شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار

          ░21▒ باب: مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، قَالَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَنِ النبي صلعم.
          فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبيُّ صلعم: (إِذَا سَمِعْتُمُ الإقَامَةَ، فَامْشُوا إلى الصَّلاةِ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَة وَالْوَقَار وَلا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا). [خ¦636]
          قال المُهَلَّب: / يعني(1) أمره صلعم بالسكينة في السعي إلى الصلاة _والله أعلم_ لئلا يَبهَر الإنسان نفسَه، فلا يتمكن من ترتيل القرآن، ولا من الوقار اللازم له في الخشوع. وقولُه صلعم: ((إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة))، يردُّ ما فعلَه ابن عمر من إسراعِه إلى الصلاة حين سمع الإقامة، ويُبيّن أنَّ الحديث على العموم، وأنَّ السكينة تَلزم من سمع الإقامة، كما تَلزم من كان في سعة من الوقت.
          وقوله صلعم: (ما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمُّوا)، فيه حجَّة لمن قال: إنَّ ما أدرك المأموم من صلاة الإمام، فهو أول صلاتِه، وقد اختلف العلماء في ذلك، ففي «المدونة» عن مالك، أنَّ ما أدرك فهو أول صلاتِه، إلا أنَّه يقضي مثل الذي فاتَه من القراءة بأمِّ القرآن وسورة، ورواه ابن نافع عن مالك، وقال سحنون في العتبية: هذا الذي لم نعرف خلافه(2)، وهو قول مالك أخبرني به غير واحد، وهو قول سعيد بن المسيِّب والحسن البصريِّ ومكحول وعطاء والزهريِّ والأوزاعيِّ والشافعيِّ وأحمد، وقالت طائفة: ما أدرك مع الإمام فهو آخر صلاتِه والذي يقضيه أول صلاتِه، رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر والنخعيِّ والشَّعبيِّ وابن سيرين وأبي قِلابة، ورواه عيسى عن ابن القاسم عن مالك في «العتبية»، ورواه أشهب عنه، وهو قول أشهب وابن الماجشون، واختارَه(3) ابن حبيب وقال: الذي يقضي هو(4) أولها لأنَّه لا يستطيع أن يخالف إمامَه فتكون له أُولى وللإمام ثانية أو ثالثة(5). وحكى الطحاويُّ عن أبي حنيفة أنَّ الذي يدرك مع الإمام هو آخر صلاتِه وهو عندَه(6) قول الثوريِّ، وحجَّة هذا القول رواية من روى(7) هذا الحديث: وما فاتكم فاقضوا(8)، والقضاء لا يكون إلَّا لفائت، ومعلوم أنَّ الفائت من صلاة المأموم ما سبقَه به إمامُه، وفي إجماعهم أنَّه يقضي بقيةَ صلاتِه كما وردت السنَّة دليل على أنَّ الذي يقضيه فائت، وأنَّ الذي صلَّى(9) مع الإمام ليس هو الفائت. فإن قيل: فلمَ تأمرُه إذا قضى الفائت بالتشهد وقد فعلَه قبل ذلك عندك في موضعِه. قيل: لأنَّه لم يفعل التسليم، ومن سنَّة التسليم أن يكون عقيب التشهد، وحجَّة القول الأول قولُه ◙: ((وما فاتكم فأتمُّوا))، والتمام لا يكون إلا للآخر(10)، ومستحيل أن يكون ما(11) أدرك آخر صلاتِه، فيعمله(12) أولًا لأنَّه لا يكون آخرًا إلَّا وقد تقدَّمه أول.
          فإن قال قائل: كيف يصح في قول مالك أن يكون ما أدرك أول صلاتِه، ولا خلاف عنه(13) أنَّه من أدرك مع الإمام ركعتين أنَّه يقرأ فيهما كما يقرأ الإمام(14) بأمِّ القرآن في كلِّ ركعة، فإذا سلَّم(15) قام فقرأ فيما يقضي: بالحمد وسورة في كلِّ ركعة؟. قيل: جواب هذا السؤال(16) اتفاق الجميع على أنَّ الإحرام لا يكون إلَّا في أوِّل الصلاة، والتشهد والسلام لا يكون إلَّا في آخرها، فكان ما أدرك(17) أول صلاتِه. وجوابٌ آخر وهو قولُه ◙: ((وما فاتكم فاقضوا)) وذلك أنَّ الذي فاتَه هو الذي فعلَه إمامه، وهي(18) قراءة أمِّ القرآن وسورة في كلِّ ركعة، فوجب عليه قضاء مثلِه، وهذا المعنى بعينِه يقتضي قولَه صلعم: ((وما فاتكم فأتموا)) لأنَّ التمام في اللغة إتمام(19) شيء ناقصٍ تقدَّمَه، ولا يكون تمامًا لشيء حتَّى يُؤتى بكلِّ ما نقص منه، وقد فسَّر أهل اللغة القضاء(20) على غير(21) ما احتجَّ به الفقهاء، وقالوا: القضاء يكون لغير فائت، قال صاحب «الأفعال»: قضى الشيء صنعه، قال الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}[فصلت:12]، أي: صنعهنَّ، وقال تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ}[طه:72]، أي: اصنع ما أنت صانع، قال أبو ذُؤَيب:
وَعَلَيْهِمَـا مَسْرُوْدَتَـانِ قَضَاهُمَا                     دَاوُدُ أَوْ صُنْـعَ السَّوابِغ تُبَّعُ
          أي: صنعهما داود، قال: ويُقال: قضيت الحقَّ خرجت منه، وقضيت العمل والأمر فرغتُ منهما، قال الله ╡: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}[الجمعة:10]، وهذا كلُّه يدلُّ على صحة قول من قال: إنَّ ما أدرك فهو أول صلاتِه. وفي المسألة قول ثالث قالَه المزنيُّ وإسحاق(22) وأهل الظاهر قالوا: ما أدرك فهو أول صلاتِه إلَّا أنَّه يقرأ فيهما(23) بالحمد وسورة مع الإمام، وإذا قام للقضاء قضى بالحمد وحدها فيما يقضي لنفسِه، لأنَّه آخر صلاتِه، فهؤلاء طَردوا قولهم على أصولهم إلَّا أنَّه(24) لا سلف لهم فيه(25)، فلا معنى له.


[1] في (م) و(ق) و(ص): ((معنى)).
[2] قوله: ((من القراءة بأمَّ القرآن وسورة، ورواه ابن نافع، عن مالك، وقال سحنون في العتبية: هذا الذي لم نعرف خلافه)) ليس في (م).
[3] في (م): ((واختار)).
[4] في (م): ((هذا)).
[5] في (م): ((وثالثة)).
[6] قوله: ((عنده)) ليس في (م) و(ق).
[7] زاد في (م) و(ق): ((في)).
[8] زاد في (م): ((قالوا)).
[9] في (ق): ((يصلى)).
[10] في (م) و(ق): ((الآخر)).
[11] في (م) و(ق): ((الذي أدرك)).
[12] في (ص): ((فعمله)).
[13] في (ص): ((عنده)).
[14] في (م) و(ق): ((إمامه)).
[15] زاد في (ق): ((الإمام)).
[16] في (م) و(ق): ((القول)).
[17] في (م) و(ق): ((أدركه)).
[18] في (م) و(ق) و(ص): ((وهو)).
[19] في (م) و(ق): ((إكمال)).
[20] قوله: ((القضاء)) ليس في (ق).
[21] قوله: ((غير)) ليس في (ص).
[22] في (م)و(ق): ((قاله إسحاق والمزني)).
[23] في (م)و(ق): ((فيه)).
[24] في (م)و(ق): ((أنهم)).
[25] قوله: ((فيه)) ليس في (ق).