شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الدعاء في الركوع

          ░123▒ باب: الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ.
          فيه: عَائِشَة قَالَتْ: (كَانَ النبيُّ صلعم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدَ(1)، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي). [خ¦794]
          وترجم له: باب التسبيح والدعاء في السجود، وزاد فيه(2) بعد قولِه: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي)، (يتأوَّلُ القُرْآن)(3).
          قال الطحاويُّ: اختلف العلماء فيما يدعو به الرجل في ركوعِه وسجودِه، فقالت طائفة: لا بأس أن يدعو الرجل في ذلك بما أحبَّ، وليس عندهم في ذلك شيءٌ موقَّتٌ(4)، قالوا: وقد رُويت آثار كثيرة عن النبي صلعم أنه كان يدعو بها.
          منها: حديث موسى بن عقبة عن عبدالله بن الفضل عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن عليِّ بن أبي طالب قال: كان رسول الله صلعم يقول في ركوعِه: ((اللَّهُمَّ لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وأنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي(5) لله ربِّ العالمين))، ويقول في سجودِه: ((اللَّهُمَّ لك سجدت، ولك أسلمت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقَه وشقَّ(6) سمعَه وبصرَه، تبارك الله أحسن الخالقين)). ومنها: حديث يحيى بن سعيد عن عَمْرة عن عائشة قالت: ((فقدت النبيَّ صلعم ذات ليلة، فظننت أنَّه أتى جاريتَه، فالتمستُه فوقعتْ يدي على صدور قدميه وهو ساجد، وهو يقول: اللَّهُمَّ إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك(7)، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)).
          إلا أنَّ مالكًا كرِه الدعاء في الركوع، ولم يكرَه(8) في السجود، واقتصر في الركوع على تعظيم الله ╡، والثناء عليه، وأظنُّه ذهب إلى حديث عليِّ ☺ أن النبيِّ صلعم، قال: ((أما الركوع فعظِّموا فيه الربَّ وأمَّا السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء(9)))، فجعل في هذا الحديث الركوع لتعظيم الله ╡(10)، وإن كانت قراءة القرآن أفضل من ذكر التعظيم، فكذلك ينبغي(11) أن يكون في كلِّ موضع ما جُعل فيه، وإن كان غيرُه أشرف منه. ويؤيد هذا المعنى ما روى الأعمش عن النَّخَعِي قال: كان يُقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء.
          وروى ابن عيينة عن منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحويرث(12)، قال: ((يقول الله ╡: إذا شغل عبدي ثناؤُه عليَّ عن مسالتي أعطيتُه أفضل / ما أعطي السائلين))، فلهذه الآثار كرِه مالك الدعاء في الركوع، واستحبَّه في السجود، والله أعلم.
          وقال أهل المقالة الأولى: تعظيم الربِّ والثناءُ عليه(13) عند العرب دعاء، قالَه ابن شهاب وهو حجَّة في اللغة، وقد ثبت في حديث عائشة المذكور في هذا الباب الدعاء في الركوع والسجود فلا معنى لمخالفة ذلك. وقالت طائفة: ينبغي له أن يقول في ركوعِه: سبحان(14) ربي العظيم ثلاثًا، وفي سجودِه: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا، واحتجوا بما رواه موسى بن أيوب عن عمِّه إياس بن عامر عن عقبة بن عامر الجُهَنِي قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:74]، قال النبي صلعم: ((اجعلوها في ركوعكم))، ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}[الواقعة:96]، قال النبي صلعم: ((اجعلوها في سجودكم)).
          وروى(15) مرَّةً إياس بن عامر، عن عليِّ بن أبي طالب، وذكر(16) مثلَه، هذا قول الكوفيين والأوزاعيِّ والشافعيِّ وأبي ثور، إلَّا أنَّهم لم يوجبوا ذلك، وقالوا: من ترك التسبيح في الركوع والسجود فصلاتُه تامَّة، وقال إسحاق وأهل الظاهر: إن ترك ذلك عليه الإعادة، وقال: حديث عقبة ورد مورد البيان فوجب امتثالُه. قيل لهم: البيان إنَّما يرد(17) في المجمل، والركوع والسجود مفسَّر فلا يفتقر إلى بيان(18)، فحمل حديث عقبة على الاستحباب بدليل(19) تعليمِه الأعرابي الصلاةَ(20) وليس التسبيحُ منها، ولو(21) وجب في الركوع والسجود ذكرٌ معين لا تُجزئ الصلاة دونَه(22) لبيَّن ذلك صلعم لأمتِه؛ لأنَّه قد بيَّن لهم فروض(23) الصلاة وسننها(24)، ولأخبرهم أنَّ ما كان رُوي(25) عنه صلعم من ضروب الدعاء والذكر في الركوع منسوخ بحديث عقبة، فلمَّا لم يثبت ذلك سقط قول أهل الظاهر وقول من شرط في ذلك ذكرًا معينًا أيضًا.
          قال ابن القصَّار: لو(26) قال: سبحان ربي الجليل، أو الكبير، أو القدير لكان معظِّمًا له، وإذا ثبت أنَّ نفس التسبيح ليس بواجب، فتعيينُه والعدول عنه إلى ما في معناه جائز.
          وقوله: (يَتَأوَّلُ القُرْآنَ)، يعني: يتأوَّل قولَه تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]، حين أعلمَه الله تعالى بانقضاء أجلِه. وقال الخطابيُّ: أخبرني الحسن بن خلَّاد قال: سألت الزجاج عن قولِه: سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، والعلَّة في ظهور الواو؟ قال(27): سألت عنه المبرِّد فقال: سألت عنه المازنيَّ، فقال: المعنى: سبحانك اللَّهُمَّ(28) بجميع آلائك، وبحمدك سبَّحتك، وقال(29): ومعنى سبحانك: سبَّحتك سبَّحتك(30)، وسبحان الله معناه: سبَّحت الله ونزَّهتُه عن كلِّ عيب، ونصبُه(31) على المصدر.


[1] في (م) و(ق): ((سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك))، وفي (ص): ((سبحانك اللَّهُمَّ ربنا وبحمدك)).
[2] قوله ((فيه)) ليس في (ق).
[3] زاد في (ص): ((به)).
[4] في (م) صورتها: ((يوقت)).
[5] قوله: ((وعصبي)) ليس في (م).
[6] في (ق): ((وشقه)).
[7] في (م) و(ق): ((عقابك)).
[8] في (م) و(ق) و(ص): ((يكرهه)).
[9] في (ق): ((بالدعاء)).
[10] في (م) و(ق): ((للتعظيم لله)).
[11] في (م) و(ق): ((يجب)).
[12] في (م) و(ق): ((الحارث)).
[13] زاد في (ق): ((╡)).
[14] في (م): ((سبحانك)).
[15] في (م) و(ق): ((ورواه)).
[16] في (م): ((فذكر)).
[17] في (ص): ((ورد)).
[18] في (ق): ((البيان)).
[19] في (ص): ((فذلك)).
[20] في (ص): ((بالصلاة)).
[21] في (ص): ((فلو)).
[22] في (ق): ((بدونه)).
[23] في (م): ((فرض)).
[24] في (م): ((وسنتها)).
[25] في (م): ((أن كل ما روي)).
[26] في (م) و(ق): ((ولو [في (ق): ((لو)).] قال المصلي)).
[27] في (م) و(ق): ((فقال)).
[28] في (م): ((سبحانك الله))، و في (ق): ((سبحتك الله)).
[29] في (ق): ((قال)) وفي (ص): ((سبحانك قال)).
[30] قوله ((سبحتك)) الثانية ليس في (م) و(ق) و(ص).
[31] في (م) و(ق): ((ونصب)).