيدِه لو قال ذلك لإبراهيمَ / عليه السَّلام أو لنبيٍّ من الأنبياءِ عليهم السَّلام لتنحَّى لهم عن الطَّريق لِما يرى من حقِّهِم، ولا يسألُ اللهَ شيئاً إلَّا أعطَاهُ، ولا يشفعُ في أحدٍ إلَّا شفعَ فيه، ويُعطَى في الجنَّةِ ما أحبَّ))...الحديث بطوله، وليُنظرْ حاله.
          وروى التِّرمذيُّ من حديثِ فضَالة بن عُبيدٍ يقول: سمعتُ عمرَ بن الخطَّاب ☺ يقول: سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: ((الشُّهداءُ أربعةٌ: رجلٌ مؤمنٌ جيِّدُ الإيمانِ لقيَ العدوَّ فصدقَ اللهَ حتَّى قُتِلَ، فذاك الذي يرفعُ النَّاس إليه أعينَهُم يوم القيامةَ هكذا _ورفعَ رأسَه حتَّى وقعَتْ قلنسوتَهُ، فما أدرِي أقلنسُوةَ النبيِّ صلعم_ قال: ورجلٌ مؤمنٌ جيِّد الإيمانِ، لقي العدوَّ، فكأنَّما ضربَ جلدَه بشوكِ طلحٍ من الجبنِ، أتاه سهمٌ غَرْبٌ فقتلَهُ فهو في الدَّرجة الثَّانية، ورجلٌ مؤمنٌ خلطَ عملاً صالحاً، فصدقَ اللهَ حتى قُتِلَ، فذاك في الدَّرجة الثَّالثة، ورجلٌ مؤمنٌ أسرفَ على نفسِهِ، لقيَ العدوَّ فصدقَ اللهَ حتَّى قُتِلَ، فذاك في الدَّرجةِ الرَّابعةِ))، وقال التِّرمذيُّ: هذا حسنٌ غريبٌ.
          ومنها ما في ((الاستذكار)) عن عمرَ قال: الشَّهيدُ مَن احتسَبَ نفسَهُ على الله شهيداً، ومنها ما في ((الصَّحيح)): ((من قُتِل دونَ مالهِ فهو شهيدٌ، ومن قُتِلَ دونَ أهلهِ فهو شهيدٌ، ومَن قُتِل دونَ دينهِ فهو شهيدٌ، ومَن قُتِل دونَ دمهِ فهو شهيدٌ، ومَن وقصَه فرسُه أو لدغتْه هامةٌ، أو ماتَ على فراشِهِ على أيِّ حتفٍ شاء اللهُ فهو شهيدٌ، ومَن حبسَه السُّلطانُ ظالماً له أو ضرَبه فهو شهيدٌ، وكلُّ موتةٍ يموتُ بها المسلمُ فهو شهيدٌ)).
          وفي حديثِ ابن عبَّاسٍ: ((المرابطُ يموتُ في فراشِهِ في سبيلِ الله فهو شهيدٌ، والشَّرقُ شهيدٌ، والَّذي يفترسُه السَّبُع شهيدٌ))، وعندَ ابنِ أبي عُمر من حديثِ ابن مسعودٍ: ((ومَن تردَّى من الجبالِ شهيدٌ))، وقال ابنُ العربيِّ: وصاحبُ النَّظرة وهو المعينُ والغريبُ شهيدان، قال: وحديثهما حسنٌ.
          ولما ذكر الدَّارقطنيُّ حديث ابنِ عُمر: ((الغريبُ شهيدٌ))، صحَّحَه، وروى ابنُ ماجه بسندٍ جيِّدٍ من حديثِ أبي هُريرة: ((مَن ماتَ مريضاً ماتَ شهيداً ووقيَ فتنةَ القبرِ))، وللنَّسائيِّ من حديثِ سويد بنُ مُقرِّن: ((مَن قُتِل دونَ مظلمةٍ فهو شهيدٌ))، وللآجرِّيِّ بسندِه: ((يا أنسُ، إن استطعْتَ أن تكونَ أبداً على وضوءٍ فافعل، فإنَّ ملكَ الموتِ إذا قبضَ روحَ العبدِ وهو على وضُوءٍ كُتِبَ له شَهادةٌ))، ولأبي نُعَيم وقال: غريبٌ عن جابرٍ: ((مَن ماتَ يومَ الجمعةِ أو ليلةَ الجمعةِ أُجِيرَ من عذابِ القبرِ)).