شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل التأذين

          ░4▒ باب: فَضْلِ التَّأْذِينِ.
          فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: قَالَ النبي صلعم: (إِذَا نُودِيَ بالصَّلاةِ(1) أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضَي النِّدَاء أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قُضَي التَّثْوِيب أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يصلَّي(2) الرَّجُلُ لا يَدْرِي كَمْ صَلَّى). [خ¦608]
          في هذا الحديث عظم فضل الأذان، وأنَّ(3) الشيطان ينافرُه ما لا ينافر سائر الذِّكر، ألا ترى أنَّه يُقبل عند قراءة القرآن ويُدبر عند الأذان، وقد رُوي عن عُمَر بن الخطاب أنَّه قال: إذا تغوَّلت لكم الغيلان فأذِّنوا. وحكى مالك أنَّ زيد بن أسلم استعمل على معدن من معادن بني سُلَيم كان يقطع(4) عملُه لما يتخيل فيه من الجنِّ، فأمرهم زيد أن يُؤذِّنوا(5)، ففعلوا ذلك فما تخيل لهم(6) بعد ذلك جنٌّ، قال مالك: وأعجبني ذلك من رأي زيد بن أسلم.
          واختلف العلماء في معنى هروبِه عند الأذان ولا يهرب من الصلاة وفيها قراءة القرآن، فقال المُهَلَّب: إنَّما ينفر(7) _والله أعلم_ من اتفاق الكل ِّعلى الإعلان بشهادة التوحيد وإقامة الشريعة(8) كما يُفعل يوم عرفة لما يراه(9) من اتفاق الكلِّ / على شهادة التوحيد لله تعالى، وتنزُّلِ الرحمة عليهم، وييأس أن يردَّهم عن ذلك(10) عمَّا أعلنوا به من ذلك، وأيقن بالخيبة مما تفضَّل الله به(11) عليهم من ثواب ذلك، ويذكر(12) معصية الله ومضادتِه أمرَه فلم يملك الحدث لما استولى عليه من الخوف.
          وقال غيرُه: إنَّما يهرب(13) عند التأذين لئلَّا يشهد لابن آدم بشهادة التوحيد لقول النبي ◙: ((لا يسمع مدى صوت المؤذن من(14) جن ِّولا إنس(15) ولا شيءٍ إلا شهد له يوم القيامة))، وليس قول من قال: إنَّما ينفر من الأذان لأنَّه دعا إلى الصلاة التي فيها السجود الذي أباهُ بشيءٍ؛ لأنَّه قد أخبر ◙، أنَّه إذا قضى التثويب أقبل يُذَكِّرُه ما لم يَذْكُرْ، يخلط عليه صلاتَه، وقد كان(16) فراره من الصلاة التي فيها السجود أولى لو كان كما زعموه(17). وروى ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال النبيُّ صلعم: ((إذا نادى المؤذن بالأذان هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء، وهي ثلاثون ميلًا من المدينة))، وذكر ابن سفيان(18)، عن سعيد بن المسيَّب، قال: بلغنا أنَّه من خرج من المسجد بين الأذان والإقامة أنَّه سيُصاب بمصيبة. وذكر عن أبي هريرة أنَّه كان في مسجد(19) فأذَّن المؤذن فخرج رجل، فقال أبو هريرة: ((أما هذا فقد عصى الله ورسولَه، أمرنا رسول الله صلعم إذا سمعنا الأذان ألَّا نخرج حتَّى نصلِّي))، ويُحتمل أن يكون معنى هذا النهي _والله أعلم_ لئلَّا يُشبِه فعل الشيطان في هروبِه عند سماع(20) النداء. وقال الطبريُّ: قولُه: (إذا ثُوبَّ بالصلاة)، يعني صرخ بالإقامة مرة بعد مرة(21)، ورجع، وكلُّ مردِّدٍ صوتًا فهو مثوِّب، ولذلك قيل للمرجِّع صوتَه بالأذان بقولِه: (الصلاة خير من النوم)، مُثوِّبٌ وأصلُه من ثاب إلى الشيء إذا رجع إليه(22)، ومنه قولُه تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وأمنًا(23)}[البقرة:125]، يعني: أنَّهم إذا انصرفوا عنه رجعوا إليه. وجمهور العلماء على أنَّ الإقامة للصلاة سنَّة، ولا خلاف بينهم أنَّ قول المؤذِّن في نداء الصبح (الصلاة خير من النوم)، يُقال له: تثويب، روى(24) هشيم عن ابن عون عن محمَّد بن سيرين عن أنس قال: ما كان التثويب إلَّا في نداء الصبح(25) إذا قال المؤذِّن: حيَّ على الفلاح قال: الصلاة خيرٌ من النوم. وقال ابن الأنباريِّ: إنما سمَّى(26) (الصلاة خير من النوم) تثويبًا لأنَّه دعاء ثانٍ إلى الصلاة وذلك أنَّه لما قال: حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، وكان هذا دعاء ثمَّ عاد فقال: الصلاة خير من النوم، فدعا(27) إليها مرَّة أخرى. وقال الخطابي(28): الأصل في التثويب أنَّ الرجل إذا جاء فزعًا أو مستصرخًا لوَّح بثوبِه، فكان ذلك كالدعاء والإيذان، ثمُّ كثر ذلك حتَّى كان(29) الدعاء تثويبًا، قال ذو الرمَّة:
وإن ثوَّب الداعي بها يا آل خِنْدِفِ
          والعامة لا تعرف التثويب في الأذان إلَّا قول المؤذن في الفجر (الصلاة خير من النوم)، وإنما سمي بذلك لأن المؤذن يرجع إليه مرة بعد أخرى(30)، ويقال(31): ثابَتْ إلى المريض نفسُه: رجعت إليه قوَّتُه، وثاب إلى المرء عقلُه، ومنه اشتُقَّ الثواب وتأويلُه: ما يثوب(32) إليك من فضل الله تعالى في جزاء الأعمال الصالحة، ومنه(33) سُمِّيت المرأة ثيِّبًا، لأنها تثوب إلى أهلها من بيت زوجها.
          وقال(34) الطحاويُّ: قد(35) كرِه قوم أن يُقال في نداء الصبح: (الصلاة خير من النوم)، واحتجّوا بحديث(36) عبد الله بن زيد في صفة الأذان(37)، وخالفهم جمهور العلماء(38)، واحتجوا بما رواه ابن جُريج قال: أخبرني عثمان بن السائب، عن أمِّ عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبي محذورة: ((أنَّ النبي صلعم علَّمَه في نداء الصبح: الصلاة خير من النوم مرَّتين))، ورواه أبو بكر بن عياش عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي محذورة مثلُه، وقد قال ابن عمر وأنس(39): إنَّه كان التثويب في نداء الصبح الصلاة خير من النوم مرَّتين بعد قولِه: حي على الفلاح.
          قال المُهَلَّب: وقولُه: (اذكر كذا لِمَا لم يكن يذكر) ليُسهيَه عن صلاته. فيه من الفقه: أنَّ من نسي شيئًا(40) وأراد أن يتذكَّره فليصلِّ وليجهد(41) نفسَه فيها من تخليص الوسوسة وأمور الدنيا، فإنَّ(42) الشيطان لابدَّ أن يُحاول تسهيتَه وإذكارَه أمور دنياه ليصدَّه عن إخلاص دينِه(43) نيَّتِه في صلاته(44). وقد رُوي عن أبي حنيفة: أنَّ رجلًا دفن مالًا(45)، ثمَّ غاب عنه سنين كثيرة، ثمَّ قدم فطلبَه فلم يهتد لمكانِه، / فقصد أبا حنيفة تبركًا برأيه ورغبة في فضل دعائه(46) فأعلمَه بما دار له فقال له: صلِّ في جوف الليل وأخلص نيتك لله تعالى، ولا تجد(47) على قلبك شيئًا من أمور الدنيا، وعرفني(48) بأمرك، ففعل فذكر في الصلاة مكان المال، فلمَّا أصبح أتى أبا حنيفة فأعلمَه بذلك، فقال له(49) بعض جلسائِه: من(50) أين دلَلْتَه على هذا(51)؟ فقال: استدللتُ من هذا الحديث وعلمتُ أنَّ الشيطان سيرضى أن يصالحه بأن يذكره(52) بموضع ماله ليمنعه(53) الإخلاص في صلاتِه، فعجب الناس من حسن انتزاعِه واستدلالِه.


[1] في (ص): ((للصلاة)).
[2] في (ق): ((يظل)).
[3] في (ق): ((فإن)).
[4] في (ق): ((انقطع)).
[5] زاد في (ق): ((فيه)).
[6] في (ق): ((إليهم)).
[7] في (ص): ((يهرب)).
[8] قوله: ((وإقامة الشريعة)) ليس في (م)، وهي مثبتة من (ق).
[9] في (ص): ((يرى)).
[10] قوله: ((عن ذلك)) ليس في (ق) و(ص).
[11] قوله: ((به)) ليس في (ق) و(ص).
[12] في (ق): ((وتذكر)).
[13] في (ص): ((ينفر)).
[14] قوله: ((من)) ليس في (ق).
[15] في (ق): ((إنس ولا جن)).
[16] في (ق) و(ص): ((و كان)).
[17] في (ق) و(ص): ((زعموا)).
[18] في (ق): ((شعبان)).
[19] في (ص): ((المسجد)).
[20] في (ص): ((لئلا يسمع)).
[21] زاد في (ص): ((أخرى)).
[22] في (ص): ((وأصله من ثاب يثوب إذا رجع إليه)).
[23] قوله: ((وأمنًا)) ليس في (ق) و(ص).
[24] في (ص): ((وروى)).
[25] في (ص): ((إلا في صلاة الغداة)).
[26] قوله: ((سمى)) ليس في (م)، و هي مثبتة من (ق).
[27] في (ق) و(ص): ((دعا)).
[28] في (ص): ((الطحاوي)).
[29] في (ق): ((صار)), في (ص): ((سمي)).
[30] قوله: ((والعامة لا تعرف التثويب في الأذان إلَّا قول المؤذن في الفجر (الصلاة خير من النوم)، وإنما سمي بذلك؛ لأن المؤذن يرجع إليه مرة بعد أخرى)) ليس في (م)، و هي مثبتة من (ق).
[31] في (ق) و(ص): ((يقال)).
[32] في (ص): ((يؤول)).
[33] في (ق): ((وبه)).
[34] في (ص): ((قال)) بدون واو.
[35] في (ص): ((وقد)).
[36] في (م): ((في حديث))، و المثبت من (ق).
[37] زاد في (ق) و(ص): ((وليس فيه ذلك)).
[38] في (ص): ((الفقهاء)), زاد في (ق) و(ص): ((فاستحبوا ذلك)).
[39] في (ص): ((أنس وابن عمر)).
[40] قوله: ((شيئًا)) ليس في (م)، وهي مثبتة من (ق).
[41] في (ق) و(ص): ((ويجهد)).
[42] في (ق): ((وأن)).
[43] قوله: ((دينه)) ليس في (ق) و(ص).
[44] في (ص): ((الصلاة)).
[45] زاد في (ق): ((له)).
[46] قوله: ((تبركًا برأيه ورغبة في فضل دعائه)) ليس في (ص).
[47] في (ق): ((تجري)).
[48] في (ص): ((ثم عرفني)).
[49] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[50] قوله: ((من)) ليس في (ق).
[51] زاد في (ص): ((يرحمك الله)).
[52] في (ص): ((سيرضى أن يذكره)).
[53] في (ص): ((ويمنعه)).