شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: من استوى قاعدًا في وتر من صلاته ثم نهض

          ░142▒ باب: مَنِ اسْتَوَى قَاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاة(1) ثُمَّ نَهَضَ.
          فيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: (أَنَّهُ رَأى النَّبِيَّ صلعم يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالسًا(2)). [خ¦823]
          ذهب جمهور العلماء إلى ترك الأخذ بهذا الحديث، وقالوا: إذا رفع رأسه من السجدة الآخرة من الركعة الأولى والركعة الثالثة(3) ينهض على صدور قدميه ولا يجلس، رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وقال النعمان بن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلعم إذا رفع رأسَه من السجدة في الركعة الأولى والثالثة قام كما هو ولم يجلس، وكان النَّخَعِي يُسرع في القيام في ذلك.
          وقال الزهريُّ: كان أشياخنا يقولون(4) ذلك. وقال أبو الزناد: تلك(5) السنَّة، وبه قال مالك والثوريُّ والكوفيون(6) وأحمد وإسحاق، وقال(7) ابن حنبل: أكثر الأحاديث على هذا، وذكره عن عمر(8) وعليٍّ وعبدالله. وذهب الشافعيُّ إلى الأخذ بهذا الحديث فقال: يقعد في وتر من صلاتِه ثم ينهض.
          قال الطحاويُّ: وحجَّة(9) الجماعة على الشافعيِّ ما حدَّثنا عليٌّ بن سعيد بن بشرٍ قال: حدثنا(10) أبو هَمَّام الوليد بن شجاع، حدثنا أبي، حدَّثنا أبو خيثمة، حدَّثنا حسن بن الحُرِّ(11)، حدَّثني عيسى بن عبدالله بن مالك عن محمَّد بن عَمْرو بن عطاء عن ابن عبَّاس أن سهلًا(12) الساعديِّ: كان(13) في مجلسٍ فيه أبوه _وكان من أصحاب النبي صلعم_ وفي المجلس أبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد الساعديِّ والأنصار، وإنهم(14) تذاكروا الصلاة، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلعم قالوا: فأرنا، فقام يصلِّي(15)،(16) فكبَّر ورفع يديه في أوَّل / التكبير، ثم ذكر حديثًا طويلًا فيه أنَّه لما رفع رأسَه من السجدة الثانية في(17) الركعة الأولى قام ولم يتورَّك.
          فلمَّا جاء هذا الحديث كما ذكرنا وخالف حديث مالك بن الحويرث احتمل أن يكون ما فعلَه رسول الله صلعم فيه لعلَّةٍ كانت به(18) فقعد من أجلها(19)، لا لأنَّ(20) ذلك من سنَّة الصلاة، كما(21) كان ابن عمر يتربَّع في الصلاة، فلما سُئل عن ذلك قال: إنَّ رجلاي(22) لا تحملاني، فكذلك احتمل أن يكون ما فعلَه رسول الله صلعم من القعود كان لعلَّةٍ أصابتْه حتَّى لا يُضادَّ حديث مالك ابن الحويرث، وهذا أولى بنا من حمل ما روي عنه على التنافي(23) والتضاد.
          وحديث أبي حميد أيضًا حكاه بحضرة جماعة من أصحاب النبي صلعم فلم ينكر عليه ذلك أحد(24) منهم، فدلَّ أنَّ ما عندهم في ذلك غير مخالف لما حكاه لهم، في(25) حديث مالك ابن الحويرث من قول أيوب أنَّ ما كان عَمْرو بن سلمة يفعلُه من ذلك لم يرَ الناس يفعلونَه، وهو قد رأى جماعة من جلَّة(26) التابعين، فذلك حجَّة في دفع حديث مالك بن الحويرث أن تكون سنَّة(27).
          ثمَّ النظر يوافق ما رواه(28) أبو حميد، وذلك أنَّا رأينا الرجل إذا خرج في صلاتِه من حالٍ إلى حالٍ استأنف ذِكرًا، من ذلك أنَّا رأيناه إذا أراد الركوع كبَّر وخرَّ راكعًا، وإذا رفع رأسَه من الركوع قال: سمع الله لمن حمدَه، وإذا خرَّ من القيام إلى السجود قال: الله أكبر، وإذا رفع رأسَه من السجود قال: الله أكبر، وإذا عاد إلى السجود فعل ذلك أيضًا، وإذا رفع رأسَه لم يكبِّر من بعد رفعِه رأسَه إلى أن يستوي قائمًا غير تكبيرة واحدة، فدلَّ ذلك أنَّه ليس بين سجودِه وقيامِه جلوسٌ، ولو كان بينهما جلوس لاحتاج إلى(29) أن يكون(30) يكبِّر(31) بعد رفعِه رأسَه من السجود للدخول في ذلك الجلوس، ولاحتاج إلى تكبيرة أخرى إذا نهض للقيام، فلما لم يُؤمر بذلك، ثبت أن لا قعود بين الرفع من السجدة الآخرة(32) والقيام إلى الركعة التي بعدها ليكون ذلك وحكمَ سائر الصلاة مؤتلفًا غير مختلف.


[1] في (م) و(ق): ((صلاته)).
[2] في (م) و(ق): ((قاعدًا)).
[3] في (م): ((الثانية)).
[4] في (ق): ((يفعلون)).
[5] في (ص): ((بذلك)).
[6] في (م): ((والكوفيين)).
[7] زاد في (م) و(ق): ((أحمد)).
[8] في (م) و(ص): ((وذكر عن عمر))، و في (ق): ((وذكر عمر)).
[9] في (م): ((ومن حجة)).
[10] في (م) و(ق): ((بن بشير، حدثنا)).
[11] في (م): ((الحسن بن الحسن)).
[12] في (م) و(ق): ((عم عباس بن سهل))، وفي باقي النسخ: ((سهل)).
[13] في (م) لعلها: ((وكان)).
[14] في (م) و(ق): ((إنهم)).
[15] في (ق): ((فصلى)).
[16] في (ص): ((فقام)).
[17] في (م) و(ق): ((من)).
[18] قوله: ((به)) ليس في (ق).
[19] في (ص): ((لأجلها)).
[20] في (ص): ((أنَّ)).
[21] زاد في (م): ((قد)).
[22] في (ق): ((رجليّ)).
[23] في (م) و(ق): ((من حمل الآثار على التنافي)).
[24] في (م): ((فلم ينكره عليه أحد))، و في (ق): ((فلم ينكر ذلك عليه أحد)).
[25] في (م) و(ق): ((وفي)).
[26] في (م): ((جملة)).
[27] قوله: ((أن تكون سنة)) ليس في (ص).
[28] في (م) و(ق): ((روى)).
[29] قوله: ((إلى)) ليس في (م) و(ق).
[30] قوله: ((يكون)) ليس في (م) و(ق).
[31] زاد في (م) و(ق): ((تكبيرة)).
[32] في (م) و(ق): ((الأخيرة)).