التوضيح لشرح الجامع البخاري

سورة {إذا السماء انشقت}

          ░░░84▒▒▒ (سُورَةُ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1])
          هي مكِّيَّةٌ، وتسمَّى سورة الشَّفق.
          (ص) (قَالَ مُجَاهِدٌ: {كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] يَأْخُذُ كِتَابَهُ مِنْ وَرَاءَ ظَهْرِهَ) جزم به الثَّعلبيُّ، ثُمَّ نقل عن مجاهدٍ: يخلع يدَه مِنْ وراء ظهره.
          (ص) ({وَسَقَ} [الانشقاق:17] جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ) يُقَالُ: وَسَقْتُهُ أَسِقُهُ وَسْقًا، ومنه قيل للطَّعام الكثير: وَسْقٌ.
          (ص) ({ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] ألَّا يَرْجِعَ إِلَيْنَا) ومنه قول الأعرابيَّة لابنتها: حُورِيُّ، أي ارجعي.
          4939- ثُمَّ ساق حديثَ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ: (سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تحدِّثُ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم)، وعَنْ أَيُّوبَ: (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم)، وعَنْ يَحْيَى: (عَنْ أَبِي يُونُسَ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ القَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلعم: لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، جَعَلَنِي اللَّه فِدَاءَكَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7-8]؟ قَالَ: ذَاكَ العَرْضُ، وَمَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ هَلَكَ).
          الشَّرح: سقط مِنْ نسخة أبي زيدٍ في السَّند الأوَّل ذكرُ ابن أبي مُلكية، ولا يتسنَّد إلَّا به كما نبَّه عليه الجَيَّانيُّ، وزِيْدَ في الثَّاني: <القَاسِمُ بْنُ مُحمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ>، وهو وهمٌ أيضًا، وإنَّما ذكر القاسم مِنْ رواية أبي يونس، قال الدَّارَقُطْنيُّ: وتابع أيُّوبَ ابنُ جُرَيْجٍ وعثمانُ بن الأسود ومُحمَّد بن سُليمٍ المكِّيُّ وصالحُ بن رستم ورباحُ بن أبي مَعروفٍ والحَرِيْشُ بن الخِرِّيت وحمَّادُ بن يحيى الأَبَحُّ وعبدُ الجبَّار بن الورد، كلُّهم عن ابنِ أبي مُلَيكة عن عائشةَ، قال: وكذلك مروان الفَزَاريُّ عن ابن أبي صَغَيرة عن ابن أبي مُليكة، وخالفَه القَطَّانُ وابنُ المبارك فروياه عن حاتمٍ عن ابن أبي مُلَكية عن القاسم عنها، وقولُهما أصحُّ، لأنَّهما زادا وهما حافظان متقنان، وزيادةُ الحافظ مقبولةٌ.
          قلتُ: ويجوز أن يكونَ سمِعَه مرَّةً منها، كما سلف صريحًا ومرَّةً عن القاسم عنها فرواه بهما، وسلف هذا الحديث في العلم [خ¦103]، مِنْ حديث نافعِ بن عمرَ عن ابن أبي مُلَيكة عنها، ولمَّا ذكره البُخاريُّ في الرِّقاق [خ¦6536] مِنْ حديث عثمان بن الأسود قال: تابعَه ابنُ جُرَيْجٍ ومُحمَّد بن سُلَيمٍ وأيُّوب وصالحُ بن رُسْتم. وادَّعى المزِّيُّ أنَّ المحفوظَ رواية صالحٍ، قلتُ: وله شاهدٌ مِنْ حديث همَّامٍ عن قَتَادة، عن أنسٍ مرفوعًا: ((مَنْ حُوسِبَ عُذِّب)) أخرجه التِّرْمِذيُّ مِنْ حديث قَتَادة وقال: لا نعرفه إلَّا مِنْ هذا الوجه، وأمَّا ما أخرجه اللَّالكائيُّ في «سننه» مِنْ حديث أبي مروان عن هشامٍ عن أبيه عن عائشةَ ♦ قالت: لا يحاسب رجلٌ يوم القيامة إلَّا دخل الجنَّة، ثُمَّ ذكرت الآية، يُقرَأُ عليه عملُه فإذا عرفَه غفر له ذلك لأنَّ اللَّه تعالى يقول: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبه إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرَّحْمن:39]، وأمَّا الكافر فقال: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرَّحْمن:41]، فلا يقاوم حديثُها هذا.
          وقوله: (لِلْكَافِرِ) هذا لا ينافي قوله: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [البقرة:174] فإنَّ المراد: بكلامٍ يحبُّونه وإلَّا فقد قال تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] كما نبَّه عليه ابن جريرٍ.
          وقوله: (ذَلِكَ العَرْضُ يُعرَضُونَ) يريد الحساب المذكور في الآية، وهو عرض أعمال المؤمن، وتوقُّفه عليها تفصيلًا حتَّى يعرف مِنَّة اللَّه تعالى عليه في سترها عليه في الدُّنيا وفي عفوه عنها في الآخرة، وحقيقةُ العرض إدراك الشَّيءِ ليعلم غايتَه وحالَه، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] وقال: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف:48]، ولا يزال الخلق قيامًا في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ ما شاء اللَّه أن يقفوا حتَّى يلهموا أو يهمُّوا بالاستشفاع إلى الأنبياء، وقد ورد في كيفيَّة العرض أحاديث كثيرةٌ، والمعوَّل منها على تسعة أحاديث في تسعة أوقاتٍ، كما نبَّه عليه ابن العربيِّ في «سراجه»:
          أوَّلها: حديثٌ في رؤية الرَّبِّ تعالى في حديث أبي هريرة وأبي سعيدٍ، وفيه: ((أَتاهُم ربُّ العالمين))، ثانيها: حديثُ عائشة السَّالف، ثالثها: حديثُ الحسن عن أبي هريرة مرفوعًا: ((يُعرَض النَّاسُ يومَ القيامة ثلاث عرضاتٍ))، رابعها: حديثُ أنسٍ مرفوعًا: ((يُجاءُ بابن آدمَ يومَ القيامة كأنَّه بَذَجٌ))، خامسها: حديث أبي هريرة وأبي سعيدٍ: ((يؤتى بعبدٍ يومَ القيامة فيُقَالُ له: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا...)) الحديث، سادسها: ثبت مِنْ طرقٍ صحاحٍ أنَّه ◙ قال: ((يؤتى بالعبد يومَ القيامة فيضعُ عليه كنفَه))، سابعها: حديث أبي ذرِّ مرفوعًا: ((إنِّي لأعلمُ آخرَ أهل الجنَّة دخولًا، وآخرَ أهل النَّار خروجًا، رجلًا يؤتى به يوم القيامة فيُقَالُ: اعرضوا عليه صغار ذنوبه...)) الحديث، ثامنها: حديث أنسٍ مرفوعًا: ((يخرج مِنَ النَّار أربعةٌ فيُعرَضون على اللَّه...)) الحديث، تاسعها: العرض على الرَّبِّ جلَّ جلاله، قال: ولا أعلمُ في الحديث إلَّا قولَه: ((حتَّى لم يبقَ إلَّا مَنْ يعبدُ اللَّهَ أتاهم ربُّ العالمين))، وقد سلف.
          قلتُ: وخذِ العرضُ في مواضعَ أخر إن عددت ما نحن فيه مِنْ ذلك:
          أحدها: حديثُ أبي بَرْزة الأسلميِّ في مسلمٍ مرفوعًا: ((لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامة حتَّى يسأل عن أربعٍ...)) الحديث، ثانيها: ((إذا كان يومُ القيامة دعا اللَّه بعبدٍ مِنْ عباده فيسألُه عن جاهِه كما يسأله عن عمله))، ثالثها: حديثُ عَديِّ بن حاتمٍ مرفوعًا: ((ما منكم مِنْ أحدٍ إلَّا سيكلِّمه اللَّهُ ليس بينه وبينه ترجمان...)) الحديث، رابعها: حديثُ البُخاريِّ: ((يُدعَى نوحٌ يومَ القيامة فيقول: لبَّيك ربِّ...)) الحديث، خامسها: حديثُ البطاقة، صحَّحه الحاكم، سادسها: حديثُ الَّذِي أوصى أن تحرقَ عظامُه ويُذرَّ في يوم ريحٍ مخافةَ اللَّه.
          وذِكْرُ عائشة الآية وجهُه أنَّها تمسَّكت بظاهر الحساب لتناوله القليل والكثير، بخلاف لفظ المناقشة، وفيه: تخصيص الكتاب بالسُّنَّة.
          4940- ثُمَّ ذكرَ البخاريُّ أيضًا بإسناده عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَ: هَذَا نَبِيُّكُمْ صلعم).
          وهو مِنْ أفراده، وقال الحاكم فيه أنَّه على شرط الشَّيخين، يُقَالُ: إنَّه فسَّر (لَتَرْكَبَنَّ) بفتح الباء على الخطاب له، وفي لفظٍ: منزلًا بعد منزل، ويُقَالُ: أمرًا بعد أمرٍ، وقال ابن مَسْعودٍ: لتركبنَّ السَّماءُ حالًا، مرَّةً كالدُّهن ومرَّةً كالدِّهان، فتفطر ثُمَّ تنشقُّ، وقال الشَّعْبيُّ: لتركبَنَّ يا مُحمَّدُ سماءً بعد سماءٍ، وقيل: المعنى على مخاطبة الجنس مِنْ صحَّةٍ ومرضٍ وشبابٍ وهرمٍ، ومَنْ قرأ: {لَتَرْكَبُنَّ} بضمِّ الباء، يعني: النَّاس حالًا بعد حالٍ، وقال ابن زيدٍ: الآخرة بعد الأولى، وقيل: الشَّدائدَ والأهوالَ ثُمَّ الموت ثُمَّ البعث ثُمَّ العرض، نُقل عن ابن عبَّاسٍ، وقيل: الرَّخاءَ بعد الشِّدَّة وعكسه، والغنى بعد الفقر وعكسه، والصِّحَّةَ بعد السَّقم وعكسه، قاله الحسن، وقيل: كون الإنسان جنينًا ثُمَّ رضيعًا ثُمَّ فطيمًا ثُمَّ غلامًا ثُمَّ شابًّا ثُمَّ شيخًا، وقيل: ركوب سَنن مَنْ كان قبلكم، وقيل: تغيُّر حال الإنسان في الآخرة.
          وفتحُ / الباء قراءةُ حمزة وابن كثيرٍ والكسائيِّ، والضَّمُّ لنافعٍ وأبي عمرٍو وعاصمٍ، وقرأ ابنُ مَسْعودٍ بالمثنَّاة تحتُ ونصب الباء الموحَّدة، وقرأه أبو المتوكِّل كذلك لكن رَفَعَ الباءَ.