التوضيح لشرح الجامع البخاري

{حم} السجدة

          ░░░41▒▒▒ (وَمِنْ سُورَةِ حم السَّجْدَةِ)
          هي مكِّيَّةٌ.
          (ص) (وَقَالَ طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أَعْطِيَا، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] أَعْطَيْنَا) أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ مِنْ حديث سليمانَ الأحول عن طاوسٍ عنه به، وليس {ائْتِيَا} بمعنى أعطيا في كلامهم، لا جَرَم قال ابن التِّينِ: فيه نظرٌ، إلَّا أن يكون ابُن عبَّاسٍ قرأ بالمدِّ لأنَّ أتى مقصورٌ معناه: جاء، وممدودٌ رباعيٌّ معناه: أعطى، ونقل غيرُه عن ابنِ جُبيرٍ أنَّه قرأها: {آتِيَا} _بالمدِّ_ على معنى أعطيا الطَّاعة، وأنَّ ابنَ عبَّاسٍ قرأ: {آتِينَا} بالمدِّ أيضًا على المعنى المذكور، وجمعه بالياء والنُّون وإن كان مختصًّا بمَنْ يعقل لأنَّ معناه: أتينا بمَنْ فيها، أو لأنَّه لمَّا خبَّر عنهنَّ بفعلِ مَنْ يعقل جاء فيهنَّ بالياء والنُّون، كقَوْله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] وأجاز الكِسائيُّ أن يُجمَعَ كلُّ شيءٍ بالياء والنُّون والواوِ والنُّون، وفيه بُعدٌ.
          (ص) (وَقَال المِنْهَالُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَال رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي القُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، قَالَ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} [النساء:42] {رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَقَالَ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} إلى قَوْله: {دَحَاهَا} [النازعات:27-30] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى: {طَائِعِينَ} [فصلت:9-11] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَقَالَ: {وَكاَنَ اللهُ غَفُوَرَا رَحِيمًا} [الأحزاب:5] عَزِيزًا حَكِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا، فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى، فَقَالَ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} فِي النَّفْخَةِ الأُولَى ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} [الزمر:68]، فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الأخرى أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، وَأَمَّا قَوْله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} فَإِنَّ اللهَ تعالى يَغْفِرُ لأَهْلِ الإِخْلاَصِ ذَنْبَهُم، وَقَالَ المُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُولُ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّ اللهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ}الآية [النساء:42]).
          وقَوْله: (خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ، فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ، ودَحْيُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ والمَرْعَى، وَخَلَقَ الجِبَالَ وَالآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْله: {دَحَاهَا}، وَقَوْله: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فَجُعِلَتِ الأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وخَلَقَ السَّمَوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ).
          وقَوْله: ({وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سَمَّى نَفْسَهُ بذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللهَ ╡ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ القُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ الله).
          قَالَ البُخاريُّ: (حدَّثَنِيهِ يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ حدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ المِنْهَالِ بِهَذَا) كذا هو ثابتٌ في أصلِ الدِّمْياطيِّ وفي «أطرافِ خلف» وكذا في «التَّهذيب». قال: وليس له عن ابن عَديٍّ في «الصَّحيح» غيرُه. وعن أبي بكرٍ البَرْقانيِّ فيما ذكره ابن جَبْرُون أنَّه قال: قال لي إبراهيم بن مُحمَّدٍ الأزدستاني: شُوهِدَتْ نسخةٌ بكتاب «الجامع» فيها على الحاشية: <حدَّثَنا مُحمَّد بن إبراهيم حدَّثَنا يوسف بن عَديٍّ> فذكرَه، ورواه الإسماعيليُّ عن أحمد بن زَنْجَويه حدَّثَنا إسماعيل بن عبد الله بن خالدٍ الرَّقِّيُّ حدَّثَنا عُبيد اللهِ بن عمرٍو به، و(يُوسُفُ) هذا هو (ابْنُ عَديِّ) بنِ زُرَيقٍ التَّيميُّ مولاهم، أبو يعقوب الكوفيُّ، أخو زكريَّا، سكن مصرَ، روى عن إسماعيل بن عيَّاشٍ وشَريكٍ ومالكٍ، وعنه البُخاريُّ هذا الحديث فقط، والنسائيُّ بواسطةٍ، وفي «يومٍ وليلةٍ» بواسطتين، وجمعٌ، وثَّقه أبو زُرعة وابن حِبَّان، مات بعد الثَّلاثين ومئتين، وروى له النسائي حديثَ: الدُّعاء إذا انتبه مِنَ اللَّيل فقط، وما ذكرَه ابنُ عبَّاسٍ في قَوْله: {فَلَا أَنْسَابَ} الآية، جوابٌ حسنٌ، وقيل: إنَّ ذلك عند اشتغالهم بالصِّراط وعند الميزان وتناوُلِ الصُّحف، وهم فيما بين ذلك يتساءلون.
          وقَوْله: (وَالسَّمَاءَ بَنَاهَا) كذا وقع، والتِّلاوة: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27] وكلامُ ابنِ عبَّاسٍ يدلُّ أنَّ (ثُمَّ) على بابِها في ترتيب الخبر، لأنَّه دحا الأرض أخرى، أي بسطها، وقيل: إنَّ (ثُمَّ) هنا بمعنى الواو، وفيه بعدٌ، وذكر بعض المفسِّرين أنَّ (ثُمَّ) هنا على بابها، وقيل: المعنى: ثُمَّ أخبركم بهذا، كقَوْله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:17] وهذه الأيَّام مِنْ أيام الدُّنيا، وقيل: كلُّ يومٍ ألفُ سنةٍ، قال ابنُ عبَّاسٍ وعبدُ اللهِ بن سَلَامٍ: ابتدأ خلق الأرض يومَ الأحد، فخلق سبعَ أرَضين فيه وفي يوم الاثنين، ثُمَّ جعل فيها رواسي وبارك فيها وقدَّرَ فيها الأقوات في يومين: الثَّلاثاء والأربعاء، ثُمَّ استوى إلى السَّماء فخلق سبعَ سمواتٍ في يومين: الخميس والجمعة، فلذلك سمِّي يوم الجمعة لاجتماع الخلق فيه، وهو دالٌّ على أنَّ (ثُمَّ) عند ابن عبَّاسٍ على التَّرتيب في هذه الآية كما سلف، وهو ظاهرُ إيرادِ البُخاريِّ، وقيل: كان خلق السَّماوات يوم الثَّلاثاء والأربعاء، ودحا الأرض في الخميس والجمعة، وهو ظاهرُ إيراد البُخاريِّ أيضًا، و(الآكَامَ) جمع أكمةٍ، وهي التَّلُّ، وقيل: الجبل الصَّغير.
          (ص) (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8] قَالَ: غَيْرُ مَحْسُوبٍ) أخرجه عبدُ بن حُميدٍ عن عمر بن سعدٍ عن سفيان عن ابنِ جُرَيْجٍ عنه، وقيل: غيرُ مقطوعٍ، وقيل: لا يمنُّ فيه، وقيل: غيرُ منقوصٍ.
          (ص) ({أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10] أَرْزَاقَهَا {فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:12] مِمَّا أَمَرَ بِهِ، {نَحِسَاتٍ} [فصلت:16] مَشَائِيمَ، {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ} [فصلت:25] قَرَنَّا بِهِم، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت:30] عِنْدَ المَوْتِ، {اهْتَزَّتْ} [فصلت:39] بِالنَّبَاتِ، {وَرَبَتْ} ارْتَفَعَتْ، {مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47] حِينَ تَطْلُعُ، {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت:50] أَيْ بِعَمَلِي) فيقول: (أَنَا مَحْقُوقٌ بِهَذَا) هذا كلُّه مِنْ قول مجاهدٍ، أسندَه عبدٌ مِنْ حديث حجَّاجٍ عن ابن جُرَيْجٍ عنه، ومِنْ حديث سفيان ووَرقاءَ عن ابن أبي نَجِيحٍ عنه، والمراد بالقوت: ما يُتقوَّت به ويؤكل، وقال قَتَادة: جعل اليماني باليمن، وكذا غيره في مكانه، فجعل فيها ما يتَّجر فيه.
          وقَوْله: (مِمَّا أُمِرَ بِهِ) أي ما أراده، وقال قَتَادة: خلق شمسَها وقمرَها ونجومَها وأفلاكَها.
          قوله: (قَرَنَّا بِهِم) أي الشَّياطين.
          (ص) (وَقَالَ غَيْرُهُ) يعني: غير مجاهدٍ، ({سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] قَدَّرَهَا سَوَاءً) قلت: / المعنى في تتمَّة أربعةِ أيَّامٍ استوت استواءً، وقيل: جوابًا للسَّائلين، وقيل: للمحتاجين، وقول ابن زيدٍ: قدَّرها على تقدير مسألتهم علم تعالى ذلك قبل كونه، وعليه يخرَّج ما في البُخاريِّ، فإنَّه جعل (سواءً) متعلقًا بـ (قدَّر) وهو قول الفرَّاء أيضًا.
          (ص) ({فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَقَوْله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وَكَقَوْله: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان:3] وَالْهُدى الَّذِي هُوَ الإِرْشَادُ بِمَنْزِلَةِ أَسْعَدْنَاهُ، مِنْ ذَلِكَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]) قلتُ: وخفيف تسهيل طريق الخير بخلاف الخذلان، نسأل اللهَ السَّلامة.
          (ص) ({يُوزَعُونَ} [فصلت:19] يُكَفُّونَ) أي يُساقون ويُدفعون إلى النَّار، وقال قَتَادة: يُحبس أوَّلهم على آخرهم.
          (ص) ({مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47] قِشْرُ الكُفُرَّى الكُمُّ وَاحِدُهَا) قلتُ: والمراد به السِّتر الَّذِي يكون على الطَّلعة، وهي تسمَّى الجُفَّ، وقيل: حين تطلع الثَّمرة مِنْ وعائها، و<الكُفُّرَى> بتشديد الفاء وتخفيف الرَّاء، كذا هو في بعض النُّسخ، وفي بعضها عكسه، وهو ما ضبطه أهل اللُّغة، كما ذكره ابن التِّينِ، وفي بعض النُّسخ، وقال غيرُه: ويُقَالُ للعنب إذا خرج أيضًا كافورٌ وكُفْريٌّ، وهذا أسندَه ابن أبي حاتمٍ عن أبيه عن أبي صالحٍ عن معاوية عن عليٍّ به.
          (ص) ({وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] القَرِيبُ) قلتُ: وقيل صديقٌ.
          (ص) ({مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت:48] حَاصَ عَنْه، أَيْ حَادَ عَنْهُ) أي ما لهم مِنْ مهربٍ، و(مَا) هنا حرفٌ وليس باسمٍ فلذلك لم يعمل فيه الظَّنُّ، وجعل الفعل ملغًى.
          (ص) ({مِرْيَةٍ} [فصلت:54] وَمُرْيَةٍ وَاحِدٌ أَيِ امْتِرَاءٌ) قلتُ: وقرأ الجماعة بالكسر، وقرأ الحسن بالضَّمِّ، والامتراء: الشَّكُّ، وكذلك المِراءُ.
          (ص) (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] هِيَ وَعِيدٌ) أي وتهديدٌ، (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الَّتي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] الصَّبْرُ عِنْدَ الغَضَبِ) أي والحلم عند الجهل.
          (ص) (وَالْعَفْوُ عِنْدَ الإِساءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللهُ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ {كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]) هذا مشهورٌ عنه، قال مقاتلٌ: نزلت في أبي سفيان بن حربٍ وكان مؤذيًا لرسول اللهِ صلعم فصار له وليًّا بعد أن كان عدوًّا، نظيرُه {عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] وقيل: معنى {ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] أي قل لِمَنْ تلقاه: سلامٌ عليكم، وعن ابن عبَّاسٍ: هما الرَّجُلان يتقاولان، فيقول أحدهما لصاحبه: يا صاحب كذا، فيقول له الآخر: إن كنت صادقًا عليَّ فغفر اللهُ لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك.