التوضيح لشرح الجامع البخاري

سورة الرعد

          ░░░13▒▒▒ (وَمِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ).
          هي مدنيَّةٌ غير آية {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا} [الرعد:31]، وقيل: مكِّيَّةٌ، وقال مقاتلٌ: مكِّيَّةٌ ومدنيَّةٌ خلطٌ، ونقل القُرْطُبيُّ عنه أنَّها مدنيَّةٌ، وقال السَّخاويُّ: نزلت بالمدينة فيما قاله عَطاءٌ، بعد سورة مُحمَّدٍ وقبل سورة الرَّحْمن، وقد اختُلف في خمس آياتٍ منها.
          فائدةٌ: وللتِّرمِذيِّ _وقال: غريبٌ_ مِنْ حديث ابن عبَّاسٍ ☻: أنَّ اليهود سألوا رَسُولَ الله صلعم عن الرَّعد، ما هو؟ قال: ((مَلَكٌ مِنَ الملائكة موكلٌ بالسَّحاب معه مَخاريق مِنَ نارٍ يسوقُه حيث شاء اللهُ))، قالوا: ما هذا الصَّوت؟ قال: ((زَجْرُه السَّحاب إذا زَجَره)) قالوا: صدقت.
          أخرى: للحاكم _وقال: صحيح الإسناد_ مِنْ حديث أبي هريرة ☺ مرفوعًا: ((لَو أنَّ عِبادي أطاعوني لأسقيتُهم المطرَ باللَّيلِ، وأطلعتُ عليهم الشَّمسَ بالنَّهار ولم أُسمِعهم صوتَ الرَّعد)).
          (ص) (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ} مَثَلُ المُشْرِكِ الَّذِي عَبَدَ مَعَ اللهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، كَمَثَلِ العَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى خَيَالِهِ فِي المَاءِ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ وَلا يَقْدِرُ) هذا رواه أبو مُحمَّد بن أبي حاتمٍ عن أبيه عن أبي صالحٍ عن معاوية عن عليٍّ عنه.
          ثُمَّ قال أعني البُخاريَّ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {سَخَّرَ} ذَلَّلَ) قال ابنُ التِّيْنِ: عند الشَّيخ أبي الحسن: <وَلَا يَقْدِرُه>، وعند غيره: <وَلَا يَقْدِرُ>، وهما صحيحان، يقال: قدرت الشَّيء أقدر وأقدره.
          وقوله بعد ذلك: ({كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} يَدْعُو الْمَاءَ بِلِسَانِهِ وَيشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ وَلَا يَأْتِيْهِ أَبَدًا) هو قول مجاهدٍ، وقيل: إن الَّذي يدعو إلى الأصنام بمنزلة القابض على الماء لا يحصل له شيءٌ.
          (ص) (‍{مُتَجَاوِرَاتٌ} مُتَدَانِيَاتٌ) وذكر بعدُ عن مجاهدٍ: (طَيِّبُهَا وَخَبِيثُهَا السِّبَاخُ) وهذا رواه ابن المُنْذر مِنْ حديث ابن أبي نَجيحٍ عنه، وقيل: في الكلام حذفٌ، والمعنى: الأرضُ قطعٌ متجاوراتٌ وغيرُ متجاوراتٍ، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي والبرد، حُذف للعلم به، والمتجاوراتُ المُدنُ وما كان عامرًا، أو غيرها الصَّحاري وما كان غير عامرٍ.
          (ص) (الأَغْلَالُ وَاحِدُهَا غِلٌّ، وَلَا تَكُونُ الأَغْلاَلُ إِلَّا فِي الأَعْنَاقِ) قلتُ: يُقال منه: غُلَّ الرَّجلُ فهو مَغلولٌ.
          (ص) ({الْمَثُلَاتُ} وَاحِدُهَا مَثُلَةٌ وَهِيَ الأَشْبَاهُ وَالأَمْثَالُ، وَقَالَ: {إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ}) قلتُ: يُقال للعقوبة: مُثلَة ومِثلَة، قال ابنُ الأنباريِّ: وهي العقوبة الَّتي تُبقي في المُعاقَب شيئًا بتغيير بعض خلقه.
          (ص) ({بِمِقْدَارٍ} بِقَدَرٍ) قلتُ: قال ابنُ عبَّاسٍ: عَلِم كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا، ما يكونُ قبلَ أن يكون، وكلُّ ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامة.
          (ص) ({مُعَقِّبَاتٌ} حَفَظَةٌ مَلاَئِكَةٌ يُعَقِّبُ الأوَّلُ مِنْهَا الآخِرَ، وَمِنْهُ العَقِيبُ، ويُقَالُ: عَقَّبْتُ فِي أَثَرِهِ) قلتُ: ومعنى (حَفَظَةٌ) يحفظون عليه كلامَه وفعلَه، و{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} أي بإذن الله، والأحسنُ كما قال ابن التِّيْنِ: أنَّه أرادَ ملائكةَ اللَّيل والنَّهار، كأنَّهم يتعاقبون فيها، كما بيَّنه في الحديث السَّالف: ((يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ)).
          وقوله: (وَيُقَالُ: عَقبْتُ فِي إِثْرِهِ) وجدتُه بخطِّ الدِّمْياطيِّ بتشديد القاف، وقال ابن التِّيْنِ: هو بفتح القاف وتخفيفها، قال: وضبطَه بعضُهم بتشديدها، وفي بعض النُّسخ بكسرها ولا وجه له، إلَّا أن يكون لغةً.
          (ص) (الْمِحَالُ الْعُقُوبَةُ) قلتُ: وقيل: قويُّ الكيد، وفيه أقوالٌ أُخر: الحول الحيلة المكر الجدال، وميمه أصليَّةٌ أو زائدةٌ قولان، وقرأ الأعرج والضَّحَّاك بضمِّ الميم مِنَ المحالة الحيلة، قال أبو العبَّاس: وأصلُه مِنْ قولهم: محل بفلانٍ: سَعى به إلى السُّلطان وعرَّضَه للهلاك، ومَنْ جعلها زائدةً قال: أصله مِنَ الحول، وقيل: بالفتح زائدٌة، وبالكسر أصليَّةٌ. /
          (ص) ({كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ) أي كمَادٍّ.
          (ص) ({رَابِيًا} مِنْ رَبَا يَرْبُو) أي عاليًا.
          (ص) ({أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ} المَتَاعُ مَا تَمَتَّعْتَ بِهِ) قلتُ: وقال مجاهدٌ: المتاعُ الحديدُ والنُّحاس والرَّصاص، وقال غيرُه: الَّذي يوقد عليه.
          (ص) ({فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ}) الذَّهب والفضَّة.
          (ص) ({جُفَاءً} أَجْفَأَتِ القِدْرُ: إِذَا غَلَتْ فَعَلَاهَا الزَّبَدُ، ثُمَّ تَسْكُنُ ويَذْهَبُ الزَّبَدُ بِلا مَنْفَعَةٍ، فَكَذَلِكَ يُمَيِّزُ الحَقَّ مِنَ البَاطِلِ) قلتُ: الجفا ما نفاه السَّيل، جفا الوادي جفاءً إذا رمى، وأجفأَ لغةٌ قليلةٌ، وكذا أجفأت القِدرَ إذا كفأتَها وأملتَها فصببتَ ما فيها، ولا تقلْ: أجفأتها، والمعنى: أنَّ الباطل وإن علا في وقتٍ فمآلُه إلى اضمِحلالٍ.
          (ص) ({الْمِهَادُ} الفِرَاشُ) كما قال.
          (ص) (يَدْرَؤُونَ يَدْفَعُونَ، دَرَأْتُهُ دَفَعْتُهُ) قلتُ: قال ابنُ عبَّاسٍ: يدفعون بالعمل الصَّالح الشَّرَّ مِنَ العمل، كما رُوي أنَّه ◙ قال لمعاذ بن جبلٍ: ((إذا عملتَ سيَّئةً فاعمَلْ حسنةً بجنبِها تمحُها)) قال ابن كَيسان: هو أنَّهم كلَّما أذنبوا تابوا ليدفعوا بالتَّوبة معرَّة الذَّنب.
          (ص) ({سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي: يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي سلَّمكم الله مِنْ أهوال يوم القيامة وشرِّها، بصبركم في الدُّنيا على طاعته.
          (ص) ({وَإِلَيْهِ مَتَابِ} إليه تَوْبَتِي) أي رجوعي.
          (ص) ({أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أَلَمْ يَتَبَيَّنْ) قلتُ: وقال ابن عبَّاسٍ: أفلم يعلم.
          قال الكلبيُّ: ييئَس: يعلم في لغة الحجاز والنَّخع، وهو قول مجاهدٍ والحسن وقَتَادة.
          (ص) ({قَارِعَةٌ} دَاهِيَةٌ) أي تقرعهم مصيبةٌ شديدةٌ بما صنعوا مِنْ كفرهم وأعمالهم الخبيثة، وقال أبو سعيدٍ الخُدْريُّ ومجاهدٌ: هي السَّرايا الَّتي كان ◙ يبعثها إليهم.
          (ص) ({فَأَمْلَيْتُ} أَطَلتُ لهم مِنَ المَلِيِّ وَالْمُلاَوَةُ وَمِنْهُ مَلِيًّا، وَيُقَالُ لِلوَاسِعِ الطَّوِيلِ مِنَ الأَرْضِ: مَلًى) قلتُ: المَلا مقصورٌ غير مهموزٍ _بفتح الميم_ يُكتب بالألف: الصَّحراء الواسعة لا نبت فيها ولا جبل، و(الْمُلَاوَةُ) بضمِّ الميم وفتحها، أي قد أُطيل في عمره.
          (ص) ({أَشَقُّ} أَشَدُّ، مِنَ المَشَقَّةِ) أي وأغلظ.
          (ص) ({مُعَقِّبَ} مُغَيِّرٌ) قلتُ: قال ابن عبَّاسٍ: لا ناقضَ لحكمه، وقال الفرَّاء: لا رادَّ له، وهما بمعناه، والمُعَقِّبُ: الَّذي يتَّبع الشَّيءَ فيستدركه، ولا يستدرك أحدٌ على حكمِ الله.
          (ص) ({صِنْوَانٍ} النَّخْلَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} منفردةٌ وَحْدَهَا) قلت: هو جمع صنوٍ، وقُرئ بضمِّ الصَّاد.
          (ص) ({يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} كَصَالِحِ بَنِي آدَمَ وَخَبيثِهِمْ وَأَبُوهُمْ وَاحِدٌ) قلتُ: فالطَّبع لا أثرَ له والمُؤثِّر الخالقُ.
          (ص) ({السَّحَابُ الثِّقَالُ} الَّذِي فِيهِ المَاءُ) هو كما قال.
          (ص) ({فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} تَمْلأُ كلَّ وَاحِدٍ) مِنْ أوديةٍ جمع وادٍ، وهو كلُّ مُنفرجٍ بين جبلين يجتمع إليه ماء المطر فيسيل، والقَدَرُ مبلغُ الشَّيء، والمعنى: بقدرها مِنَ الماء، فإن صغُر قلَّ الماء، وإن اتَّسع كثُر، قال ابن الأنباريِّ: شبَّه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر، إذ نفعُ نزول القرآن يعمُّ كعموم نفع نزول المطر، وشبَّه الأودية بالقلوب.
          (ص) ({زَبَدًا رَابِيًا} الزَّبَدُ زَبَدُ السَّيْلِ وخَبَثُ الحَدِيدِ والحِلْيَةِ) سلف أيضًا، أي عاليًا فوق الماء، قال ابنُ عبَّاسٍ: وهو الشَّكُّ والكفر.