التوضيح لشرح الجامع البخاري

سورة براءة

          ░░░9▒▒▒ (سُوْرَةُ بَرَاءَةَ).
          هي مدنيَّةٌ، واختُلف في آياتٍ منها، آيتان مكِّيَّتان في شأن عليٍّ وعمِّه العبَّاس وشَيبة قبلَ إسلامِهما {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة:19]، وفيها عشر آيات في شأن تبوكَ، وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا} [التوبة:74] فقيل: إنَّها نزلت في المنافقين الَّذين همُّوا برسول الله صلعم ليلة العَقبة، وقيل: في عبد الله بن أُبيٍّ، وقيل: في الجُلَاس بن سُوَيدٍ، وقيل: بتبوك، وقال مقاتلٌ: كلُّها مدنيَّةٌ إلَّا قولَه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [التوبة:128] إلى آخر السُّورة، قال السَّخاويُّ: ونزلت بعد المائدة، قال ابن عبَّاسٍ: أوَّل شيءٍ نزل منها: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة:25]، ثُمَّ أنزل الباقي فخرج ◙ إلى تَبوك، قال السُّهَيْليُّ: وأهل التَّفسير يقولون: إنَّ آخرها نزل قبل أوَّلها، وإنَّ أوَّل ما نزل منها: {انْفِرُوا خِفَافًا} ثُمَّ نزل أوَّلها في نبذ كلِّ عقدٍ إلى صاحبه.
          قال ابن العربيِّ: وقوله: / {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة:5] ناسخة لمئةٍ وأربع عشرَةَ آيةً، ثُمَّ صار آخرُها ناسخًا لأوَّلها، وهو قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} الآية، وكذا ذكره مكِّيٌّ، وقال الضَّحَّاك: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} منسوخةٌ بقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [مُحمَّد:4]، وقال قَتَادة: هي ناسخةٌ لها.
          والصَّحيح كما قاله الثَّعلبيُّ: أنَّ حكمَها ثابتٌ غير منسوخٍ لأنَّ القتل والمنَّ والفداءَ لم يزل مِنْ أحكامه مِنْ أوَّل حربٍ حاربَهم، يدلُّ عليه قوله: {وَخُذُوهُمْ} والأخذُ الأَسرُ، والأسرُ إنما يكون للقتل أو الفداء أو المنُّ كما فعل بثُمَامَة.
          فائدةٌ: لها أسماء غير براءة: التَّوبة، لأنَّ فيها التَّوبة على المؤمنين، والفاضحة وغيرها، ذكرها الزَّمَخْشَريُّ، وقال حذيفة فيما ذكره عبدٌ: هي سورة العذاب.
          أخرى: قيل: إنَّما لم يُبَسمَل في أوَّلها لأنَّها والأنفال سورةٌ واحدةٌ، وفي الحاكم عن ابن عبَّاسٍ: سألت عليًّا عن ذلك فقال: لأنَّ البسملة أمانٌ، وبراءة نزلت بالسَّيف ليس فيها أمانٌ، والصَّحيح _كما قال القُشَيريُّ_: أنَّ جبريل ما نزل بها فيها.
          (ص): ({مَرْصَدٍ} طَرِيقٌ) أي يأخذون فيه، والمَرْصَدُ الموضع الَّذِي يُرقَب فيه العدوُّ.
          (ص) (الإلُّ: القَرَابَةُ، الذِّمَّةُ: العَهْدُ) هو كما قال ({وَلِيجَةً} كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلتَهُ فِي شَيْءٍ) أسندَه ابنُ أبي حاتمٍ عنِ الرَّبيع، وقال الفرَّاء: بطانةٌ مِنَ المشركين.
          (ص) ({الشُّقَّةُ} السَّفَرُ) أسندَه أيضًا عن ابن عبَّاسٍ، قيل: هي السَّفرُ البعيد، وقيل: الغاية الَّتي يُقصد إليها.
          (ص) (الخَبَالُ: الفَسَادُ، وَالخَبَالُ: المَوْتُ) قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد عَجزًا وجُبنًا، أي إنَّهم كانوا يجنِّبونكم عن القتال بتهويل الأمر عليكم.
          (ص) ({وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} مِنَ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ) أي لأسرعوا في الدُّخول بينكم بالإفساد، والإيضاعُ الإسراعُ، وخِلالُ الشَّيءِ وسطُه.
          (ص) ({وَلَا تَفْتِنِّي} لَا تُوَبِّخْنِي) قلتُ: نزلت في جدِّ بن قيسٍ المنافق، قال له ◙: ((هل لك في جِلاد بني الأصفر)) يعني الرُّوم تتَّخذ منهم سراريَّ ووُصَفاء، فقال: ائذن لي في القعود عنك ولا تفتنِّي بذكر النِّساء، فقد علم قومي أنِّي مغرمٌ بهنَّ، وإنِّي أخشى ألَّا أصبر عنهنَّ، قال ابن عبَّاسٍ: اعتلَّ جدُّ بن قيس بقوله: ولا تفتنِّي، ولم يكن له علَّةٌ إلَّا النِّفاق، قال تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49].
          (ص) (كَرْهًا وَكُرْهًا وَاحِدٌ) أي بفتح الكاف وضمِّها.
          (ص) ({مُدَّخَلًا} يُدْخَلُونَ فِيهِ) قُرئ بضمِّ الميم وفتحها، وهو ما في بعض النُّسخ _أعني الضَّمَّ_ والمعنى متقاربٌ، قال قَتَادة: سَرَبًا، وقال الحسن: وجهًا يدخلونه، والملجأُ أوَّلَ الآية: المكان الَّذِي يُتحصَّن فيه، قال ابن عبَّاسٍ: مَهربًا، والمَغاراتُ جمعُ مَغارةٍ، وهي المكان الَّذِي تغور فيه، أي تستتر، مِنْ قولهم: غارَ الماءُ في الأرض، قال ابنُ عبَّاسٍ: يعني سراديب.
          (ص) (يَجْمَحُونَ} يُسْرِعُونَ) أي لا يردُّ وجوهَهم شيءٌ، ومنه فرسٌ جموحٌ.
          (ص) (والمُؤْتَفِكَاتِ} ائْتَفَكَتْ: انْقَلَبَتْ بِهَا الأَرْضُ) أسندَه أبو مُحمَّدٍ عن قَتَادة وهي قرياتُ لوطٍ المنقلبات.
          (ص) ({أَهْوَى} [النجم:53] أَلقَاهُ فِي هُوَّةٍ، {عَدْنٍ} خُلْدٍ، عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أَيْ أَقَمْتُ، وَمِنْهُ مَعْدِنٌ، وَيُقَالُ: فِي مَعْدِنِ صِدْقٍ فِي مَنْبَتِ صِدْقٍ، {الْخَوَالِفُ} الخَالِفُ الَّذِي خَلَفَنِي فَقَعَدَ بَعْدِي، وَمِنْهُ يَخْلُفُهُ فِي الغَابِرِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ مِنَ الخَوَالِفِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعَ الذُّكُورِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَلَى تَقْدِيرِ جَمْعِهِ إِلَّا حَرْفَانِ: فَارِسٌ وَفَوَارِسُ، وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ).
          قلت: أهمل سابقٌ وسوابقُ، وبالسٌ وبوالسُ، وداجنٌ ودواجنُ، ذكرَه ابنُ مالكٍ، وفي «شرح اللُّمع» للأصبهانيِّ: ومِنَ الأسماء: غاربٌ وغَواربُ، وكاهلٌ وكواهلُ، وحاجة وحوائجُ، وعائشٌ وعوائشُ للدخان. وقال قَتَادة وغير واحدٍ: الخوالف النِّساء المتخلِّفات، وقيل: أخسأ النَّاس.
          (ص) ({الْخَيْرَاتُ} وَاحِدَتُهَا خَيْرَةٌ وَهِيَ الفَوَاضِلُ) قاله أبو عُبيدٍ وغيره بزيادة الحسان، ({مُرْجَوُنَ} مُؤَخَّرُونَ لِأَمْرِ اللهِ) ليقضيَ فيهم بما هو قاضٍ.
          (ص) (الشَّفَا: شَفِيرٌ وَهُوَ حَدُّهُ، وَالجُرُفُ: مَا تَجَرَّفَ مِنَ السُّيُولِ وَالأَوْدِيَةِ) أي وهو جانبها الَّذِي ينحدر بالماء أصله، فيبقى واهيًا.
          (ص) ({هَارٍ} هَائِرٍ) يريد به أنَه مقلوبٌ مِنْ أهائر.
          (ص) ({لَأَوَّاهٌ} شَفَقًا وَفَرَقًا، قَالَ:
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ                     تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ)
          زاد غيره: المُترحِّم شفقًا وفرقًا، وقيل: أوَّاهٌ دعَّاءٌ، واحتج له بهذا البيت، وقال كعبٌ: إذا ذَكر النَّار تأوَّه. وهذا البيت للمثقِّب العَبْديِّ، واسمه عائِذُ بن مِحْصَن بن ثَعْلبة بن وَاثِلة بن عَديٍّ، قال المَرْزُبانيُّ: وقيل: اسمه شاس بن عائذٍ، وقال أبو عبيدة: اسمه: شاس بن نهار، والأوَّل أثبت، وسُمِّي المثقِّب لقوله:
رَدَدْنَ تَحِيَّةً وَكَنَنَّ أُخْرَى                     وَثَقَّبْنَ الوَصَاوِصَ بالعُيُونِ
          والبيت المنشَد هو مِنْ قصيدةٍ أوَّلُها:
أَفَاطِمُ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتِّعِينيْ                     وَمَنْعُكِ مَا سَأَلْتُ كَأَنْ تَبِينِي
فَلَا تَعِدِي مَوَاعِدَ كَاذِبَاتٍ                     تَمُرُّ بِهَا رِيَاحُ الصَّيْفِ دُونِي
فَإِنِّي لَوْ تُخَالِفُنِي شِمَالِي                     لَمَا أَتْبَعْتُها أَبَدًا يَمِينِي
إِذَنْ لَقَطَعْتُهَا وَلَقُلْتُ: بِيْنِي                     كَذَلِكَ أَجْتَوِي مَنْ يَجْتَوِينِي
          إلى أن قال:
فَسَلِّ الهَمَّ عَنْكَ بِذَاتِ لَوْثٍ                     عُذَافِرةٍ كَمِطْرَقَةِ القُيُونِ
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ                     ............... البيت
          وبعده:
تَقُولُ إِذَا دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي                     أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي
أَكُلَّ الدَّهْرِ حَلٌّ وَارْتِحَالٌ                     فَمَا يُبْقِي عَلَيَّ وَلَا يَقِينِي
          ومِنْ حِكَمِها وآدابِها قولُه:
فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَخِي بِحَقِّ                     فَأَعْرِفَ منك غَثِّي مِنْ سَمِينِي
وَإِلَّا فَاطَّرِحْنِي وَاتَّخِذْنِي                     عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وَتَتَّقِينِي
فَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا                     أُرِيدُ الْخَيْرَ أيُّهُمَا يَلِينِي
ألْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ                     أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي
          (ص) (يُقَالُ: تَهَوَّرَتِ البِئْرُ إِذَا انْهَدَمَتْ، وَانْهَارَتْ مِثْلُهُ)، وقد سلف، يريد أنَّه صيَّرهم النِّفاق إلى النَّار.
          (ص) (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أُذُنٌ} يُصَدِّقُ) قلتُ: فيقبَل كلَّ عذرٍ.
          (ص) ({تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ونَحْوُهَا كثيرٌ، وَالزَّكَاةُ الطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ، {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) قلت: فترفعهم بها مِنْ منازل المنافقين إلى منازل المخلصين، وأصلُها النماءُ والزِّيادة.
          (ص) ({يُضَاهُونَ} يُشَبِّهُوَن) قلتُ: هو أصلها، وقرأ عاصمٌ بالهمز، وهي لغةٌ.
          4654- ثُمَّ ساق حديثَ أَبِي إِسْحَاقَ، عن البَرَاءِ: (آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء:176]، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ).
          هذا سلف في آخر تفسير سورة النِّساء [خ¦4605]، وسلف في تفسير سورة البقرة [خ¦4544] عن ابن عبَّاسٍ: إنَّ آخرَ آيةٍ نزلت آيةُ الرِّبا. وقيل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} [البقرة:281] بعدها، قال الدَّاوُديُّ: ولم يختلفوا أنَّ أوَّل براءة نزلت سنة تسعٍ، لمَّا حجَّ الصِّدِّيق بالنَّاس أُنزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] عامَ حجَّة الوداع، فكيف تكون براءة آخر سورةٍ أنزلت؟ ولعلَّ البراءَ أراد بعضَ براءة. /