التوضيح لشرح الجامع البخاري

{قل أعوذ برب الناس}

          ░░░114▒▒▒ ({قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} [النَّاس:1].
          وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ: {الْوَسْوَاسِ} إِذَا وُلِدَ خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ ذَهَبَ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ اللَّهُ ثَبَتَ عَلَى قَلْبِهِ).
          4977- ثُمَّ ساق حديثَ زِرٍّ: (سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ: أَبَا المُنْذِر، إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ أُبَيٌّ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم فَقَالَ: قِيلَ لِي فَقُلْتُ، فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم).
          الشَّرح: (أُبَيٌّ) هو ابنُ كعب بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاويةَ بن عمرو بن مالك بن النَّجَّار، وهاتان السُّورتان مدنيَّتان، وبه جزم الثَّعلبيُّ، وعن قَتَادة وغيره: مكِّيَّتان، والصَّواب الأوَّل، نزلتا في اليهوديِّ لَبِيْد بن الأَعْصَم، سَحرَ سيِّدَنا رسولَ اللَّهِ صلعم وجعل سحرَه في راعوفة بئر ذَرْوان، يعني: الحجر الَّذِي في أسفل البئر إذا نزل الإنسان بفم البئر قام عليه، ويُقَالُ: إنَّ العُقَد الَّتي عقدَها لَبِيدٌ وهي إحدى عشرة عقدةً في وَترٍ ومُشطٍ ومُشاطةٍ، أعطاها غلامٌ يهوديٌّ يخدمه لهم، وصورةٌ مِنْ عجينٍ فيها إبَرٌ مغروزةٌ، فبعث عليًّا والزُّبيرَ وعمَّارًا فاستخرجوه، وشفاه اللَّهُ، ويُقَالُ: إنَّه سحره امرأتان مِنَ البحرين بحضرته بحائلٍ بينهما، وجعلا ينفثان ويعقدان فنزلت الفلق، وفي روايةٍ: لَبيدُ بن عامر بن مالكٍ وأمُّ عبد اللَّه اليهوديَّة، وفي روايةٍ في «الصَّحيح»: قالت عائشة: هلَّا استخرجتَه قال: ((قد عافاني اللَّهُ وكرهتُ أن أُثَوِّرَ منه على النَّاس شرًّا))، وفيه مخالفةٌ لِما سبق، وفي روايةٍ: ((فهلَّا أحرقتَه)) وظاهرُه دالٌّ على الَّذِي سُحِرَ به كما قاله ابن الجَوْزيِّ، إلَّا أنَّا قد رُوِّينا مِنْ طريقٍ آخر: قالوا يا رسول اللَّه، أفلا نأخذ الخبيثَ فنقتله؟ وهو دالٌّ على أنَّ الإشارة إلى اليهوديِّ السَّاحر، والظَّاهر أنَّ هذا للسَّاحر وذاك للسِّحر، ويجوز أن يكون ذلك منها على وجه الاستفهام، فيُحتجُّ به إذنْ على قتل السَّاحر، وجاء في روايةٍ أنَّه لمَّا سُحِرَ احتجمَ على رأسِه بقرنٍ، وهو اسم موضعٍ كما قال ابن السِّيْرافيِّ.
          وقال المُهَلَّب: وقع فاستخرجه، وقع في باب: السِّحر [خ¦5763] قلت: يا رسول اللَّهِ، أفلا استخرجتَه؟ فأُمر بها فدُفنت، قال: وهو اختلافٌ مِنَ الرُّواة، ومدارُه على هشام بن عروة، وأصحابه مختلفون في استخراجه، فأثبتَه سفيان في روايةٍ مِنْ طريقين، ووافق سؤال عائشة على النُّشرة، ونفى الاستخراج عن عيسى بن يونس، ووافق سؤالها النَّبيَّ صلعم عن الاستخراج، ولم يذكر أنَّه جاوب على الاستخراج بشيءٍ، وحقَّقَ أبو أسامة جوابَه ◙ إذ سألته عائشة ♦ عن استخراجه فكان الاعتبار يعطي أنَّ سفيانَ أولى بالقول لتقدُّمه في الضَّبط، وأنَّ الوهم على أبي أسامة في أنَّه لم يستخرجه، ويشهد لذلك أنَّه لم يذكر النُّشرة، وكذلك عيسى بن يونس لم يذكر أنَّه ◙ جاوب على استخراجه بلا، وذكر النُّشرة، والزِّيادة مِنْ سفيان مقبولةٌ لأنَّه أثبتُهم، لا سيَّما فيما حقَّق مِنَ الاستخراج، وفي ذكره النُّشرة هي جوابٌ للنَّبيِّ صلعم مكان الاستخراج، ويُحتَمَلُ أن يحكم بالاستخراج لسفيان، ويحكم لأبي أسامة بقوله: لا، على أنَّه استخرج الجفَّ بالمشاقة، ولم يستخرج صورة ما في الجفِّ لئلَّا يراه النَّاس فيتعلَّمونه.
          ثُمَّ اعلم أنَّ السِّحرَ مرضٌ مِنَ الأمراض، وعارضٌ مِنَ العلل غير قادحٍ في نبوَّته، وطاح بذلك طعن الملحدة قاتلهم اللَّهُ، وما ورد أنَّه كان يُخَيَّلُ إليه أنَّه فعل الشَّيء وما فعله، فذاك فيما يجوز طُروءُه عليه في أمر دنياه دون ما أُمر بتبليغه، يؤيِّده الرِّواية الأخرى: أنَّه يأتي أزواجه ولا يأتيهنَّ، أو يحمل على تخيُّلٍ لا يعتقد صحَّته، وقد رُوِيَ عن المُسيِّب وعروة سحره حتَّى كاد ينكر بصره، وعن عَطَاءٍ الخراسانيِّ: حُبِسَ عن عائشة سنةً، قال عبد الرَّزَّاق: وحُبِسَ عنها خاصَّةً حتَّى أنكرَ بصرَه، قلتُ: وما أسلفناه مِنْ رواية ثلاثة أيَّامٍ أو أربعةٍ هو أصوب وسنةٌ بعيدٌ.
          فصل: {الْفَلَقِ} الصُّبح، لأنَّ اللَّيل يفلق عنه، فهو بمعنى مفلوقٍ، أو كلُّ ما فلقَه اللَّهُ مِنْ خلقٍ، قال تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95] أو وادٍ أو جُبٌّ في جهنَّم أو هو جهنَّم، إذا فُتح صاحَ أهلُ النَّار مِنْ شدَّة حرِّه، والغَاسِقُ اللَّيلُ كما ذكرَه عن مجاهدٍ، وقاله ابنُ عبَّاسٍ أيضًا، وقال الحسن: أوَّل اللَّيل إذا أظلم، وقال مُحمَّد بن كعبٍ: هو النَّهار إذا دخل في اللَّيل، وفي روايةٍ: غروب الشَّمس إذا وجبت، وقال أبو هريرة: الغاسق: كوكبٌ، وعنه مرفوعًا: ((النَّجمُ))، وقال ابنُ زيدٍ: العرب تقول: الغاسقُ سقوطُ الثُّريَّا، وفي «الصَّحيح» عن عائشة مرفوعًا: ((القمر)) وقيل: إذا كسف واسودَّ، {وَقَبَ}: (دَخَلَ) كما فَسَّرَه، وقال قَتَادة: ذهب، واستغربه الطَّبَريُّ.
          فصلٌ: وما ذكره في {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} عن ابن عبَّاسٍ هو كذلك، لكنَّ قوله: (خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ) الَّذِي في اللُّغة: خَنَسَ إذا رَجَعَ، و{الْخَنَّاسِ} الرَّجَّاع، وقيل: هو الشَّيطان يوسوس في الصَّدر، / قال قَتَادة: له خرطومٌ كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبدُ ربَّه خنس، أي تأخَّر، وجاء أنَّ له رأسًا كرأس الحيَّة، وإذا تُرِكَ رجع في القلب يوسوس فيه.
          وقوله: (إِنَّ أَخَاكَ ابن مَسْعودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا) يريد لم يُدخِل المعوِّذتين في مصحفه، وهو مِنْ أفراده لكثرة ما كان يرى الشَّارع يتعوَّذ بهما، فظنَّ أنَّهما مِنَ الوحي وليسا مِنَ القرآن، والصَّحابة أجمعت عليهما، وأثبتهما في المصحف، وكان أُبَيٌّ ☺ أدخل سورتي القنوت في مصحفه، وهما: ((اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ...)) إلى ((بِالْكًفَّارِ مُلْحِقٌ))، وأوَّل السُّورة الثَّانية: {اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
          آخر كتاب التَّفسير ولله الحمد والمنَّة.