شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الذكر بعد الصلاة

          ░155▒ باب: الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاةِ.
          فيه: ابْن عَبَّاسٍ قال: (كان رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، على عَهْدِ رسول الله صلعم، وَقَالَ(1) ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ). [خ¦841]
          وقَالَ ابْن عَبَّاسٍ مرَّة: (كُنْتُ أَعْلم(2) انْقِضَاءَ صَلاةِ النبي صلعم بِالتَّكْبِيرِ). [خ¦842]
          وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: (جَاءَ الْفُقَرَاءُ إلى رسول الله صلعم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلُ أَمْوَالٍ(3) يَحُجُّونَ بِهَا، وَيُجَاهِدُونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: أَلا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ(4) أَحَدٌ إلا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ، تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ). [خ¦843]
          وفيه: الْمُغِيرَة: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم، كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ(5): لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ(6) لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ). [خ¦844]
          قال(7) الطبريُّ:(8) حديث(9) ابن عباس الدلالة(10) على(11) صحِّة فعل من كان من الأمراء والولاة يُكبِّر بعد فراغِه من صلاة المكتوبة في جماعة ويُكبِّر من وراءَه من المصلين بصلاتِه.
          قال المؤلف: / ولم أجد من الفقهاء من يقول بشيء من هذا الحديث إلا ما ذكرَه(12) ابن حبيب في «الواضحة» قال: يُستحبُّ التكبير في العساكر والثغور(13) بأثر صلاة الصبح والعشاء تكبيرًا عاليًا ثلاث مرات، وهو قديم من شأن الناس. وروى ابن القاسم عن مالك في «العتبية» قال: التكبير خلف الصلوات الخمس بأرض العدو محدث أحدثَه(14) المسودة، وكذلك في دبر الصبح والمغرب في بعض البلدان. وقول ابن عباس: إنَّ رفع الصوت بالذكر كان حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد النبي صلعم يدل أنه لم يكن يفعل ذلك الصحابة ُحين حدَّث ابن عباس بهذا الحديث، إذ لو كان يُفعل ذلك الوقت لم يكن لقولِه: كان يُفعل على عهد النبي صلعم معنًى، وهذا كما كان أبو هريرة يُكبِّر عند(15) كل خفض ورفع يقول(16): أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلعم، فكان التكبير بأثر الصلوات مثل هذا مما لم يواظب النبي صلعم عليه طول حياتِه، وفهم أصحابُه أن ذلك ليس بلازم فتركوه خشية أن يظنَّ من قصر علمُه أنه ممَّا لا تتم الصلاة إلا به، فلذلك كرهه من الفقهاء من كرهَه _والله أعلم_ وقد رُوي عن عبيدة(17) أن ذلك بدعة. وفي حديث أبي هريرة وحديث المغيرة فضل الذكر بعد الصلاة، وأن ذلك من رغائب الخير وسبيل(18) الصالحين، وسأزيد هذا المعنى بيانًا، وأبيِّن هل الذكر بعد الصلاة أفضل أم قراءة القرآن؟ في كتاب الدعاء في باب الدعاء بعد الصلاة، إن شاء الله تعالى.
          قال المُهَلَّب: في(19) حديث أبي هريرة فضل الغنى نصًّا لا تأويلًا إذا استوت أعمالهم بما افترض الله ╡ عليهم، فلِلْغنيِّ(20) حينئذ فضل أعمال البر من الصدقة وإحياء الأرماق، وإعانة ابن السبيل و(21) فكِّ الأسير والجهاد وشبه ذلك، مما لا سبيل للفقراء(22) إليها ولا قدرة لهم(23) عليها، فبهذا يفضل الغني الفقير(24)، وإنما يفضل الفقير الغني(25) إذا فضلَ صاحبَه بالعمل، وسيأتي تمام القول في ذلك في كتاب الرقائق، إن شاء الله تعالى.
          وفيه: أن العالم إذا سُئل عن مسألة يقع فيها الخلاف بين الأمة أن يجيب بما يُلحق به المفضول بدرجة(26) الفاضل، ولا يجيبُه(27) بنفس التفاضل(28) خوف وقوع الخلاف(29).
          وفي «الموطأ»: عن عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة زيادة في حديثِه المذكور في هذا الباب وهو أنه قال: ((من سبَّح دُبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر ثلاثًا وثلاثين، وحمِد ثلاثًا وثلاثين، وختم المائة بلا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلٍّ شيءٍ قدير، غُفرت ذنوبُه ولو كانت مثل زبد البحر)).
          وقوله: (وَلا يَنْفَعُ ذَا(30) الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ)، قال ابن السَّكيت(31): الجَدُّ _بفتح الجيم(32)_ الحظ والبخت، أي: من كان له جدٌّ(33) في الدنيا لم ينفع ذلك عند الله(34) في الآخرة، وكذلك فسرَّه أبو عبيد وجميع أهل اللغة، وسأذكر قول الطبريِّ في هذه الكلمة في باب(35) القدر في باب لا مانع لما أعطى(36) الله ╡ إن شاء الله.


[1] في (م) و(ق): ((قال)).
[2] في (م): ((أعرف)).
[3] في (م) و(ق): ((من الأموال)).
[4] في (ق): ((يدركهم)).
[5] زاد في (م) و(ق): ((مكتوبة)).
[6] في (م): ((معطٍ)).
[7] في (م): ((وقال)).
[8] زاد في (م): ((في)).
[9] زاد في (ص): ((من)).
[10] في (ص): ((بالدلالة)).
[11] في (م): ((ابن عباس فيه الإنابة عن))، و في (م): ((قال الطبري وحديث ابن عباس فيه الإبانة عن)).
[12] في (م): ((ذكر)).
[13] في (م): ((والبعوث)).
[14] في (م): ((أحدثته)).
[15] في (م) و(ق): ((في)).
[16] في (م): ((ويقول)).
[17] في (ق): ((غيره)).
[18] في (م): ((وسبل)).
[19] في (م): ((وفي)).
[20] في (ص): ((فالغني)).
[21] في (ص): ((أو)).
[22] في (ق): ((للفقير)).
[23] في (م) و(ق): ((له)).
[24] في (م): ((يفضل الغنا الفقر)).
[25] في (م): ((يفضل الفقر الغنا)).
[26] في (ص): ((درجة)).
[27] في (م) و(ق): ((يجيب)).
[28] في (ص): ((الفاضل)).
[29] زاد في (ق): ((بين الأمة)).
[30] زاد في (ق): ((ذلك)).
[31] في (ص): ((السماك)).
[32] قوله: ((بفتح الجيم)) ليس في (م) و(ق).
[33] في (م) و(ق): ((حظ)).
[34] في (م) و(ق): ((لم ينفعه ذلك عندك)).
[35] في (م): ((كتاب)).
[36] في (ق): ((في باب ما أعطى)).