شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القراءة في المغرب

          ░98▒ باب: الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ.
          فيه: ابْن عَبَّاسٍ: (إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ يَقْرَأُ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا}(1)[المرسلات:1]، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا(2) لآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ(3) رَسُولِ اللهِ صلعم يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ). [خ¦763]
          وفيه: مَرْوَان بْن الْحَكَمِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ له: (مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ المفصل، وَقَدْ سَمِعْتُ النبي صلعم يَقْرَأُ فيها(4) بِطُولَ الطُّولَيَيْنِ). [خ¦764]
          وترجم له(5): باب الجهر في المغرب.
          فيه: جُبَيْر بْن مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ(6)، قَالَ: (سَمِعْتُ النبيَّ صلعم يقَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ(7)). [خ¦765]
          قال الطحاويُّ: ذهب قوم إلى الأخذ(8) بحديث أمِّ الفضل وجبير بن مطعم وزيد بن ثابت وقلَّدوها(9)، وخالفهم في ذلك آخرون وقالوا: لا ينبغي أن يقرأ في المغرب إلا بقصار المفصل، وقالوا: قد يجوز أن يكون يريد بقولِه: قرأ بالطور، قرأ ببعضها(10) وذلك جائز في اللغة، يُقال: فلان يقرأ(11) إذا قرأ بشيء(12) منه.
          والدليل على صحة ذلك ما روى هشيم عن الزهريِّ عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قدمت على النبيِّ صلعم لأكلِّمَه(13) في أسارى بدر فانتهيت إليه، وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعتُه يقول(14): {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ. مَا لَهُ مِن دَافِعٍ(15)}[الطور:7-8]، فكأنما صدع قلبي.
          فبيَّن هشيم القصة على وجهها، وأخبر أنَّ الذي سمعَه قوله(16) {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}[الطور:7]لا أنه سمع الطور كلَّها، وكذلك قول زيد بن ثابت لمروان: لقد سمعتُ رسول الله صلعم يقرأ(17) بطول الطوليين، يجوز أن يكون صلعم قرأ ببعضها، والدليل على ذلك ما رواه حماد عن أبي الزبير، عن جابر أنَّهم كانوا يُصلُّون المغرب ثمَّ ينتضلون.
          وروى حماد عن ثابت عن أنس قال: ((كنا نصلي المغرب مع النبي صلعم، ثم يرمي أحدنا فيرى مواقع نبلِه(18)))، فلما كان هذا وقت انصراف رسول الله صلعم من صلاة المغرب استحال أن يكون ذلك، وقد قرأ فيها الأعراف أو نصفها(19). / %
          قال المؤلف: وقد جاء هذا بيِّنًا في حديث عائشة أن النبي صلعم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف فَرَّقَهَا في ركعتين، خرَّجَه(20) النسائيُّ من حديث شعيب(21) بن أبي حمزة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
          قال الطحاويُّ: وقد أنكر النبي صلعم على معاذ بن جبل(22) حين صلَّى العشاء بالبقرة وقال له: ((أفتَّان أنت؟!، اقرأ بسورة والليل إذا يغشى، والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، والشمس وضحاها))، وكرِه له أن يقرأ في العشاء مع سعة وقتها، فصلاة المغرب مع ضيق وقتها أحرى بذلك.
          فإن قال قائل: فهل رُوي عنه صلعم أنه قرأ في المغرب بقصار المفصل؟ قيل: نعم، روى ابن أبي شيبة عن زيد بن الحُبَاب قال: حدثنا الضحاك بن عثمان قال: حدثنا(23) بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله صلعم يقرأ في المغرب بقصار المفصل)). وروى الشَّعبيُّ عن ابن عمر: أنَّ النبيَّ صلعم قرأ في المغرب بالتين والزيتون، فهذا أبو هريرة يخبر عن النبيِّ صلعم أنه كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل، فلو(24) حملنا حديث جبير، وزيد بن ثابت على ما حملَه المخالف لتضادَّت تلك الآثار(25) وحديث أبي هريرة هذا، وإن حملناه على ما ذكرنا ائتلفتْ، وأولى أن نحمل الآثار على الاتفاق لا على التضادِّ، فينبغي على هذا(26) أن يقرأ في المغرب بقصار المفصل(27) وهو قول مالك والكوفيين والشافعيِّ وجمهور العلماء.
          وأما طولى الطوليين، فإنَّ العلماء قالوا: هي سورة الأعراف، ذكر ذلك النسائيُّ في حديث زيد بن ثابت من رواية ابن وهب، ومن رواية ابن جُريج. وقال أبو سليمان الخطابيُّ: طولى تأنيث أطول، والطوليين تثنية الطولى يريد أنه كان يقرأ فيها بأطول السورتين يعني الأنعام والأعراف.
          قال غيره: فإن قيل: هي البقرة لأنها أطول السبع الطوال(28)، قيل: لو أراد البقرة لقال: بطول(29) الطول، فلمَّا لم يقل ذلك دلَّ أنه أراد الأعراف، وهي أطول السور بعد البقرة، ويُحتمل أن يكون قرأها في الركعتين من المغرب؛ لأنه لم يذكر أنه قرأ معها غيرها(30).
          وفي حديث جبير من الفقه: أن شهادة المشرك بعد إسلامِه مقبولة فيما علمَه قبل إسلامِه لأن جبيرًا كان يوم سمع النبي صلعم مشركًا، قدم في أسارى بدر.


[1] قوله: ((عرفًا)) ليس في (ق).
[2] في (ق): ((لأنها)).
[3] قوله: ((من)) ليس في (م).
[4] قوله: ((فيها)) ليس في (ق) و(م).
[5] قوله: ((له)) ليس في (ق).
[6] قوله: ((عن أبيه)) ليس في (ق) وهو الصواب لأنه في البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه.
[7] في(م) و(ق): ((يقرأ بالطور في المغرب)).
[8] في(م): ((ذهب إلى أن الأخذ)).
[9] قوله: ((وقلدوها)) ليس في (ق).
[10] في(م): ((بقوله: قرأ بالطور ببعضها)).
[11] زاد في(م): ((القرآن)).
[12] في (ص): ((شيئًا)).
[13] قوله: ((لأكلمه)) ليس في (ق).
[14] في(م) و(ق): ((يقرأ)).
[15] قوله: ((ماله من دافع)) ليس في (م) و(ق).
[16] زاد في(م): ((يقرأ قوله)).
[17] زاد في(م) و(ق): ((فيها)).
[18] في (ق): ((ثم يرى أحدنا مواقع نبله)).
[19] في(م) و(ق): ((الأعراف كلها)).
[20] في(م): ((ذكره))، و في (ق): ((ذكر)).
[21] في(م): ((سعيد)).
[22] قوله: ((بن جبل)) ليس في (م) و(ق) و(د).
[23] في (ق): ((حدثني)).
[24] في(م): ((فإن)).
[25] في(م): ((الأخبار)) في الموضعين.
[26] في(م): ((ذلك)).
[27] قوله: ((فلو حملنا حديث جبير، وزيد بن ثابت....أن يقرأ في المغرب بقصار المفصل)) ليس في (ق).
[28] في(م): ((الطول)).
[29] في(ق): ((بطولى)).
[30] قوله: ((ويُحتمل أن يكون قرأها في الركعتين من المغرب لأنه لم يذكر أنه قرأ معها غيرها)) ليس في (م) و(ق).