التوضيح لشرح الجامع البخاري

سورة المتحرم

          ░░░66▒▒▒ (سُورَةُ التَّحْرِيْمِ)
          هي مدنيَّةٌ، قال السَّخَاويُّ: نزلت بعد الحجرات وقبل الجمعة، قيل: نزلت في تحريم مارية، أخرجه النَّسَائيُّ، وصحَّحه الحاكمُ على شرط مسلمٍ، وقال الدَّاوُديُّ: في إسناده نظرٌ، ونقله الخطَّابيُّ عن أكثر المفسِّرين، والصَّحيحُ أنَّها في العسل كما ستعلمه، والآية لا طلاق فيها فتطلق بالتَّحريم، ويجوز أن يكون فيهما، ويؤيِّد الأوَّل قوله: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1]، وقوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ}الآية [التحريم:3]، والعسلُ لا يؤكل سرًّا بخلاف الغشيان، ولأنَّه لا مرضاة في الأوَّل بخلاف الثَّاني، قال النَّسَائيُّ: حديثُ عائشةَ في العسل جيِّدٌ غايةٌ، وحديث مارية وتحريمها لم يأتِ مِنْ طريقٍ جيِّدةٍ.
          (ص): ({يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1])
          4911- ثُمَّ ساق حديثَ مُعَاذِ بْنِ فَضَالَةَ: (حدَّثَنا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَن يَعْلى بن حَكِيمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عبَّاسٍ قَالَ فِي الحَرَامِ: يُكَفِّرُ، وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]).
          كذا ذكرَه البُخاريُّ هنا، وأخرجه مسلمٌ مِنْ حديث إسماعيل بن إبراهيم عن هشامٍ قال: كتب إليَّ يحيى بن أبي كَثيرٍ أنَّه يُحَدِّثُ عن يَعلى بن حَكيمٍ عن سعيدٍ فذكرَه، وأخرجَه ابنُ ماجَهْ مِنْ حديث وَهْب بن جريرٍ عن هشامٍ أيضًا كذلك، فلعلَّه عبَّرَ بـِعَنْ عن الكتابة المذكورة، وقد سلف الكلامُ على ذلك في تفسير سورة المنافقين، وقد أظهرها هناك وأخفاها هنا، ويجوز أن يكون لقي يحيى بعد ذلك فحدَّثه، وسيأتي في الطَّلاق [خ¦5266] مِنْ حديث معاوية بن سلامٍ عن يحيى بن أبي كَثيرٍ عن يَعْلى بن حَكيمٍ عن سعيد بن جُبَيرٍ سمعَ ابنَ عبَّاسٍ يقول: إذا حرَّم امرأتَه فليس بشيءٍ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. يحتمل قوله: فليس بشيءٍ يثبت التَّحريم، كما نبَّه عليه ابن الجَوْزيِّ، يؤيِّده رواية النَّسَائيِّ: وسئل فقال: ليست عليك بحرامٍ، أغلظ الكفَّارة عتق رقبةٍ، ووقع في نسخة أبي ذرٍّ: <عَنْ يَحيَى بْنِ حَكيمٍ عَنْ سَعِيدٍ> وهو خطأٌ، وصوابُه ما سلفَ كما نبَّه عليه الجَيَّانيُّ، وعن ابن عبَّاسٍ: يلزمه كفَّارة الظِّهار، وهو قول أبي قِلابة وابنِ جُبيرٍ وأحمد وإسحاق، وهذا الحكم مِنِ ابن عبَّاسٍ هو مرفوعٌ لتلاوة الآية الكريمة عقبه، ولفعل الشَّارع له.
          وقد اختلف العلماء فيما إذا قال لزوجته: أنتِ عليَّ حرامٌ؛ فمذهبنا أنَّه إنْ نوى الطَّلاق فهو طلاقٌ، أو الظِّهار فظهارٌ، أو تحريم عينِها لم تحرم، وعليه كفَّارة يمينٍ ولا يكون ذلك يمينًا، وإن لم ينوِ شيئًا فالأظهر أنَّ عليه كفَّارة يمينٍ، وقيل: لغوٌ لا شيء فيه أصلًا، وذكر القاضي عِياضٌ في هذه المسألة أربعةَ عشرَ مذهبًا:
          أحدها: وهو مشهور مذهب مالكٍ: أنَّه يقع به الثَّلاث، سواءٌ كانت مدخولًا بها أم لا، لكن لو نوى أقلَّ مِنْ ثلاثٍ قيل: في المدخول بها خاصَّةً، وهو قول عليٍّ وزيدٍ والحسن والحكم.
          ثانيها: أنَّه يقع الثَّلاث ولا تقبل نيَّته في المدخول بها ولا غيرها، قاله ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجِشَون.
          ثالثها: يقع في المدخول بها ثلاثٌ وغيرها واحدةٌ، قاله أبو مصعبٍ ومُحمَّد بن عبد الحكم.
          رابعها: يقع واحدةٌ بائنةٌ، المدخول بها وغيرها، وهي روايةٌ عن مالكٍ.
          خامسها: يقع واحدةٌ رجعيَّةٌ، قاله عبد العزيز بن أبي سلمة.
          سادسها: يقع ما نوى، ولا يكون أقلَّ مِنْ واحدةٍ، قاله الزُّهْريُّ.
          سابعها: إن نوى واحدةً أو عددًا أو يمينًا فله ما نوى وإلَّا فلغوٌ، قاله النَّوويُّ.
          ثامنها: مثله، إلَّا أنَّه إذا لم ينو شيئًا لزمه كفَّارة يمينٍ، قاله الأوزاعيُّ وأبو ثَوْرٍ.
          تاسعها: مذهب الشَّافعيِّ السَّالف، وهو قول أبي بكرٍ وعمرَ وغيرهما مِنَ الصَّحابة والتَّابعين.
          عاشرها: إن نوى الطَّلاقَ وقعت واحدةٌ بائنةٌ، وإن نوى ثلاثًا وقعت ثلاثٌ، وإن نوى اثنتين وقعت واحدةٌ، وإن لم ينو شيئًا فيمينٌ، وإن / نوى الكذب فلغوٌ، قاله أبو حَنيفةَ وأصحابه.
          الحادي عشرَ مثل العاشر: إلَّا أنَّه إذا نوى الاثنتين وقعتا، قاله زُفَرُ.
          الثَّاني عشرَ: أنَّه تجب فيه كفَّارة ظهارٍ، وقد سلف.
          الثَّالثَ عشرَ: أنَّها يمينٌ يلزم فيها كفَّارة يمينٍ، قاله ابن عبَّاسٍ وبعض التَّابعين، وعنه: ليس بشيءٍ.
          الرَّابعَ عشرَ: أنَّه كتحريم الماء والطَّعام فلا يجب فيه شيءٌ أصلًا، ولا يقع به شيءٌ بل هو لغوٌ، قاله مسروقٌ وأبو سلمة والشَّعْبيُّ وأصبغُ، ونقل ابن بَطَّالٍ في الحرام أنَّها يمينٌ تكفَّر عن أبي بكرٍ وعمرَ وابن مَسْعودٍ وعائشة وابن عبَّاسٍ وابن المُسيِّب وعَطاءٍ وطاوسٍ في آخرين؛ لأنَّ الحرام ليس مِنْ ألفاظ الطَّلاق.
          قال ابن المُنْذِر: إنَّما لزمته ◙ الكفَّارة بيمينه لا لتحريمه ما أحلَّ اللَّهُ له، فلا حجَّة لِمَنْ أوجب فيه كفَّارة يمينٍ، وقال ابنُ التِّينِ: أخذ الشَّافعيُّ وأبو حَنيفةَ بما ذكرَه ابنُ عبَّاسٍ أنَّه يكفِّر كفَّارةَ يمينٍ فيما عدا الزَّوجة واستدلَّا بقوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [المائدة:87] ثُمَّ جعله يمينًا بقوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]، واحتجَّ القاضي أبو مُحمَّدٍ بقوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87] وبقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ}الآية [يونس:59] فتوعُّده على فعل ذلك ومنعُه منه يدلُّ على أنَّه لا يتعلَّق به حكمٌ، وهذا كلُّه إذا قاله لزوجته، أمَّا إذا قاله لأمَته فمذهبنا أنَّه إن نوى عتقها عتِقت، أو تحريم عينها فكفَّارة يمينٍ ولا يكون يمينًا، وإن لم ينو شيئًا وجبت كفَّارة يمينٍ على الأصحِّ، وقال مالكٌ: إنَّه لغوٌ في الأمَة لا يترتَّب عليه شيءٌ، وعامَّة العلماء كما قال القاضي عِياضٌ: عليه كفَّارة يمينٍ بنفس التَّحريم، وقال أبو حَنيفةَ: يحرم عليه ما حرَّمه في أَمَتِه وطعامٍ وغيره، ولا شيءَ عليه حتَّى يتناوله، فيلزمه حينئذٍ كفَّارة يمينٍ، قال المُهَلَّب: وهذه نعمةُ اللَّهِ أنعم اللَّهُ بها على هذه الأمَّة بخلاف سائر الأمم، ألا ترى أنَّ إسرائيل لمَّا حرَّم على نفسه ما حرَّم لزمَه ذلك التَّحريم، ونبيُّنا عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام لم يُجعل له أن يحرِّم إلَّا ما حرَّم اللَّهُ عليه.
          فائدةٌ: قال الزَّمَخْشريُّ في هذه السُّورة: إن قلتَ: هل كفَّر رسول اللَّهِ صلعم بذلك؟ قلتُ: عن الحسن أنَّه لم يكفِّر لأنَّه كان مغفورًا له ما تقدَّم مِنْ ذنبه وما تأخَّر، وإنَّما هو تعليمٌ للمؤمنين، وعن مقاتلٍ أنَّه ◙ أعتق رقبةً في تحريم مارية.
          4912- ثُمَّ ساقَ البُخاريُّ حديثَ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زينَبَ بنتِ جَحْشٍ وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فَتَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةَ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، إنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، قَالَ: لاَ، ولَكِنِّي كنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ، وَقَدْ حَلَفْتُ، لَا تُخْبِرِي بِذَلِكِ أَحَدًا).
          يبتغي بذلك مرضاة أزواجه، وأخرجه في الطَّلاق [خ¦5267] والنُّذور والأيمان [خ¦6691]، وأخرجه أيضًا مسلمٌ وأبو داود والنَّسَائيُّ. واختُلف في الَّتي شرب في بيتها العسل، فعند البُخاريِّ زينبُ كما ترى، وأنَّ القائلةَ له: (أَكَلْتَ مَغَافِيرَ) عائشة وحفصة، وقال النَّسَائيُّ: إسنادُه صحيحٌ جيِّدٌ غايةٌ، وقال الأَصيليُّ: إنَّه الصَّحيح، وهو أولى بظاهر الكتاب في قوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4] فهما ثنتان لا ثلاثٌ، وفي روايةٍ أنَّها حفصةٌ، وأنَّ القائلة: (أَكَلْتَ مَغَافِيرَ) عائشة وسَودة وصفيَّة، وأيضًا ذكرَها في النِّكاح، وفي «تفسير عبد بن حُميدٍ» أنَّها سَودَة كان لها أقارب أهدَوا لها مِنَ اليمن عسلًا، والقائل له عائشةُ وحفصةُ، ويؤيِّد الأوَّل أنَّ أزواجه كُنَّ حزبين، قالت عائشة: أنا وسَوْدة وحفصةُ وصفيَّة في حزبٍ، وزينبُ وأمُّ سلَمة والباقيات في حزبٍ.
          ومعنى: (تَوَاطَأت) اتَّفقت وهو بالهمز، والمَغَافِيرُ بفتح الميم ثُمَّ غينٍ معجمة ثُمَّ بعد الألف فاءٌ جمعُ مغفورٍ، وحكى فيه أبو حَنيفةَ مغثورًا بثاءٍ مثلَّثةٍ، قال الدَّاوُديُّ: وَيُروَى به أيضًا، وميمُ مغفورٍ أصليَّةٌ، وقال الفرَّاء: زائدةٌ، وواحده: مَغفرٌ، وحكى غيره: مُغفرٌ، وقيل: مغفارٌ، وقال الكِسائيُّ: مِغفرٌ، وقال ابنُ قتيبة: ليس في الكلام مُفْعولٌ إلَّا مُغْفورٌ ومُغْرودٌ، وهو ضربٌ مِنَ الكَمْأة، ومُنْخورٌ وهو المنخر، ومُغْلوقٌ واحد المغاليق، والمغفورُ صمغٌ أو شبيهُه حلوٌ كالنَّاطف، وله رائحةٌ كريهةٌ ينضحه شجرٌ يسمَّى العُرْفُط _بعينٍ مهملةٍ مضمومةٍ وفاءٍ مضمومةٍ أيضًا_ نباتٌ مرٌّ، له ورقةٌ عريضةٌ تنفرش على الأرض وله شوكةٌ وثمرةٌ بيضاء كالقطن، مثل زرِّ قميصٍ، خبيث الرَّائحة، ووقع للمهلَّب أنَّ رائحة العُرْفُط والمغافير حسنةٌ، وذكره ابنُ بَطَّالٍ في النِّكاح أيضًا، وهو خلاف ما يتضمَّنه الحديث واللُّغة، فإنَّهم قالوا: إنَّه مِنْ شجر العضاه، وهو كلُّ شجرٍ له شوكٌ، وقد أسلفنا أنَّ رائحته كريهةٌ، قال أبو حَنيفةَ: وهو خبيث الرَّائحة، وتخبث رائحة راعيته ورائحة ألبانها حتَّى يتأذَّى بروائحها وأنفاسها النَّاسُ فيتجنبونها، وهو معنى قول أبي زيادٍ: والعُرْفُط زخمة ريحٍ، وجاء في كتاب النِّكاح [خ¦5268]: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ، وهو بجيمٍ وراءٍ والسِّين المهملة، أي أكلتْ، وأصل الجَرسِ: الصَّوت الخفيُّ، يُقَالُ: سمعت جرس الطَّير أي صوتَ مناقيرها على ما تأكله، قال الأصمعيُّ: كنت في مجلس شُعْبة بن الحجَّاج فروى حديثًا فيه: فيسمعون جرش طير الجنَّة، قالها بالشِّين المعجمة، فقلت: جرس بالسِّين المهملة، فنظر إليَّ وقال: خذوها عنه، هو أعلم بها، وفي «كتاب الخليل»: الجرش _بالشِّين معجمةً_ الأكل، وقيل: المغافير: هي البُظرُ، وذكره ابن غلبون في «تذكرته»: وكان ◙ يكره أن توجدَ منه رائحةٌ، ويتوقَّى كلَّ طعامٍ ذي رائحةٍ.