التوضيح لشرح الجامع البخاري

وقوله تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى}

          ░4▒ (قَوْله تَعَالَى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنْزَلنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الْمَنَّ} صَمْغَةٌ، {وَالسَّلوَى} طَائِرٌ).
          4478- (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حدَّثَنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: الكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلعَيْنِ).
          قلتُ: تابعه شُعْبة عن عبد الملك، ذكره في سورة الأعراف [خ¦4639] والطِّبِّ [خ¦5708].
          الشَّرح: (الْمَنِّ) مثل الترنْجَبين فهو منٌّ مَحْضٌ لم يَشُبْه عملٌ، وأثرُ مجاهدٍ هذا أخرجه عبدٌ عن شَبَابة عن وَرقاءَ عن ابن أبي نَجِيحٍ عنه، قال قَتَادة: كان يسقط عليهم في مجلسهم مِنْ طلوع الفجر إلى طلوع الشَّمس كسقوط الثَّلج، ثُمَّ يأخذ كلُّ واحدٍ منهم قدر ما يكفيه يومَه ذلك، فإذا تعدَّاه فسدَ، ويأخذ يوم الجمعة ما يكفيه ليومه ويوم السَّبت.
          و(السَّلْوَى طَائِرٌ) يُشبه السُّمَانيَّ، وقال الضَّحَّاك: هو السُّمَانيُّ، وعبارةُ بعضِهم أنَّه أكبر مِنَ العصفور، وعن وَهْبٍ: المنُّ خبز الرِّقاق مثل الذُّرة أو مثل النَّقيِّ، والسَّلوى طيرٌ سمينٌ يأخذون منه مِنْ سبتٍ إلى سبتٍ، وأغربَ المُؤَرِّج فقال: السَّلوى العسلُ لا جَرَمَ، قال ابنُ عطيَّة: إنَّه طيرٌ بإجماع المفسِّرين.
          ثُمَّ الكلام على الحديث مِنْ وجوهٍ، ويأتي في سورة الأعراف [خ¦4639] والطِّبِّ [خ¦5708]، وأخرجه مسلمٌ والتِّرمِذيُّ والنَّسَائيُّ وابن ماجَهْ.
          أحدُها: هذا الحديث يُروى مِنْ طرقٍ أخرى، قال التِّرمِذيُّ بعد أن أخرجه مِنْ حديث أبي هريرة: وفي الباب عن سعيد بن زيدٍ وأبي سعيدٍ وجابرٍ، ثُمَّ أخرجه مِنْ حديث سعيد بن زيدٍ وقال: حسنٌ صحيحٌ. وأخرجه النَّسَائيُّ مِنْ حديث شَهرِ بنِ حَوْشب عن ابنِ عبَّاسٍ، وأخرجه أبو سهلٍ أحمد بن مُحمَّد بن سهلٍ القَطَّان مِنْ حديث عائشة، وابنُ أبي عاصمٍ في «الطِّبِّ» مِنْ حديث بُرَيْدَة وصُهَيبٍ وجابر بن عبد الله وأبي سعيدٍ الخُدْريِّ، وعند الدَّارَقُطْنيِّ مِنْ حديث ابن عُيَينةَ عن عبد الملك بزيادة: ((مِنَ المنِّ الَّذي أُنزِلَ عَلى بَنِي إسرائيلَ))، ورواه عَطاءُ بن السَّائب عن عمرو بن حُرَيثٍ عن أبيه عن رَسُول الله صلعم، ووَهَمَ في قوله: عن أبيه، ولا يُعلم لأبيه حُرَيثٍ صحبةٌ، وقد قيل: إنَّ سعيد بن زيدٍ زَوْجُ أمِّ عَمرو بن حُريثٍ فكان عمرٌو ربيبَه، فلذلك قال: حدَّثني أبي، وإنَّما عَنَى سعيد بن زيدٍ زوج أمِّه.
          و(سُفْيَانُ) المَذكور هنا هو الثَّوْريُّ، وإن كان ابن عُيَينةَ يروي أيضًا عن عبد الملك كما مرَّ؛ لأنَّ الدَّارَقُطْنيَّ بيَّن الزِّيادة الَّتي رواها ابن عُيَينةَ على حديث سفيانَ الثَّوْريِّ، لأنَّ الغالب إذا أُطْلق سفيان عن عبد الملك يكون الثَّوْريَّ، كذا ذكرَه أبو مسعودٍ لمَّا ذكر هذا الحديث، ولأبي نُعَيْمٍ مِنْ حديث رِشْدِين بن سعدٍ عن معاوية بن صالحٍ عن عِكرمة عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((ضَحِكَتِ الجنَّةُ فأخرجَتِ الكَمأَةَ)).
          الوجه الثَّاني: (الْكَمْأَةُ) نباتٌ معروفٌ، وفي التِّرمِذيِّ مِنْ حديث شهر بن حَوشب عن أبي هريرة ☺ أنَّ ناسًا مِنْ أصحاب رَسُول الله صلعم قالوا: الكَمْأَةُ جدريُّ الأرض، فقال صلعم: ((الكمأة مِنَ الْمَنِّ)) ثُمَّ قال: حسنٌ. وقد أوضحها ابن سِيدَهْ وابن البَيطار في «جامعه» وأبو حَنيفةَ، وقيل: إنَّها إلى الغُبْرة والسَّواد، والكَمْأة جماعةٌ على الأصحِّ واحدها كمْءٌ، وهو نادرٌ لأنَّ حذف الهاء علامةٌ للجمع إلَّا في هذا، ولها عدَّة أسماء ذكر ابن خالَويهِ في كتاب «ليس» فوق العشرة منها: بَناتُ أَوْبَرَ، وقال أبو عمرٍو مثلها وأهمل اسماءً أُخر، ذكرها كُراعٌ في «المُنجَّد»، وذكر القزَّاز العُرْجون والفِطْر لأنَّ الأرض تنفطر عنها، وسُمِّي أيضًا بنات الرَّعد لأنَّها تكثر بكثرته.
          الثَّالث: ذهب أبو هريرة إلى ظاهره، روى التِّرمِذيُّ مِنْ حديث قَتَادة قال: حُدِّثت أنَّ أبا هريرة قال: أخذتُ ثلاثة أَكْمُؤٍ أو خمسًا أو سبعًا فعصرتُهنَّ وجعلت ماءَهن في قارورةٍ وكحَّلت به جاريةً فبرئت. وذهب غيرُه إلى أنَّه يُضاف إليه أدويةٌ ثُمَّ يكتحل به، وبه جزم الخطَّابيُّ لا بَحْتًا فإنه يؤذي العين ويُقذيها، وقال ابن العربيِّ: الصَّحيح أنَّه ينتفع بصورته في حالٍ وبإضافته في أخرى. وقيل: إن كان في العين حرارةٌ فماؤها وحدَه، وإن كان لغير ذلك فمع غيره، وذكر ابنُ الجَوْزيِّ أنَّ الأطبَّاء يقولون: أَكْلُ الكمأة يجلو البصر، وقيل: تؤخذُ فتُشقُّ وتوضع على الجمر حتَّى يغلي ماؤُها، ثُمَّ يؤخذ ميلٌ فيصيَّر في ذلك الشِّقِّ وهو فاترٌ فيكتحل به، ولا يجعل المِيل في مائها وهي باردةٌ يابسةٌ، وقيل: أراد الماء الَّذي تنبت به، وهو أوَّل مطرٍ ينزل الأرض فتُربى به الأكحال، ونقله عن شيخه أبي بكرِ بن عبد الباقي وقال: قاله لنا.
          الرَّابع: قد أسلفنا رواية الدَّارَقُطْنيِّ: ((إنَّها مِنَ المنِّ الَّذي أُنزل على بني إسرائيلَ))، وأمَّا الخطَّابيُّ فقال: لم يُرِدْ الكمأةُ مِنْ نوع المنِّ الَّذي أُنزل على بني إسرائيل، وإنَّما معناه أنَّه شيءٌ ينبت بنفسه مِنْ غير استنباتٍ ومُؤنةٍ وتكلُّفٍ له، فهو بمنزلة المنِّ الَّذي كان ينزل عليهم فيكون قوتًا لهم، وإنَّما نالت هذا الثَّناءَ لأنَّها مِنَ الحلال الَّذي ليس في اكتسابه شبهةٌ، وكذا قال الدَّاوُديُّ: يريد أنَّه ليس زَريعةً، إنَّما ينبت بماء السَّماء، وقيل: أرادَ أنَّها تنفع مَنْ تأخذه العين، حكاه ابن التِّيْنِ، قال: وفي روايةٍ: ((وَماؤُها شفاءٌ مِنَ العَينِ)) وقيل: يريد مِنْ داء العين، فحُذف المضاف.