التوضيح لشرح الجامع البخاري

{والطور}

          ░░░52▒▒▒ (ومِنْ سُورَةِ الطُّورِ)
          هي مكِّيَّةٌ، قال الكَلْبيُّ: إلَّا قوله: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47] نزلت فيمن قُتل ببدرٍ مِنَ المشركين، وقال مقاتلٌ: لمَّا كذَّبت كفارُ قريشٍ أقسمَ اللَّه بالطُّور، وهو الجبل بلغةِ النَّبطِ الَّذِي كلَّم اللَّهُ موسى عليه بالأرض المقدَّسة، وقال الجَوْزيُّ: بمدين طور سيناء، وفي «تفسير ابن عبَّاسٍ» أنَّه ◙ خوَّف أهلَ مكَّة العذابَ فلم يؤمنوا ولم يصدِّقوا وقالوا: لن نؤمن بما جئتَ به، فأنزل اللَّه يقسم بستَّة أشياء لنبيِّه ◙ أنَّ العذابَ نازلٌ بهم.
          (ص) (قَالَ مُجَاهِدٌ: الطُّورُ الجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ) وهذا أخرجه ابن أبي حاتمٍ مِنْ حديث ابن أبي نَجِيحٍ عنه، ورواه مرَّةً عنه عن ابن عبَّاسٍ.
          وقوله: (بِالسُّرْيَانِيَّةِ) لعلَّه وافق لغتَهم، وحكي عنه وعن عِكرمة وقَتَادة وغيرهما أنَّه جبلٌ فقط، وكذا قال ابن فارسٍ، وكذا ما سيأتي عن أهل اللُّغة أنَّه جبلٌ، قال مقاتل بن حيَّان: هما طُوران: طور تينا، وطور زيتا لأنَّهما يُنبِتَانِ الزَّيتون والتِّيْنَ. وقال أبو عبد اللَّهِ الحمويُّ في «مشتركه»: طور زينا مقصورٌ علمٌ لجبل بقربِ رأس عين، وطور زيتا مقصورٌ أيضًا جبلٌ بالبيت المقدَّس، وفي الأثر: ((مات بطورِ زيتا تسعون ألفَ نبيٍّ قتلَهم الجوع)) وهو شرقيَّ وادي سَلْوان، والطُّور أيضًا جبلٌ مطلٌّ على مدينة طَبريَّة بالأردنِّ وبأرضِ مصر أيضًا، واختُلف في طور سَيناء، فقيل: هو جبلٌ بقرب أيلة، وقيل: هو بالشَّام، وسيناء حجازيَّة، وقيل: شجرٌ فيه، وطور عَبْدين اسمٌ لبُليدةٍ بين نَصِيبِين في بطن الجبل المشرف عليها المتَّصل بجبل الجُوديِّ، وطور هارون جبلٌ مشرفٌ قبليَّ بيت المقدس، فيه _فيما قيل_ قبرُ هارون ◙، وقال صاحب «المحكم»: الطُّورُ الجبلُ، وقد غلب على طور سَيناء جبلٌ بالشَّام، وهو بالسُّرْيانيَّة طُوْرى، والنِّسبة إليه طُوريٌّ وطُورانيٌّ، وكذا قال القزَّاز وأبو عُبيدة في «مَجازه»: كلُّ جبلٍ طُورٌ، وقال نوفٌ: أوحى اللَّهُ إلى الجبال: إنِّي نازلٌ على جبلٍ منكنَّ، فارتفعت وانتفخت وشمخت إلَّا الطُّور فإنَّه تواضع، وقال: أرضى بما قسم اللَّهُ لي، فكان الأمنُ عليه.
          (ص) (وَقَالَ قَتَادة: {مَسْطُورٍ} [الطور:2] مَكْتُوبٍ) هو كما قال.
          (ص) ({رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] صَحِيفَةٍ) قلت: حكاه الجَوْزيُّ عن مجاهدٍ، وذكره ابنُ عبَّاسٍ في «تفسيره» بزيادة: وذلك الرَّقُّ ما بين المشرق والمغرب، وقال مقاتلٌ: {فِي رَقٍّ} يعني: في أديم الصُّحف، قال الجَوْزيُّ: يريد القرآن، وقيل: التَّوارة، وقيل: اللَّوح المحفوظ، وقيل: ما يكتبه الحفظة.
          (ص) ({وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور:5] السَّمَاء) قلتُ: سمَّاها سقفًا لأنَّها للأرض كالسَّقف للبيت، دليلُه ونظيرُه: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا}.
          (ص) ({الْمَسْجُورِ} [الطور:6] المُوقَدِ) هو قول مجاهدٍ فيما حكاه الجَوْزيُّ، يريد: المملوء نارًا، وعن عليٍّ: هو بحرٌ تحت العرش، أي مملوءٌ ماءً يسمَّى نهر الحيوان، يحيي اللَّهُ به الموتى فيما بين النَّفختين، وَيُروَى أنَّ البحر _وفي روايةٍ: البحار_ تُسجر يوم القيامة نارًا.
          (ص) (وَقَالَ الحَسَنُ: تُسْجَرُ حتَّى يَذْهَبَ مَاؤُهَا فَلَا يَبْقَى فِيهَا قَطْرَةٌ) وهذا رواه الطَّبَريُّ مِنْ حديث قَتَادة عنه، وعنه: المسجور المملوء، مثل قوله: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] وعن ابنِ عبَّاسٍ: المسجور المحبوس، قال: وقال رسولُ اللَّهِ صلعم: ((سَقفٌ مَحفوظٌ وموجٌ مَكفوفٌ عن العباد)).
          (ص) (وقال مجاهدٌ: {أَلَتْنَاهُمْ} [الطور:21] نَقَصْنَاهُمْ) أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ مِنْ حديث ابن أبي نَجِيحٍ عنه.
          (ص) ({أَحْلَامُهُمْ} [الطور32] عُقُوْلُهُم) أي لأنَّهم كانوا يعدُّون في الجاهليَّة أهلَ الأحلام ويوصفون بالعقل، كنَّى عن العقل بالحلم لأنَّ الحلم لا يكون إلَّا بالعقل.
          (ص) (وَقَالَ ابن عبَّاسٍ: {البَرُّ} [الطور:28] اللَّطِيفُ، {كِسَفًا} [الطور:44] قِطعًا، المَنُونُ المَوْتُ) هذا أخرجَه ابنُ أبي حاتمٍ أيضًا مِنْ حديث عليِّ بن أبي طلحة عنه، ثُمَّ قال:
          (ص) (وَقَالَ غَيْرُهُ: {يَتَنَازَعُونَ فِيْهَا} [الطور:23] يَتَعَاطَوْنَ) ما ذكرَه في البرِّ هو أحدُ الأقوال، وقيل: المُحسن، وقيل: الصَّادق فيما وعدَ أولياءه، وقيل: خالقُ البشر، وقيل: العَطوفُ على خلقه، وقيل غير ذلك.
          وقوله: ({كِسَفًا} قِطَعًا) ويُقَالُ: قطعةٌ، هو جمع كِسْفةٍ كقِرْبةٍ وقِرَبٍ، ومَنْ قرأ بالسُّكون على التَّوحيد فجمعُه أكسافٌ وكسوفٌ، وهو واحدٌ، ويجوز أن يكون جمع كِسْفة كسِدْرةٍ وسِدْرٍ.
          وقوله: ({الْمَنُونِ} [الطور:30] المَوْتُ) قال مجاهدٌ: إنَّه حوادث الدَّهر، وهو المعروف عند أهل اللُّغة، وقال أبو عُبيدة: إنَّه الدَّهر، قال ابنُ فارسٍ: وإنَّما قيل للمَنيَّة: المنون لأنَّه ينقص العدد ويقطع المدد، قال الدَّاوُديُّ: هو جمعُ منيَّةٍ، وليس كما ذكر، فقد قال الأصمعيُّ: إنَّه واحدٌ لا جمعَ له، وقال الأخفشُ: هو جمعٌ لا واحدَ له، وقال الفرَّاء: يقع للجميع وللواحد.
          وقوله: ({يَتَنَازَعُونَ} يتعاطون) أي ويتبادلون ويتداولون.
          4853- ثُمَّ ساقَ البخاريُّ حديثَ أمِّ سلمة في طوافِها راكبةً، وقد سلف في الصَّلاة [خ¦464].
          وفيه طوافُ النِّساء ليلًا وفي حال صلاةِ النَّاس، والرُّكوبُ فيه للضَّرورة، وقد يستدلُّ به على طهارة روث ما يؤكل لحمه، وقد سلف ما فيه.
          4854- ثُمَّ ساقَ أيضًا حديثَ جُبَير بن مُطْعِمٍ في قراءته ◙ في المغرب بالطُّور، وقد سلف أيضًا هناك مختصرًا [خ¦765].
          وقوله هنا: (فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ...}) [الطور:35] إلى آخرها (كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ) إنَّما كان ذلك منه لحُسنِ تلقِّيه معنى هذه الآية ومعرفتِه بما تضمَّنته مِنْ تبليغ الحجَّة، وهي آيةٌ صعبةٌ جدًّا، وفيها قولان:
          أحدُهما: ليس هو بأشدَّ خَلقًا مِنْ خلق السَّماوات والأرض، يخلقُهما مِنْ غير شيءٍ وهم خُلقوا مِنْ آدم، وآدم مِنْ ترابٍ.
          ثانيهما: خُلقوا باطلًا لا يحاسَبون ولا يُؤمرون ولا يُنهَون، واختارَ الخطَّابيُّ أنَّ المعنى: أم خُلقوا مِنْ غير شيءٍ خَلَقَهم فوُجدوا بلا خالقٍ؟ هذا محالٌ لأنَّ تعلُّق الخلق بالخالق مِنْ ضرورة الاسم فإذا أنكروه فهم الخالقون لأنفسهم، ثُمَّ قال: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الطور:36] أي فليدَّعوا ذلك، ولا يُمكنهم بوجهٍ، ثُمَّ ذكر العلَّة الَّتي عاقتهم عن الإيمان وهي عدم اليقين، ولهذا انزعجَ جُبَير بن مُطْعمٍ.