التوضيح لشرح الجامع البخاري

سورة الأعراف

          ░░░7▒▒▒ (سُورَةُ الأَعْرَافِ).
          هي مكِّيَّةٌ، واستثنى بعضُهم منها: {وَاسْأَلهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} [الأعراف:163] أي سَلْ اليهود، وأكثر ما جرى ذكرُ اليهود بالمدينة، وقيل: إلَّا ثماني آياتٍ، وقيل: خمسٌ، وقال الكلبيُّ: خمسَ عشرةَ، وقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} ذكر جماعةٌ أنَّها نزلت في الخطبة يوم الجمعة فتكون مدنيَّةً.
          (ص) (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَرِيشًا} المَالُ) وفي نسخة: <وَرِيَاشًا> وهما قراءتان، وهذا التَّعليق أسنده ابنُ أبي حاتمٍ مِنْ حديث عليِّ بن أبي طلحة عنه، وقراءته: {وَرِيَاشًا} وهي قراءة عاصمٍ وسيِّدِنا رَسُول الله صلعم، قال أبو حاتمٍ: رواها عنه عثمانُ بن عفَّانَ، وهي عبارةٌ عن سعة الرِّزق ورفاهية العيش وجُودِ اللُّبس، وقال ابنُ الأعرابي: الرِّيش الأكل والشُّرب، والرِّيَاشُ المال المستفاد. وقال ابن عبَّاس: الرِّيش المال، كما ذكره البُخاريُّ، وعنه: اللِّباس والعيش والنَّعيم، يُقال: تريَّش الرَّجل إذا تموَّل، وقال ابن زيدٍ: هو الجمال، وقال قُطْربٌ: الرِّيش والرِّياش واحدٌ، وقد ذكره كذلك بعدُ، مثل حِلٍّ وحِلالٍ، ويجوز أن يكون مصدرًا مِنْ قول القائل: راشَه الله يَريشُه رِياشًا، وقال الأخفش: هو الخِصب والمعاش، وقال القُتَبيُّ: الرِّيش والرِّياش ما ظهر مِنَ اللِّباس.
          قال مقاتلٌ: نزلت في ثَقيفٍ وبني عامر بن صَعْصَعة وخزاعةَ وبني مُدْلِجٍ وعامرٍ والحارث بن عبد مَناة، قالوا: لا نطوف بالبيت الحرام في الثِّياب الَّتي نقارف فيها الذُّنوب ولا نضرب على أنفسنا خِباءً من وبرٍ ولا صوفٍ ولا شَعرٍ ولا أَدمٍ، وكانوا يطوفون بالبيت عراةً ونساؤهم يطفْنَ باللَّيل.
          (ص) ({الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاءِ وَفِي غَيْرِهِ) هو معطوفٌ على قوله: (وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) كذا أخرجه الطَّبَريُّ مِنْ حديث عَطاءٍ الخُراسانيِّ عنه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] في الدُّعاء ولا في غيره.
          (ص) ({عَفَوْا} كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ) أخرجه أيضًا مِنْ حديث عليٍّ عنه، وقال مقاتلٌ: أَشِرُوا وبَطِرُوا ولم يَشْكُروا، وأصله مِنَ الكثرة، قال ◙: ((أَعفُوا اللِّحَى))، وقال قَتَادة: {عَفَوْا} سرُّوا بذلك.
          (ص) (وَ{الْفَتَّاحُ} القَاضِي، {افْتَحْ بَيْنَنَا} اقْضِ بَيْنَنَا) أسندَه أيضًا كما سلف، وعنه: ما كنت أدري قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ} حتَّى سمعتُ ابنةَ ذي يزن تقول لزوجِها: تعال أفاتحك، أي أقاضيك، وقال المُؤَرِّجُ: {افْتَحْ} افصل، قال الفرَّاء: وأهلُ عُمان يسمُّون القاضيَ الفاتحَ والفتَّاح، وذكر غيره أنَّها لغة مُرادٍ.
          (ص) ({نَتَقْنَا} رَفَعْنَا، {مُتَبَّرٌ} خُسْرَانٌ، {آسَى} أَحْزَنُ، {تَأْسَ} تَحْزَنْ) أسنده أيضًا، ثُمَّ قال: (وَقَالَ غَيْرُه) وهو دالٌّ أنَّ ذلك كلَّه مِنْ كلام ابن عبَّاسٍ.
          ({أَنْ لَا تَسْجُدَ} أَنْ تَسْجُدَ {يَخْصِفَانِ} أَخَذَا الخِصَافَ مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ، يُؤَلِّفَانِ الوَرَقَ يَخْصِفَانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ) أي فالخصفُ الخَرْزُ، وهو أن يوضَعَ جلدٌ على جلدٍ ويجمع بينهما بسيرٍ، وقال الهَرَويُّ: أن يطبقا على أيديهما ورقةً ورقةً.
          (ص) ({سَوْآتُهُمَا} كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجَيْهِمَا) قال المفسِّرون: لمَّا بدتْ سوآتُهما طفقا إلى أوراق الجنَّة فتعالت عنهما ولم يقدروا على الوصول إلى شيءٍ منها، فرقَّت شجرة التِّين لهما وتَطاطأَتْ حتَّى نالا مِنْ ورقها ما أرادا، فلذلك جعلها الله تؤتي ثمرَها في العام مرَّتين، وجعل ثمرَها ظاهرها وباطنها في الحلاوة سواءً، ونزَّهها عن القشر والنَّوى وأنبتها في الدُّنيا كنبتها في الجنَّة، وقيل: شجرة الموز، فلذلك قوَّى الله خضرتها في اللَّون والنُّعومة، وجعل ثمرَها ليس فيه نوًى، وهو مِنْ أطيب الأغذية ولا يحدث عنه ثفلٌ، وجعل شجرها لا ينقطع كلَّما قُطعت واحدةٌ نشأت عنها أخرى، وقيل: كانت شجرةً غير معلومةٍ.
          (ص) ({وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} هُوَ هَاهُنَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالحِينُ عِنْدَ العَرَبِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى مَا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ) هو كما قال، ثُمَّ قال: (الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ) وقد سلف، قال: (وَهْوَ مَا ظَهَرَ مِنَ اللِّبَاسِ).
          (ص) ({قَبِيلُهُ} جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ) قلت: قال غيره: جنودُه، قال تعالى: {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:95] وقيل: خيلُه ورَجِلُه، قال تعالى: {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64] وقيل: ذرِّيَّته، قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف:50] وقيل: أصحابه، وقيل: ولدُه ونسله، وقال الأَزْهَريُّ: القَبيلُ جماعةٌ ليسوا مِنْ أبٍ واحدٍ، وجمعُه قُبُلٌ، فإذا كانوا مِنْ أبٍ واحدٍ فهم قبيلةٌ.
          (ص) ({ادَّارَكُوا} اجْتَمَعُوا) وعبارة غيره: تلاحقوا، وهو قريبٌ منه.
          (ص) (وَمَشَاقُّ الإِنْسَانِ وَالدَّابَّةِ كُلُّهَا يُسَمَّى سُمُومًا، وَاحِدُهَا سَمٌّ، وَهِيَ: عَيْنَاهُ وَمَنْخِرَاهُ وَفَمُهُ وَأُذُنَاهُ وَدُبُرُهُ وَإِحْلِيلُهُ) قلتُ: والمراد بــ{حتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] يدخل البعير في خرم الإبرة.
          (ص) ({غَوَاشٍ} مَا غُشُّوا بِهِ)، قلتُ: هو جمع غاشيةٍ وهي التَّغطية.
          (ص) ({نُشُرًا} مُتَفَرِّقةً، {نَكِدًا} قَلِيلًا) قلتُ: أكثرهم عَسِرًا، ({يَغْنَوا} يَعِيشُوا) أخرجه عبدٌ عن قَتَادة، وعنه: كأن لم ينعم، رواه عبد الرَّزَّاق عن مَعمرٍ عنه، ورواه الطَّبَريُّ عن ابن عبَّاسٍ.
          (ص) ({حَقِيقٌ} حَقٌّ) أي جديرٌ ({وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} مِنَ الرَّهْبِ) أي الخوف، ({تَلْقَفُ} تَلْقَمُ، {طَائِرُهُمْ} حَظُّهُمْ، طُوفَانٌ مِنَ السَّيْلِ، وَيُقَالُ لِلْمَوْتِ الكَثِيرِ: طُوفَانٌ، {الْقُمَّلَ} الحَمْنَانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الحَلَمِ) قلت: قد سلف كذلك في مناقب موسى ◙، والحَمْنان: قُرَّادٌ، قال الأصمعيُّ: أوَّله قَمْقامةٌ صغيرٌ جدًا، ثُمَّ حَمْنانةٌ ثُمَّ حَلَمَةٌ ثُمَّ عَلٌّ ثُمَّ طِلْحٌ، وذكر ابن عبَّاسٍ أنَّه السُّوس الَّذِي يخرج مِنَ الحِنطة، ذكره ابن جَريرٍ، وفي رواية أنَّه الدَّبَى، وعن ابن زيدٍ: البراغيث. وقال ابن جُبَيْرٍ: هي دوابُّ صغارٌ سودٌ، وقال ابنُ جريرٍ: وهي عند العرب صغار القِرْدان، وعند الهَرَويِّ كبارُها، وقيل: دوابُّ أصغرُ مِنَ القَمْل. وقال مجاهدٌ والسُّدِّيُّ وغيرُهما فيما حكاه / الثَّعلبي: هي الجرادُ الطَّيَّارة الَّتي لها أجنحةٌ، وقال عكرمة: هي بنات الجَراد، وقال عَطاءٌ الخُراسانيُّ: هي القَمْل، وبه قرأ الحسن بفتح القاف وسكون الميم، وقال الفرَّاء: لم يُسمع للقمل واحدةٌ، وقال الأخفش: واحده قملةٌ، وحكى ابن جريرٍ أنَّ القُمَّل دابَّةٌ تشبه القَمْل تأكلها الإبل.
          وتفسير البُخاريِّ السَّالف هو قول أبي عُبيدٍ، ومعناه أنَّه ضربٌ مِنَ القُرَاد يُشبه الحَلَم يُقال: إنَّ الحَلَمة تتقفَّى مِنْ ظهرها فتخرج منها القَمْقام وهو أصغر فيما رأيته ممَّا يمشي ويتعلَّق بالإبل، فإذا امتلأ سقط بالأرض وقد عظم، ثُمَّ يضمُر حتَّى يذهب دمُه فيكون قُرَادًا فيتعلَّق بالإبل ثانيةً فيكون حَمْنَةً.
          قال أبو العالية: أرسل الله الحَمْنَانُ على دوابِّهم فأكلَتْها حتَّى لم يقدروا على الميرة، وقال ابن سِيْدَه: القُمَّل صغارُ الذَّرِّ والذِّبَّان، قيل: هو شيءٌ صغيرٌ له جناحٌ أحمرُ، وقال أبو حَنيفةَ: هو شيءٌ يشبه الحَلَم، وهو لا يأكل أكلَ الجراد ولكن يمتصُّ الحبَّ إذا وقع فيه الدَّقيق وهو رطبٌ، وتذهب قوَّته وخيره وهو خبيث الرَّائحة، وفيه مشابهةٌ مِنَ الحَلَم، قال في «الجامع»: هو شيءٌ أصغر مِنَ الظُّفر له جناحٌ أحمرُ وأكدرُ، وقال أبو يوسف: هو شيءٌ يقع في الزَّرع ليس بجرادٍ، فيأكل السُّنبلة وهي غضَّةٌ قبل أن تخرج، فيطول الزَّرع ولا سنبلة فيه، وقال أبو عمرٍو: هي بلغة أهل اليمن البُرْغوث أو دابَّةٌ تشبهه.
          وقد بسطنا الخلاف هناك وأعدناه هنا لطوله، وهذِه إحدى الآيات التِّسع يجمعها:
عَصًا وَيَدٌ جَرَادٌ قُمَّلٌ وَدَمُ                     ضَفَادِع حَجرٌ والبَحْرُ والطُّوْرُ
          وقيل بدل الثَّلاثة الأخيرة: الطُّوفان والأخذ بالسِّنين والنَّقص، فيُزاد بعد الأوَّل: طوفانٌ جدبٌ نقصٌ تَثْمِيرِ.
          قال البُخاريُّ ☼: (عُرُوْشٌ: بِنَاءٌ) أسنده الطَّبَريُّ عن عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاسٍ: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]، وقال مجاهدٌ: يبنون البيوت والمساكن، وقيل: يعرشون الكرومَ، أي يرفعون عرائشَها.
          (ص) ({سُقِطَ} كُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ) هو كما قال، وقد سلف في مناقب موسى.
          (ص) ({الْأَسْبَاطُ} قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قلت: وهو في الأصل شجرةٌ لها أغصانٌ.
          (ص) ({يَعْدُونَ} يَتَعَدَّوْنَ يُجَاوِزُونَ تَعْدُ تُجَاوِزُ) هو كما قال ({شُرَّعًا} شَوَارِعَ) أي ظاهرة على وجه الماء.
          (ص) ({بَئِيسٍ} شَدِيدٍ) هو كما قال، ({أَخْلَدَ} قَعَدَ وَتَقَاعَسَ) أي اطمأنَّ ({سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} نَأْتِيهِمْ مِنْ مَأْمَنِهِمْ) أي فيهلكوا (كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2]، {مِنْ جِنَّةٍ} مِنْ جنونٍ. {فَمَرَّتْ بِهِ} اسْتَمَرَّ بِهَا الحَمْلُ، {يَنْزَغَنَّكَ} يَسْتَخِفَّنَّكَ، {طَيْفٌ} مُلِمٌّ بِهِ لَمَمٌ، وَيُقَالُ: {طَائِفٌ} وهو واحدٌ، {يَمُدُّونَهُمْ} يُزَيِّنُونَ لَهُمْ، {وَخِيفَةً} خَوْفًا، وَخُفْيَةً مِنَ الإِخْفَاءِ) هو كما قال.
          ({وَالْآصَالُ} واحدُها أُصُلٌ وأَصِيلٌ: مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، كَقَوْلِهِ: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]) قال ابنُ التِّيْنِ: و(أُصُلٌ) بضمِّ الهمزة والصَّاد، كذا ضبطه في بعض الرِّوايات، وفي بعضها: <أَصِيلٌ>، وليس ببيِّنٍ إلَّا أن يريد: أُصُلًا جمع أَصيلٍ، فيصحُّ ذلك، وما فسَّره به ذكره جماعةٌ، وقال ابن فارسٍ: الأَصيل بعد العشاء، وجمعُه أُصُلٌ وجمع أُصُلٌ آصالٌ ثُمَّ أَصَائل، وقيل: أَصِيلٌ جمع أَصْلٍ كعَبدٍ وعَبيدٍ، وأَصَائِلُ على هذا جمعُ جمعِ الجميع، وقال ابنُ فارسٍ: الأصائل لعلَّه أن يكون جمع أَصيلةٍ.