التوضيح لشرح الجامع البخاري

سورة {ويل للمطففين}

          ░░░83▒▒▒ (سُورَةُ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)
          هي مدنيَّةٌ كما جزم به الثَّعلبيُّ، / قال مقاتلٌ: إلَّا {قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين:13] وعن قَتَادة أنَّها مكِّيَّةٌ، وعن الكَلبيِّ أنَّها نزلت في طريق المدينة، وقال السُّدِّيُّ: وهو داخلُها، وكانوا أهل تطفيفٍ في الكيل والميزان فلمَّا نزلت خرج ◙ إلى السُّوق بالمدينة وكان أهلُ السُّوق يومئذٍ السَّماسرة، فتلاها عليهم وسمَّاهم التُّجَّار، وقيل: نزلت في أبي جُهَينة، وقال أبو العبَّاس في «مقاماته»: أوَّلها مدنيٌّ وآخرها مكِّيٌّ، والاستهزاء يعني: إنَّما كان بمكَّة، ونزلت بعد العنكبوت كما قال السَّخَاويُّ، قال مقاتلٌ فيما حكاه ابن النَّقيب: وهي أوَّل سورةٍ نزلت بالمدينة، و{وَيْلٌ} [المطففين:1] وادٍ في جهنَّم عظيمٌ، يؤيِّده حديثُ أبي هريرة في «صحيح ابن حِبَّان»: ((يُسلَّط على الكافرُ تسعةٌ وتسعون تنِّينًا، أتدرون ما التِّنِّين؟ سبعون حيَّةً، لكلِّ حيَّةٍ سبع رؤوسٍ، يلسعونَه ويخدشونَه إلى يوم القيامة)).
          (ص) (قَالَ مُجَاهِدٌ: {رَانَ} [المطففين:14] ثَبْتُ) أي (الخَطَايَا، {ثُوِّبَ} [المطففين:36] جُوزِيَ) أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ عن حجَّاجٍ حدَّثَنا شَبَابة حدَّثَنا وَرقاءَ عن ابن أبي نَجِيحٍ عنه، قال المفسِّرون: الرَّان والرَّين أيضًا، يُقَالُ: رين وران الذَّنبُ على الذَّنب حتَّى يسودَّ القلب، و{ثُوِّبَ} وأثابه بمعنًى.
          ثُمَّ قال: (ص) (وَقَالَ غَيْرُهُ: المُطَفِّفُ: الَّذِي لَا يُوَفِّي غَيْرَهُ) قلتُ: وأصلُه مِنَ التَّطفيف وهو النَّزر القليل.
          4938- ثُمَّ ساق حديثَ مَالِكٍ: (عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، حتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إلى أَنْصَافِ أُذُنَيهِ).
          وأخرجه مسلمٌ أيضًا، قال التِّرْمِذيُّ عَقِب إخراجه: حديثٌ صحيحٌ مرفوعٌ وموقوفٌ.
          والرَّشْحُ العَرَقُ كما أخرجه عبدُ بن حُميدٍ بزيادة: مِنْ هولِ يوم القيامة وعِظَمِه، وقد ساق البخاريُّ أيضًا [خ¦6532] حديثَ أبي هريرة ☺ مرفوعًا: ((إنَّ العَرَقَ يومَ القيامة ليذهبُ في الأرضِ سبعينَ باعًا، وإنَّه ليبلغُ إلى أفواهِ النَّاسِ أو إلى آذانِهم))، وروى الوايليُّ مِنْ حديث عبد اللَّه بن عمرَ: وتلا ◙ هذه الآية وقال: ((كيفَ بِكُمْ إذا جمعَكم اللَّهُ كما يجمعُ النَّبل في الكنانة خمسينَ ألفَ سنةٍ لا ينظرُ إليكم...)) الحديث، ثُمَّ قال: غريبٌ جيِّد الإسناد، قال البَيْهَقيُّ: وهذا في الكفَّار، وأمَّا المؤمن فيخفَّف عنه ذلك اليوم حتَّى يكون أهون عليه مِنَ الصَّلاة المكتوبة، رواه أبو سعيدٍ وأبو هريرة مرفوعًا.
          وفي مسلمٍ مِنْ حديث سُليم بن عامرٍ عن المقدادِ مرفوعًا: ((تُدْنَى الشَّمسُ يومَ القيامة مِنَ الخلقِ حتَّى تكونَ منهم كمِقدارِ مِيلٍ)) قال سُليمٌ: فواللَّه ما أدري ما يعني بالميل، أَمَسافَةَ الأرض أو الميل الَّذِي تُكحَّلُ به العينُ، ((فيكونُ النَّاسُ على قدرِ أعمالِهم في العَرَقِ فمنهم مَنْ يكون إلى كَعبيه، ومنهم مَنْ يكون إلى حَقْوَيهِ، ومنهم مَنْ يلجمُه العرقُ إلجامًا))، وأشار رسول اللَّه صلعم بيده إلى فيه، زاد التِّرْمِذيُّ بعد ذكر الميل: ((فتَصْهَرُهُم الشَّمسُ))، وعند ابن أبي شَيبة عن سلمان قال: تُعطى الشَّمسُ يومَ القيامة حرَّ عشرِ سنين، ثُمَّ تُدنَى مِنْ جماجم النَّاس حتَّى تكون قابَ قوسين، قال: فيعرقون حتَّى يسيحَ العرقُ، فإنَّه لم يرتفع حتَّى يغرغر الرَّجُل، قال سلمان: حتَّى يقول الرَّجُل: غَرْ غَرْ. زاد ابنُ المبارك في «زهده»: وليس على أحدٍ يومئذٍ طحْربَةٌ _يعني خرقةً_ ولا ترى فيه عورة مؤمنٍ ولا مؤمنةٍ، ولا يضرُّ حرُّها يومئذٍ مؤمنًا ولا مؤمنةً، وأمَّا الآخرون _أو قال: الكفَّار_ فتطبخهم، فإنَّما تقول أجوافهم: غِق غِق. وللبَيْهَقيِّ في «بعثه» مِنْ حديث أبي الأحوص عن عبد اللَّه مرفوعًا: ((إنَّ الكافرَ ليُلجَم بعرقِه يومَ القيامة مِنْ طول ذلك اليوم حتَّى يقول: يا ربِّ أرحني ولو إلى النَّار))، وقال كعبٌ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] مقدار ثلاث مئة عامٍ، وللحاكم بإسنادٍ جيِّدٍ عن عقبة مرفوعًا: ((تدنو الشَّمسُ مِنَ الأرض، فيعرقُ النَّاسُ فمِنَ النَّاسِ مَنْ يبلغ عرقُه كعبيه، ومنهم مَنْ يبلغ إلى نصف السَّاق، ومنهم مَنْ يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم مَنْ يبلغ العَجُزَ، ومنهم مَنْ يبلغ الخاصرةِ، ومنهم مَنْ يبلغ منكبيه، ومنهم مَنْ يبلغ عنقَه، ومنهم مَنْ يبلغ وسطَ فِيْهِ _وأشار بيده فألجمها فاه_ ومنهم مَنْ يغطِّيه عرقُه)) وضرب بيده إشارةً، فَأَمَرَّ بيده فوق رأسه مِنْ غير أن يصيب الرَّأس دوَّر راحته يمنيا وشمالًا.
          وقال عبد اللَّه بن مَسْعودٍ: الأرضُ يومَ القيامة نارٌ تأكلُها والجنَّة مِنْ ورائها يرى مِنْ كواكبها وكواعبها فيغرق النَّاس حتَّى يرشحَ عرقُه في الأرض قدرَ قامةٍ، ثُمَّ يرتفع حتَّى يبلغ أنفُه وما مسَّه الحساب. ولمَّا سُئل عبد اللَّه بن عمرٍو حين ذكر العرق: فأين المؤمنون؟ قال: على كراسيَّ مِنْ ذهبٍ ويظلُّ عليهم الغمام. وعن أبي موسى: الشَّمسُ فوق رؤوس النَّاس يومَ القيامة وأعمالُهم تظلُّهم.
          وفي مسلمٍ مِنْ حديث جابرٍ مرفوعًا: ((نحنُ يومَ القيامة على كومٍ فوقَ النَّاس))، وفي روايةٍ: ((على تلٍّ ويكسوني ربِّي حلَّةً خضراء، ثُمَّ يُؤْذَن لي في الشَّفاعة، فذلك المقام المحمود))، قال ابنُ العربيِّ: كلُّ أحدٍ يقوم عرقُه معه، وهو خلاف المعتاد في الدُّنيا، فإنَّ الجماعة إذا وقفوا في الأرض المعتدلة أخذهم الماء أخذًا واحدًا، ولا يتناوبون، وهذا مِنَ القدرة الَّتي تخرق العادات، والإيمانُ بها مِنَ الواجبات.
          قال ابن بَرَّجَان في «إرشاده»: وليس ببعيدٍ أن يكون النَّاس كلُّهم في صعيدٍ واحدٍ وموقفٍ سواءٍ يشرب بعضهم مِنَ الحوض دون غيره، وكذا حكم النُّور، والغرق يغرق في عرقه أو يبلغ منه ما شاء اللَّه جزاءً لسعيه في الدُّنيا، والآخرُ في ظلِّ العرش، كما في الدُّنيا، يمشي المؤمن بنور إيمانه في النَّاس، بخلاف الكافر، والمؤمن في الوقاية بخلافه، والمؤمن يروى ببرد اليقين والهداية بخلاف المبتدع، وكذا الأعمى، وقال القُرْطُبيُّ: يحتمل أن يخلق اللَّه ارتفاعًا على الأرض الَّتي تحت قدم كلِّ إنسانٍ بحسب عمله فيرتفع عنها بحسب ذلك، أو يكون النَّاس يُحشرون جماعاتٍ وكلُّ واحدٍ عرقُه في جهةٍ بحسبِه، والقدرة بعدُ صالحةٌ لأن يمسك كلُّ إنسانٍ عليه بحسب عمله فلا يتَّصل بغيره وإن كان بإزائه كما أمسك جِرْيَةَ البحر لموسى حين لقاء الخضر، ولبني إسرائيل لمَّا اتَّبعَهم فرعون. وقال الغزاليُّ: كلُّ عَرقٍ لم يخرجه التَّعب في سبيل اللَّه مِنْ حجٍّ وجهادٍ وصيامٍ وقيامٍ، وتردُّدٍ في قضاء حاجة المسلم، وتحمُّل مشقَّةٍ في أمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكرٍ فيستخرجه الحياء والخوف في صعيد القيامة، ويطول فيه الكرب.
          وقال المُحاسبيُّ في «أهواله»: إذا وافى الموقفَ أهلُ السَّماوات والأرض كُسيت الشَّمسُ حرَّ سبع سنين، ثُمَّ أُدنيتْ مِنَ الخلائق قاب قوسين، ولا ظلَّ ذلك اليوم إلَّا ظلَّ عرشِ الرَّحْمن فمِنْ بين مستظلٍّ به، ومَنْ يضجُّ بحرِّها قد صهرت رأسَه واشتد فيها كربُه، وقد ازدحمت الأمم وتضايقت ودفع بعضُهم بعضًا، واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق مِنَ العطش، قد اجتمع / عليهم في مقامِهم حرُّ الشَّمس مع وهجِ أنفاِسهم وتزاحمِ أجسامِهم ففاض العرقُ منهم على وجه الأرض، ثُمَّ على أقدامهم على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربِّهم مِنَ السَّعادة والشَّقاء.