شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يقول بعد التكبير

          ░89▒ باب: مَا يَقُرأ بَعْدَ التَّكْبِيرِ.
          فيه: أَنَس: (أَنَّ النبيَّ صلعم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاة بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]). [خ¦743]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَ النبي صلعم كان يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ والْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً _قَالَ: أَحْسِبُهُ، قَالَ: هُنَيَّةً_ فَقُلْتُ: بِأَبِي أنت وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبين(1) الْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ(2)). [خ¦744]
          قال المؤلف: حديث أنس حجَّة لمن قال: لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في صلاةٍ(3) في أول فاتحة الكتاب، وهو قول مالكٍ والأوزاعيِّ. وقال ابن أبي(4) ليلى وأبو حنيفة وأصحابُه والثوريُّ والشافعيُّ وأحمد وإسحاق، وأبو ثور: هي آية مِن فاتحة الكتاب. ومِن حجَّة أهل المقالة الأولى(5): أنَّ الطريق إلى إثبات آية مِن السورة كالطريق إلى إثبات السورة نفسها(6)، وقد حصل لنا العلم الضروريِّ بنقل الكافَّة أنَّ الحمد(7) سورة مِن القرآن ولم يقع لنا العلم الضروريُّ أنَّ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ آية منها، فلا يجوز إثبات قرآن إلَّا بنقل الكافَّة، ووجدنا أهل المدينة بأسرهم ينفون كونها مِن فاتحة الكتاب مع اتِّصال القارئ(8) بقراءتها في كلِّ صلاة، وسائر(9) الأئمَّة على إقامة الصَّلوات مِن لدن رسول الله صلعم إلى وقتنا هذا وليس هذا ممَّا يُنسى أو يقع فيه قلَّة ضبط؛ لأنَّ هذا أشهر مِن الأجناس وزكاة الخُضر والمُدِّ والصَّاع الذي يحتجُّ به مخالفنا في هذه المسألة على مخالفتِه، ألا ترى قول أنس أنَّ النبي صلعم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصَّلاة بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، وقولَه: ِّنبي صص لماء والبردمَا تَقُولُ كانوا يفتتحون إخبار عن فعل دائم، وقد قال عروة بن الزبير وعبد الرحمن الأعرج: أدركنا الأئمَّة وما يستفتحون(10) الصَّلاة إلَّا بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
          قال الطَّحاوي: وقد رأيناها مكتوبة في فواتح السور في فاتحة الكتاب وفي غيرها وكانت(11) غير فاتحة الكتاب ليست بآية، ثبت أنَّمن ها أيضًا في فاتحة الكتاب(12) ليست بآية.
          وأمَّا حديث(13) السكتة في حديث أبي هريرة، فإنَّ الأوزاعيَّ والشافعيَّ وأحمد بن حنبل يقولون بها، وقال الشافعيُّ: أحبُّ للإمام أن يكون له سكتة بين التكبير والقراءة، ليقرأ فيها المأموم بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وقال مالك والكوفيون: لا شيء بعد التكبير إلَّا قراءة فاتحة الكتاب، وحديث أبي هريرة يردُّ العلَّة التي علَّل بها الشافعيُّ هذه السكتة، لأنَّ أبا هريرة سأل النبي صلعم عنها فقال: أقول(14): ((اللَّهُمَّ باعد بيني وبين خطاياي))، الحديثَ، ولو كانت ليقرأ مَن وراءَ الإمام فيها لقال(15) صلعم: إنِّي أسكت لكي يقرأ مَن ورائي: {الحمد لله رب العالمين}، فبيَّن صلعم أنَّ السكتة لغير ما قال الشافعيُّ، واستحبَّ أبو حنيفة ومحمَّد أن يُسبِّح بعد التكبير، وقال أبو يوسف: يُسبِّح ويقول: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حنيفًا}[الأنعام:79]الآية، وقال الشافعيُّ: يقول(16): وجهت وجهي ولا يُسبِّح.
          وقال مالك: إنَّما يجب التكبير، ثمَّ القراءة(17) ولو كانت / هذه الإسكاتة ممَّا واظب عليها النبيُّ صلعم لم يَخفَ ذلك، ولنقلها أهل المدينة عيانًا وعملًا، فيُحتمل أن يكون صلعم، فعلَها في وقت ثمَّ تركها تخفيفًا عن أمته، فتركها واسع(18). والهُنَيَّة(19): كلُّ(20) شيءٍ صغير ندر مِن شيء، قال الفسويُّ: يُقال: هَنَ يهن(21) مِن الدهر وهنني(22) هنة(23).
          وقوله: (هُنَيَّةً مِنَ الدَّهْرِ) مصروف إلى هنني(24).
          وقال ثعلبٌ: هنية، قال: وهو الأكثر في كلامهم؛ لأنَّهم يؤنثَ ◙، لم ون هذا الحدَّ، فيقولون: مضتْ برهة من الدهر وحقبة، قال الفسويُّ: وقد يجوز أن يكون هنيهة(25)، والأجود هنيئة(26)، فأمَّا هنيئة فبالهمز(27).


[1] قوله: ((بين)) ليس في (ق) و(م).
[2] في(م): ((بالثلج والماء والبرد)).
[3] في(م) و(ق): ((الصلاة)).
[4] قوله: ((أبي)) ليس في (ز) وهي مثبتة من باقي النسخ.
[5] زاد في(م) و(ق): ((أيضًا)).
[6] في (ص): ((بعينها)).
[7] في(م) و(ق): ((الحمد لله)).
[8] في(م) و(ق) تحتمل: ((الناوي)).
[9] في(م) و(ق): ((ومثابرة)).
[10] في(م) و(ص): ((يفتتحون)).
[11] زاد في(م): ((من))، و زاد في (ق) و(ص): ((في)).
[12] قوله: ((وفي غيرها وكانت في غير فاتحة الكتاب ليست بآية، فثبت أنَّها أيضًا في فاتحة الكتاب)) ليس في (ق).
[13] قوله: ((حديث)) ليس في (م) و(ق).
[14] زاد في(م) و(ق): ((فيها)).
[15] في(م) و(ق): ((ليقرأ المأموم فيه لقال)).
[16] في(م) و(ق): ((يقرأ)).
[17] زاد في(م) و(ق): ((قال المؤلف)).
[18] في(ق): ((واسعة)).
[19] في(م) و(ق): ((والهنة)).
[20] قوله: ((كل)) ليس في (م).
[21] في(م): ((يقال: من هن))، و في (ق): ((مرَّ هنئ)).
[22] في(ق): ((وهني)).
[23] في(م) و(ق): ((وهنة)).
[24] في(ق): ((هني)).
[25] في (ص): ((هنية)).
[26] في (ق): ((هنية)) و زاد في(م) و(ق): ((من باب هني وهنيهة من باب هنه وهنه كثير)).
[27] زاد في(م) و(ق): ((مما لم يسمعه)).