شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة

          ░38▒ باب إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا صَلاةَ إِلا الْمَكْتُوبَةَ.
          فيه عَبْد اللهِ بْن بُحَيْنَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم رَأى رَجُلًا من الأزد، وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ يُصَلِّي(1) رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ(2) صلعم لاثَ بِهِ(3) النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: الصُّبْحَ أَرْبَعًا، الصُّبْحَ أَرْبَعًا). [خ¦663]
          اختلف الناس(4) في تأويل هذا الحديث، فكرهت طائفة للرَّجل أن يركع ركعتي الفجر في المسجد والإمام في صلاة الفجر، واحتجّوا بهذا الحديث، رُوي هذا عن سعيد بن جبير وعروة بن الزبير وابن سيرين، وهو قول الشافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وقالت طائفة: لا بأس أن يصليها خارج المسجد ما تيقن أنَّه يدرك الركعة الأخيرة مع الإمام، هذا قول أبي حنيفة وأصحابِه والأوزاعيِّ، إلَّا أنَّ الأوزاعيَّ أجاز أن يركعهما(5) في المسجد.
          وقال الثوريُّ: إن خشي فوت ركعة دخل معَه(6) ولم يصلِّهما، وإلَّا صلَّاهما في المسجد. وقال مالك: إن خشي أن(7) تفوتَه الركعة الأولى فلا يصليهما(8) وليدخل مع الإمام، كقول الثوريِّ، إلَّا أنَّه قال: وإن(9) لم يخفْ فوت ركعة فليركعهما خارج المسجد في غير أفنيتِه اللاصقة به. وحجَّة من أجاز أن يصليهما في المسجد ما رُوي عن ابن مسعود أنَّه دخل المسجد وقد أُقيمت الصلاة فصلَّى إلى أسطوانةٍ في المسجد ركعتي الفجر، وذلك بمحضر حذيفة وأبي موسى، ورُوي مثلُه عن عُمَر بن الخطاب وأبي الدرداء وابن عباس، ذكرَه الطحاويُّ. وحجَّة من قال: يُصلي خارج المسجد(10) ما رُوي عن ابن عمر أنَّه صلاهما قبل أن يدخل في المسجد(11) في الطريق، ثمَّ دخل المسجد فصلى الصبح مع الناس. وأمَّا حجة(12) أهل المقالة الأولى من طريق النظر فقالوا: تشاغلُه بالفريضة أولى من تشاغلِه بالتطوع.
          واحتجَّ الآخرون فقالوا: قد أجمعوا أنَّه لو كان في منزلِه، فعلم دخول الإمام في صلاة الفجر(13) أنَّه ينبغي له أن يركع ركعتي الفجر ما لم يخفْ فوت صلاة الإمام، ولم يجعلوا تشاغلَه بالسعي إلى الفريضة أفضل من تشاغلِه بهما في منزلِه.
          قال الطحاويُّ: وقد(14) رُوي أنَّ النبيَّ صلعم مرَّ بابن بُحَيْنَة وهو يُصلي بين يدي نداء الصبح فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة الظهر وبعدها، / واجعلوا بينهما فصلًا، فأبان(15) في هذا الحديث أنَّ الذي كرهَه رسول الله صلعم لابن بُحَيْنَة هو وصلُه إياها بالفريضة في مكان واحدٍ دون أن يفصل بينهما بشيء ليس(16) لأنَّه كَرِه له أن يصليهما في المسجد، فإذا فرغ(17) منهما تقدَّم إلى الصفوف فصلى الفريضة مع الناس، وقد رُوي مثل هذا المعنى في غير هذا الحديث. روى ابن جُريج(18) عن عُمَر بن عطاء أنَّ نافع بن جبير أرسلَه إلى السائب بن يزيد يسألُه: ماذا سمع من معاوية في الصلاة بعد الجمعة؟ فقال: صليت معَه في المقصورة(19)، فلمَّا فرغتُ قمتُ لأتطوَّع فأخذ بثوبي فقال: لا تفعل حتَّى تَقدَّمَ أو تَكلَّم فإنَّ رسول الله صلعم كان يأمر بذلك. ولم يختلفوا أنَّه من لم يُصل العشاء فدخل في(20) المسجد فوجدهم في الإشفاع أنه جائز أن يصلي العشاء ناحيةً من المسجد بحيث يأمن تخليط الإمام عليه(21).وقال الطحاوي(22): يحتمل(23) أن يكون النهي في قولِه: (الصُّبْحَ أَرْبَعًا) لأنَّه جمع بين الصلاتين من الفرض والنفل في مكان(24) واحد، كما نهى من صلَّى الجمعة أن يصليَ بعدها تطوعًا في مقام(25) واحدٍ حتى يتكلم أو يتقدم(26).
          وأمَّا قولُه في الترجمة: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا صَلاةَ إِلا الْمَكْتُوبَةَ)، فقد روي هذا اللفظ عن النبيِّ صلعم رواه أبو(27) عاصم عن زكريا بن إسحاق عن عَمْرو بن دينار عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة عن النبيِّ صلعم(28) إلَّا أنَّ ابن عيينة وحمَّاد بن زيد(29) وحمَّاد بن سلمة أوقفوه على أبي هريرة، فلذلك تركَه البخاريُّ.
          وأجمعوا أنَّ من عليه صلاة الظهر فدخل في المسجد ليصليها(30) فأُقيمت عليه(31) العصر، أنَّه لا يقطع صلاتَه ويُكملها. قال مالك: ومن أحرم بفريضةٍ(32) في المسجد فأُقيمت عليه تلك الفريضة، فإن لم يركع قطع بسلام ودخل مع الإمام، وإن ركع(33) صلَّى ثانيةً وسلَّم ودخل معَه، وإن صلى ثالثةً صلَّى رابعةً ولا يجعلها نافلةً ويسلم ويدخل معَه، وإن كانت المغرب قطع ودخل مع الإمام عقد ركعةً أم لا، وإن صلَّى اثنتين أتمَّهما(34) ثلاثًا وخرج، فهذا يدلُّ أنَّ حديث مالك المرسل عن أبي سلمة أنَّ النبي صلعم قال: ((أصلاتان معًا؟!)) إنَّما هو عندي(35) فيمن اشتغل بنافلةٍ عن فريضةٍ، ولو كان فيمن(36) اشتغل بفريضة لأمرَهُ بقطع الصلاة ولو كان في الرابعة أو الثالثة من المغرب.
          قال الخطابيُّ: وقولُه(37): (لَاثَ بِهِ النَّاسُ)، معناه: أحاطوا به، واجتمعوا عليه، وكلُّ(38) شيء اجتمع والتبس(39) بعضُه ببعض فهو لائث(40)، فقلب كما قال الله ╡: {على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}[التوبة:109]أي هائر. وقال صاحب «الأفعال»: لاث الشجر والنبات التفَّ بعضُه ببعضٍ(41)، لاث بغيرِه كذلك، ومنه: لاث الإزار والعمامة إذا ردَّ بعضها(42) على بعض.


[1] في (ص): ((فصلى)).
[2] قوله: ((رسول الله)) ليس في (م) و(ق).
[3] في (م): ((له)).
[4] في (م) و(ق): ((العلماء)).
[5] في (م) و(ق): ((والأوزاعي إلا انه قال لا بأس أن يركعهما)).
[6] في (م) و(ق): ((معهم)).
[7] قوله: ((أن)) ليس في (م) و(ق).
[8] في (م) تحتمل: ((يصليها))، و في (ق): ((يصلها)).
[9] في (م) و(ق): ((فإن)).
[10] قوله: ((خارج المسجد)) ليس في (ص).
[11] في (م): ((أنه صلاهما خارج المسجد)).
[12] في (ص): ((وأما طريق)).
[13] في (م): ((الإمام في الصلاة المكتوبة))، و في (ق): ((في صلاة المكتوبة)).
[14] في (ق): ((قد)).
[15] في (م) و(ق): ((فبان)).
[16] في (ز) و(ص): ((يسير))، و في (ق): ((بينهما شيء ليس)).
[17] في (م): ((المسجد إذا كان قد))، و في (ق): ((المسجد إذا كان إذا فرغ)).
[18] في (ق): ((جرير)).
[19] زاد في (م) و(ق) و(ص): ((الجمعة)).
[20] قوله: ((في)) ليس في (م) و(ق).
[21] في (م) و(ق): ((ولم يختلفوا أنَّه من لم يُصل العشاء فدخل المسجد فوجدهم في الإشفاع أنَّه جائز أن يصلي العشاء ناحيةً من المسجد بحيث يأمن تخليط الإمام عليه)) جاء بعد قوله: ((كما نهى من صلَّى الجمعة أن يصليَ بعدها تطوعًا في مكان واحدٍ حتى يتقدم أو يتكلم)).
[22] قوله: ((وقال الطحاوي)) ليس في (م) و(ق).
[23] في (م) و(ق): ((فاحتمل)).
[24] في (ق): ((موضع)).
[25] في (م) و(ص): ((مكان)).
[26] في (م) و(ق): ((حتى يتقدم أو يتكلم)).
[27] في (ص): ((ابن)).
[28] قوله ((رواه أبو عاصم، عن زكريا بن إسحاق، عن عَمْرو بن دينار،... عن النبيِّ صلعم)) ليس في (ق).
[29] قوله: ((وحماد بن زيد)) ليس في (ق).
[30] في (م) و(ق): ((يصليها)).
[31] زاد في (م) و(ق): ((صلاة)).
[32] في (م): ((للفريضة)).
[33] في (ص): ((وإن كان)).
[34] في (م): ((أتمها)).
[35] في (م): ((عنده)).
[36] في (م): ((من)).
[37] في (ص): ((قوله)).
[38] في (ص): ((فكل)).
[39] في (ق): ((والتمس)).
[40] زاد في (م) و(ق): ((قال الراجز: لاث به الآشاء والعبري يريد لائث)).
[41] في (ق): ((على بعض)).
[42] في (م): ((أدار بعضًا))، و في (ق): ((أدار بعضها)).