التوضيح لشرح الجامع البخاري

سورة الطلاق

          ░░░65▒▒▒ (سُورَةُ الطَّلاقِ)
          هي مدنيَّةٌ، ونزلت بعد {هَلْ أَتَى} وقبل: {لَمْ يَكُنْ} كما قاله السَّخَاويُّ، وهي سورة النِّساء الصُّغرى كما قاله مقاتلٌ، والقُصرَى كما سيأتي.
          (ص) (وقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق:4] إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أَتَحِيضُ أَمْ لَا تَحِيضُ، وَاللَّائِي قَعَدْنَ عَنِ الحَيْضِ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ بعدُ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ) هذا ثابتٌ في بعض النُّسخ، فالمعنى: إن شككتم أنَّ الدَّم الَّذِي يظهر منها لكبرها مِنَ الحيض أو الاستحاضة، وهو قول الزُّهْريِّ وغيرُه أيضًا، وقال آخرون: إن ارتبتم في حكمِهنَّ فلم تدروا ما الحكم في عدَّتهن.
          (ص) (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق:9] جَزَاءَ أَمْرِهَا) أخرجه ابن أبي حاتمٍ عن حجَّاجٍ عن شَبَابة عن وَرقاءَ عن ابن أبي نَجِيحٍ عنه، وقيل: عاقبة أمرها.
          4908- ثُمَّ ساق حديثَ ابنِ عمر ☻: (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلعم فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلعم ثُمَّ قَالَ: لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ العِدَّةُ كمَا أَمَرَ اللَّهُ).
          وهو حديثٌ متَّفقٌ على صحَّته، أخرجه مسلمٌ والأربعة أيضًا، وفي روايةٍ: ((مُرْهُ فَليُراجِعْها حتَّى تَطهُرَ ثُمَّ إنْ شاءَ طلَّقَ وإنْ شاءَ أَمسكَ))، وفي أخرى: ((مُرْهُ فليطلِّقها طاهرًا أو حَائلًا))، وأشار مسلمٌ إلى حديث أبي الزُّبير، قال عبد اللَّه: فردَّها ولم يَرَهَ شيئًا، قال أبو داود: كلُّ الأحاديث تخالفُ ما رواه أبو الزُّبير، وقال غيرُه: لم يروِ أبو الزُّبير أَنْكَرَ منه، وقال الشَّافعيُّ: نافعٌ في ابن عمر أثبتُ مِنْ أبي الزُّبير، والأثبتُ مِنَ الحديثين أولى أن يُقَالَ به، وأشار الخطَّابيُّ إلى ضعفِه، وقال أبو عمرَ: لم يقل هذا عن ابن عمرَ غير أبي الزُّبير، قلتُ: وإن تُوبِعَ أبو الزُّبير عليه حيث رواه مُحمَّد بن عبد السَّلام الخُشَنيُّ عن مُحمَّد بن بشَّارٍ حدَّثَنا عبد الوهَّاب الثَّقفيُّ حدَّثَنا عُبيدُ اللَّهِ بن عمرَ عن نافعٍ عن ابن عمرَ ☻ في الرَّجُل يطلِّق امرأته وهي حائضٌ، قال ابن عمرَ: لا يُعتَدُّ بذلك فلا يُقَاوِمُ ما صحَّ، ولمَّا رواه الدَّارَقُطْنيُّ مِنْ حديث أبي الزُّبير عنه: طلَّقتُ امرأتي ثلاثًا على عهدِ رسول اللَّه صلعم فردَّها رسولُ اللَّه صلعم إلى السُنَّة، قال: ورواته كلُّهم شيعةٌ، ومِنْ طريق مُعلَّى بن منصورٍ: قال عبد اللَّه: قلتُ: يا رسول اللَّهِ، أرأيتَ امرأتي طلَّقتُها ثلاثًا، أكان يحلُّ لي أن أراجعها؟ قال: ((لَا، كانت تَبينُ منك وتكونُ معصيةً)).
          ويجوز أن يكون قوله: (وَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا) أي جائزًا في السُّنَّة، أو تحرم معه الرَّجعة، وفي روايةٍ لقاسم بن أصبغ: ((فإذا طهرَتْ مسَّها في الطُّهر _أي الأوَّل_ حتَّى إذا طهرَت مرَّةً أخرى إن شاء طلَّق وإن شاء أمسك))، وفيها مُعلَّى بن عبد الرَّحْمن الواسطيُّ، وهو ضعيفٌ كما قاله أبو حاتمٍ، وجاء: ((أرأيتَ إِنْ عجزَ واستحمق؟)) يعني: أسقطَ عنه الطَّلاقَ عَجْزُه أو حُمقُه أو ابْتنَاؤُه، إذ لا إشكال فيه.
          إذا علمت ذلك فقام الإجماعُ على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها، فإن أوقعه أثِمَ ووقع، وأُمِرَ بالرَّجعة، وشذَّ بعضُ أهل الظَّاهر حيث قال بعدم الوقوع، ولا عبرةَ به، وانفرد مالكٌ بوجوب الرَّجعة، ورُوِيَ عن أحمد أيضًا، وخالفَه الثَّلاثة والأوزاعيُّ وفقهاءُ المحدِّثين وسائرُ أهل الكوفة، وقام الإجماع على أنَّ الطَّلاق للسُّنَّة في المدخول بها هو الَّذِي يطلِّق امرأته في طهرٍ لم يمسَّها فيه واحدةً، فإن طلَّقَها في طهرٍ مسَّها فيه أو في الحيض فليس لسُنَّةٍ، زاد مالكٌ: وألَّا يتبعها في العدَّة طلاقًا آخر، وقال أبو حَنيفةَ: إذا طلَّقها في كلِّ / طهرٍ طلقةً كان سُنِّيًّا، والأحسنُ عندَه أن يطلِّقها في طهرٍ لم يجامعها فيه، فكلاهما عنده طلاق سُنَّةٍ، وهو قولُ ابن مَسْعودٍ، واختلف في منع الطَّلاق في الحيض هل هو تعبُّدٌ أو لتطويل العدَّة، لا أنَّه لا تعتدُّ به، وتستأنف ثلاث حِيَضٍ غيره، وقيل: لأنَّها لا تدري: هل تعتدُّ بالحمل أو بالحيض؛ لأنَّ الحامل تحيض؛ فإن قلت: ما السِّرُّ في أمره بالمراجعة، ثُمَّ بتأخُّر الطَّلاق إلى طهرٍ بعد الطُّهر الَّذِي يلي هذا الحيض؟ قلت: فائدة التَّأخير مِنْ أوجهٍ:
          أحدُها: وهو جواب أصحابنا، لئلَّا تصير الرَّجعة لغرض الطَّلاق فأمسكها زمنًا يحلُّ له فيه الطَّلاق وتظهر فائدة الرَّجعة، ثانيها: عقوبةً له وتوبةً مِنْ معصيته باستدراك جنايته، ثالثها: لأنَّ الطُّهر الأوَّل مع الحيض الَّذِي يليه كالقُرءِ الواحد، فلو طلَّقها في أوَّل طهرٍ كان كمن طلَّقها في الحيض، وكان كمن طلَّق في طهرٍ مرَّتين، رابعها: أنَّه نهى عن طلاقِها في الطُّهر ليطولَ مقامُه معها، فلعلَّه يجامعها فيذهب ما في نفسه مِنْ سبب طلاقها فيمسكها.
          تنبيهاتٌ:
          أحدُها: تغيَّظَ ◙ لإيقاع الطَّلاق حالةَ الحيض، وهو ظاهرٌ في الزَّجر عنه.
          ثانيها: فَرَّع مالكٌ على الأمر بالمراجعة أنَّه إن أبى أجبره الحاكم بالأدب، فإن أبى ارتجع الحاكم عليه وله وطؤُها بذلك على الأصحِّ، قالوا: كما يتوارثان بعد مدَّة العدَّة، ولو راجعها في الحيض، ثُمَّ طلق في الطُّهر الَّذِي يليه، فقال ابن القاسم: لا يجبر على الرَّجعة، والمشهور عندهم أنَّه لا يؤمر بها مَنْ طلَّق في طهرٍ مسَّ فيه، وقال القاضي في «معونته»: يؤمر به ولا يجبر عليه.
          ثالثها: يراجعها ما بقي مِنَ العدَّة شيءٌ، قال أشهب: ما لم تطهر مِنَ الثَّانية، وادَّعى ابن وضاحٍ أنَّ قوله: ((ثُمَّ يُمْسِكْهَا...)) إلى آخره مِنْ قول الرَّاوي، ونازعَه غيره فيه.
          فرعٌ: القول قولها: أنا حائضٌ، ولا تكشف وفاقًا لسُحْنون، لأنَّها مؤتمنةٌ عليه بخلاف البيع، وخالف ابنُ القاسم لأنَّه مدَّعي السُّنَّة.
          فائدةٌ: قوله: (فَتِلْكَ العِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ) حجَّةٌ على أبي حَنيفةَ في أنَّها إذا طُلِّقت حالَ الطُّهر تعتدُّ به خلافًا له، وذلك إشارةٌ إلى الحال الَّتي أمر فيها بالطَّلاق، وهي حالة الطُّهر، لا يُقَالُ: إنَّ تلك للحيض لأنَّها حالٌ عند معتدٍّ بها.
          فائدةٌ: اسمُ زوجة ابن عمر ♥ آمنةُ بنتُ غِفَار، نبَّه عليه ابنُ باطيشَ.